قضايا وآراء

صور البطولة في شعر المقاومة (3)

طائفة أخرى الى جوارهؤلاء، عملها كبح جماحهم، وهذه الطائفة هي التي أطلق عليها اسم المبدعون والكتاب ... الكاتب الفرنسي المعاصر جوليان بندا من كتابه خيانة الكتاب

 

نموذج فرنسا

 على الشعوب الأوروبية ألا تخطأ في تحديد أولوياتها ومعرفة عدوها الاول والأخير: هتلر والنازية الجنرال دوغول

لقد كانت المقاومة الفرنسية والروسية - في التاريخ الحضاري الانساني القريب - من أروع صورالكفاح الانساني في مواجهة بطش النازية، اذ اشترك في المقاومة الفرنسية وحدها ما يقرب من نصف مليون نسمة من أبناء الشعب الفرنسي من غير العسكريين، ضمت كل الاتجاهات والأطياف السياسية - وما أكثرها آنذاك في فرنسا معقل الثقافة الأوربية - اذ استطاع الجنرال دوغول-الرجل لتقليدي والأرستقراطي النزعة والمحافظ المسيحي والمؤرح الأكاديمي، -قبل أن يكون القائدالعسكري أوزعيم المقتاومة الشعبية الفرنسية، أن يوحد ما بين غلاة اليمين وغلاة اليساروغلاة الفوضوين الأنارشيين واللامنتمين، والمتمردين والمهمشين...، حيث ترك هؤلاء كل خلافاتهم وراء ظهورهم، عندما أزفت الساعة الكبرى – ويالهولها في تلك الفترة من تاريخ الفكرالأوروبي– والتفوا كلهم وراء الزعيم دوغول اليميني المسيحي المناوئ لليسارالأوروبي، وللشيوعية، والنازية والفاشية في آن واحد، الان أن النازية كانت أولى أولوياته، مثله في ذلك مثل تشرشل، وروزفلت

 

ثقافة المقاومة في زمن القهر

 واذا كان الشعرهو فن المقاومة كما قال مالرو أي أنه اكثر الأنواع الأدبية قدرة على امتصاص انفعال صدمة كوارث هجمات الأعداء ومقاومتها في حينها، فان شعرالمقاومة الفرنسية ضد النازية ابان الحرب الكبرى الثانية، ليحتل المكانة الأسمى في مقدمة القوائم التي تسجل دورالشعرفي المعارك الوطنية ضد النازية

 

 والملفت للنظرهوالمشاركة العسكرية الفعلية للمثقفين في صفوف القوات الشعبية، بالرغم من أن مكان المثقف عادة هو في التنظير السياسي والخطابة والنظم والكتابة، وبين سراديب الجرائد والمطابع السرية، بسبب احكام القبضة البوليسية ومراقبتها سواء من حكومة فيشي العميلة أو من الألمان، فكان أن وجد الشعراء-من بين المثقفين الفرنسيين جميعا- ان يقولوا شعرا ما لم يستطعه كتاب الروايات والقصص والنقد والمسرحيات والمنظرين والمفكرين والمتفلسفين- أن فنهم هو الوسيلة الوحيدة والتعبيرالوحيد القادرعلى الهروب من سطوة الرقابة المحكمة، فوصلت قصائدهم القصيرة الى آذان الناس وقلوبهم، منتقلة من فم الى فم تحمل حرارة الانفعال المتوهج بالمعركة ضد العدو النازي، حيث لم يكن الاستظهار وحده هو وسيلة نقل الشعر بل تفننوا فى نسج ابيات من قصائد المقاومة على سجاجيد الاوبسيون الفرنسي المعروفة بجماليتها وخصوصيتها الفرنسية

 

لوي أراغون1817-1982

 لا تهمنا في هذه العجالة بيبليوغرافيا الشاعر- وهو ليس مجالنا هنا- فهو من الثراء والتنوع، حيث وصفه الأكاديمي والكاتب الفرنسي الكبير جون دورموسون مؤخرا، بأنه من أكبر شعراء القرن الماضي الذين عرفتهم فرنسا، فهووريث بول فاليري، وهيغو، وشاتوبريان ومزيج من بيكاسو وشارلي شابلن و أنشتين، فكان الممثل الحي لعصره ومترجماعنه ومؤثرا فيه، حيث أسس مع أندرى بروتون وفيليب سوبولي saupaulet المدرسة السوريالية بعد ان مربتجربة الداندية، ومع ذلك فلم يكن شاعر المقاومة الأكبرالوحيد في فرنسا، فالى جانبه هناك: بيير جان كاسو، وهنري ميشو، ولوي ما سو، وبييرأمانويل، وباتريس دو لا تور، مع اقتصاري على الأسماء المعروفة اعلاميا في العالم العربي اكثر من الباقين

 

خصائص شعرالمقاومة الفرنسي

 ان ظاهرة شعر المقاومة في فرنسا، ظاهرة شعرية متميزة في الثقافة الأوربية، فبينما نجد ان شعراء المقاومة في انجلترا وأمريكا مثلا قد انخرطوا في سلك الجندية، وكتبوا عن الصراع بالنسبة الى أنفسهم، فقد ظلوا في الحرب كما ظلوا في السلم يحملون نبضاتهم الروحية.. اما شعراء المقاومة الفرنسيين مثل اراغون وصحبه، فقد تكلمواعن وطنهم المقهوروالمغلوب - والمنهزم شرهزيمة أمام هجمة النازية عام 1942-بالانفعالات السائدة في زمن الحرب والقهر، بتلك الانفعالات المستشعرة على نمط جمعي من أول الصدمة العنيفة اثرالهزيمة النكراء، حتى الفرحة العارمة التي عمت الشعب الفرنسي بتحرير باريس كما سنرى من خلال بعض النصوص..، وبذا تفوق الشعراء الفرنسيين على شعراء بريطانيا وأمريكا الذين كانوا يخوضون الحرب بالزي الرسمي، بحيث كان هؤلاء يشعرون وكان المسئولية قد انزاحت عن كواهلهم، فالحرب كانت لديهم هي حرب البلد، وهى حرب كما كانت في الماضي، وما تزال حرب القادة والجنرالات وقتال جنود، ولم تكن الحرب حربهم كشعراء أو مثقفين،

 

 أما في فرنسا فكان كل مقاوم مبدع ومثقف يقاتل تحت امرة نفسه، حتى يذعن أخيرا وبارادته الى تعليمات رفاقه، ففضلوا أن يكونوا خارجين عن القانون وارهابيين بالنسبة للنازية وحكومة فيشي، على أن يبقوا مجرد مثقفين متفرجين ومتسكعين تجريديين حيث قال أراغون يفوق الخارج عن القانون الجندي فى شجاعته لأنه يعمل لنفسه.. في وقت كانت هناك مؤامرة من كانوا ضد المقاومة من باقي المثقفين الفرنسيين من اعلاميين انهازميين ومرتعبين لايقاف الحرب بالتفاوض مع حكومة فيشى العميلة والألمان، حيث امتحن الجميع في صدق مبادئهم واخلاصهم لوطنهم فعند الشدائد تعرف معادن الناس فمنهم من آثروا القبوع في منازلهم مخلدين الي الصمت الخسيس جبنا، ومنهم من عادوا الى الكفاح لا كجنود نظاميين بل كرجال عاديين وكثوارومقاومين و ارهابيين

 

الشعرالانساني فى زمن القهر...

ليست فرنسا الجريحة الا وطني...، وليست الحرية الا حياتي أو موتي...، لأنها حياتي وطني المسلوب أو موته... لوي أراغون

 

 

 

 كانت قصائد أراغون في شعر المقاومة بمثابة التجربة الاولى فى التحايل على عيون سلطة فيشي والنازية التى تيقظت على الشعر الذي لم يكن يعد فن القول لدى الكثيرين من المثقفين الفرنسيين قبل الهجمة النازية بسبب الصراعات بين المدارس الشعرية من جهة وبين الشعر وسائر وسائل الكتابة والابداع الأخرى...، فالاهتمام كان منصبا أكثر الى الرواية والقصة والأقصوصة والمسرحية، كما أن جميع وسائل التعبيرالثقافية قد تم خنقها (حتى تأسست المطبعة السرية لرجال المقاومة) علما بأن الألمان تحت نصيحة حكومة فيشي العميلة، لم يعمدوا الى القهرالمباشر للثقافة الفرنسية كما مارسوا ذلك على تشيكوسلوفاكيا وبولندا، لأنهم يعرفون شأوالثقافةالفرنسية وعلو كعبها بالمقارنة الى باقي الثقافات الأوربية وخاصة بالنسبة الى أوربا الشرقية التي استحوذ عليها هتلر بسهولة، ولان الصراع بين الثقافتين الألمانية والفرنسية هو صراع تاريخي مستعر منذ نابليون بعدانتصاره فى بروسيا محطما الحلم القومي لبيسمرك على السيطرة علىأوربا، ولذا فقد أنيطت مهمة تحقيرالثقافة الفرنسية والتشكيك في مقدراتها ومكانتهافي نفوس الفرنسيين الى الأذناب والعملاء والأخذان كما يحدث دائما عبر التاريخ

 

 وهنا تأتي قوة الشعروميزته على كل وسائل التعبيرالأخرى، عندما اكتشف الشعراء الفرنسيون، ان مزايا الشعرهو في قوة ايحائه على اثارة العواطف، وليس في الوعظ والخطابة والتنظيروالتفلسف، رغم مشاركة قامات وعمالقة فكر في المقاومة مثل مالرو و فوكو سارتر كامو غارودي و جيد

 

 لقدعمد الشعراء الفرنسيون الى صياغة قصائد قصيرة بسيطة بعيدة عن الغموض السوريالى، وعدم الاغراق فى الرمزية، لكونهم يعرفون من يخاطبون، وكان قصر القصائد يجعلها سهلة النسخ والتداول من يد الى أخرى ومن فم الى آخر، وييسر ترسيخهافى الذاكرة، حيث امتلأت بهاالمجلات السويسرية التى كانت تنشرها بتوقيعات مستعارة، الا أن الجماهيرالمتلقية تربى لديها حس تكهن واستنسام قائليها...

 

 لقد عاشت فرنسا في تلك الفترة العصيبة للاحتلال النازى أحلك ظروفها التاريخية على المستوى القومي و الوطني، والفكرى، حيث عاد الى الأذهان ذلك الصراع التاريخي الطويل للحروب الدامية بين قوميتين متنافرتين متجسد ة فى الفترات الأخيرة فى حرب الألزاس و اللورين أيام اشعاع القومية الألمانية، وتعالى الفكر الجرمانى المتمثل فى تعالى الكتابة الألمانية، وخاصة فى مجال الفلسفة والشعر، ومع الاحتلال النازى تداعت قيمية الكلمة الفرنسية ذات الكعب العالى في فن التحبير حيث مال ضعاف النفوس من الكثير من المثقفين الفرنسيين الى محاولات اعلاء شان اللغة الألمانية متحاجين بألف حجة وحجة - كما هو الشأن دائما عند المصابين بالقزامة والغاوين للهذاءة-، فكانت مهمة أراغون المستعجلة هو أن يعيد للكلمة الفرنسية هيبتها وسطوتها فى النفوس، بعدأن مرغت فى الوحل لغة رابلى وراسين و فولتير وباسكال وبعد أن كادت الهزيمة أن تضل النفوس الضعيفة وتدنيها –من الدناءة- لكى تميل الى لغة جوته و فخته وهيغل بدل لغة مونتسكيو ولا مارتين وروسو وديدرو وهيغو فيحدث للروح الفرنسية ما حدث لبرج بابل القديم: السقوط العظيم

 

 وكما سنرى فى النموذج الحضارى الفرنسى أن ظروف مقاومة النازية حفزت أراغون وغيره من أبطال الكلمة الى الاهابة باعادة المعانى القديمة الى كلماتها... فغدا شعره دفاعا عن الروح الفرنسية و أصالتها وحماية لها من السقوط فى براثن هسترة وجنون النازيين وشمامتة العملاءوالمشككين من مرتزقة الكلمة، حيث قال في احدى قصائده المشهورة:

 ان الشمس هى الشمس

أجل... الموت هو الموت... والحب هو الحب... والوطن هو الوطن...

وليست فرنسا الجريحة الا وطني

وليست الحرية الا حياتي... أو موتي

لأنها... حياة وطني المسلوب... أو موته

 

وكتب في قصيدة أخرى مشهورة له يحيي فيها شهداء النازية

نويل... نويل!! هذا الشوق الخابي

أعاد اليكم ايها الرجال ذوو الايمان العفيف

الحب الذى يموت المرء في سبيله بصدر رحب

والمستقبل الذي يعيد الحياة الى موته

 

 لقد قدمت الحرب والبشاعة النازية للشعر الفرنسي بعدا آخرلم يعرف من قبل، بعد أن كان الشعرشديدالاغراق قبيل المقاومة في سورياليات مبهمة تصل أحيانا الى حد الابتذال، فاكتسبت أشعار أراغون- شاعر فرنسا السوريالى العتيد ورائد هذا التيارفي الشعر الفرنسي - بساطة وألفة وعمقا لم تعرفها أشعاره السوريالية السابقة، وان كانت هذه التجربة قدأغنته و أعطت أحاسيسه أبعادا لا تستطيع مجريات الحياة اليومية العادية وحدها أن تحتويها

 

 للبحث صلة

baiti@hotmail. fr

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1152 السبت 29/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم