قضايا وآراء

احتفائية شعر

تتسم الإحتفائيات الشعرية بإمكانية احتواء عوالم انتقائية، تساهم في كشف التجربة من خلال تشكيلات سردية متنوعة تستقي تفاعلاتها من الذاكرة الشعورية، وبعض القراءات الشعرية المتنوعة، التي يختارها الشاعر لخلق إمكانية تأثيرية تعمق صلة التواصل الاحتفائي، إضافة إلى حضور مفهوم الوعي النقدي لمجموعة من المداخلات، والتي ترتكز على جوهر التجربة، ولابد أن تكون لاحتفائية الشاعر العراقي (محمد الغريب) أثرا واضحا في لملمة تواريخ الشعر الشعبي العراقي، لكونه ابن تجربة انفتحت على عدة أجيال شعرية، فامتلكت فضاءات متنوعة تسمو عبر مديات فكرية، وتسلط الضوء على عدة أوجه من الواقع العراقي السياسي والأدبي والفكري، ولكونه شاعرا له ثقله الإبداعي الذي تمحور وهو يسمو بنداوة عشرين عاما أو أكثر من الشعر، فمن الطبيعي إن الاحتفائية المبدعة والتي أقامها اتحاد الشعراء الشعبيين في كربلاء، تقديم رئيس الاتحاد الشاعر المبدع (محمد كريم الكعبي) أرضية خصبة لاستيعاب سيرة ذاتية لا لحياة المبدع الغريب فحسب بل لحياة عدة جمعيات، ومنتديات شعرية، وسيرة حياة الشعر في أكثر من منحى مكاني وزماني. فلذلك كان المنطلق تعريفا وطنياً ابتدأه الغريب: (لي الشرف أن أكون من سكنة هذه المدينة الباهرة كربلاء ولي الشرف الانتماء لعراق القرارات)...

 

أنا عراقي

الله كلم موسى بأرضي

وأرسه سفينة نوح بأرضي

آدم صلى لربه بأرضي

هود بأرضي وشيث بأرضي

وأكرمني بستة معصومين

ومن دم حيدر ثوريتي

أرضي كف عباس ودم حسين

 

تكتنز الفضاءات مضيئة دائماً بالكثير من حيوية الشعر كمهيمن أبداعي، حين كانت جمعيات الشعر الشعبي محتكرة من ذيول السلطة، التي تسعى لحجز المهرجانات القطرية وإرضاء الطغاة سعياً للارتزاق بدم الشعر. فكانت محاربة أي صوت شعري, أي تجربة تتم عبر العلاقات الأمنية المخابراتية أو ما شابه من طرق التصفية الجسدية، وظهور مجموعة شبابية تحمل أسماء مبدعين، أمثال طالب الدراجي، حمزة الحلفي، رحيم المالكي (رحمه الله)، مزهر غيلان، جليل صبيح، جواد الحمراني، هاشم العربي، وشاعرنا الغريب لا بد أن تكون مصدر رعب لمثل هذه العصابات، ولولا وجود المبدع فالح حسون الدراجي لما تأسس المنتدى المبدع الذي سرعان ما شيد الحلم تأثراً بأسماء شعراء كبار أمثال:

 

{عزيز السماوي، شاكر السماوي، إسماعيل محمد} وليكون مودة ومحبة مع شعراء العراق الكبار أمثال {عريان السيد خلف، وكاظم إسماعيل كاطع} وهذه هي ميزة الشعر...

 

تجارب مختلفة تنوع منجزها، ليمنح العالم المفهوم الحداثوي لمشروع احتضن تجربة محمد الغريب حيث تفرد في الصوت، وطريقة التفكير. وكل تجربة هي لون لذاته وتهيؤ إلى اللا مباشرة كعناوين رد ضد السلطة وذيولها، كما يتضح ذلك في قصيدة التفتيش:

 

زاير ليل دك الباب

ما كلناله أهلاً بيك

داس المستحة ودور أركان البيت

وسولف عالشرف والغيرة والنوماس

سولف على الواجب والوطن والناس

كطع صوته استعد

دك قبضة الرشاش

حاضر سيدي تحرت

ها شلكيت؟؟

بس حيطان خرسه

ناس واحدهم عدل بس ميت

لا كنتور أفتحه ولا لكيت أبواب

وغرفة بلا سقف بآخر البيت لكيت

ها شلكيت؟؟

دمعة محجرة بعيونهم صدت

وحسرة بنص صدرهم تنفجر حسيت

كالولي هلا.. بس جنه أظن لا جيت

وكالولي استريح.. وجنه لا رديت

وحاضر سيدي تحرت

بس اعذرني فتش هذا آخر بيت

 

تعامل الشاعر محمد الغريب مع الشعر باختزال الواقع المعاش، بوصف هذا الواقع مكون شعري عام ومؤشر شعوري، وهو أحد الشعراء الذين سعوا لبعث الشعورية ضمن أساليب وتقنينات حديثة، نقل من خلالها تأثيرات الحرب بعمق وجداني، فاستثمر موضوعاتها، ليؤثث عوالم متفردة به بما امتلك من طاقات إبداعية. لقد فرش (الغريب) خارطة الحرب الزمانية على منضدة الاحتفائية ليؤكد أن الحرب أكبر من عمره، ولم تزل منذ حرب الشمال مروراً بحرب 73 التي شهدت جرح أبيه في الجولان و.. و.. و.. نقل الغريب حكمة جدته بجملة مختصرة ليكشف عن حجم معاناة هذا العراق (محرب من الكماط) فما أن لبس أول قميص شبابي سمع صفارات الإنذار، وألف أحلام الحب والحرب، وتوابيت الشهداء والثياب السود فاكتظت قصائده بمواعيد زواج عمرتها الحروب، وانتظار الحرب، الموت، الزواج، لكي تلد الحبيبات شهداء أو تقع منكوبة أمام مواعيد مؤجلة، لما بعد الحرب. تجربة امتلكت خيالاً تجسد في عشرات الصور من واقع نسجته الحروب حتى أصبح المعنى السردي يشكل بناء فنيا بحد ذاته، إضافة إلى باقي العناوين الفنية الأخرى... نصوص ملحمية أراد من خلالها أن يقول: إن هم الناس همي وجرح هذا الوطن جرحي... امرأة تحمد الله لأن زوجة ابنها الجريح ولدت بنتاً كي لا تعيد حكاية الأب الشهيد:

وأتعكز عالصبر كل حيل مابية

والحمد لله والشكر من طلعت ابنية

 

طراوة الشعر حين تلد تحت مكونات غضة وناعمة ولينة في زمن (الحزن، الحرب، الموت) لترتفع عند هذه التجربة ظاهرة المعنى داخل السياق الشعري، قد يؤول هذا التشخيص بأشياء أخرى داخلا الأطر النقدية. لكننا نعني حيوية التلقي العام دون اللجوء إلى المباشرة الميتة ودون أن يخلق الرتابة عند المتلقي. وهذا ما أراه اكتمالا فنيا في تصاميم النصوص الملحمية، مما يؤكد أن محمد الغريب قد درس المسرح أو اشتغل به أو عشقه ليوظف به امتدادات التشكيل الفني، داخل لوحاته الشعرية. ومقطع من قصيدة زينب (ع) تكشف عن هذا الوضوح الفني الذي لا يعني لدينا إلا سطوعاً:

من حطت أيديهه بظهر أبو السجاد وتعاين عالسمه والصوت يتهجد

اللهم تقبل منا هالقربان واحنه آل محمد يا إله اشهد

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم