قضايا وآراء

في علم نفس الثقافة ومخاطر بناء الديمقراطية ـ على هامش ثورات الشباب!!! / عامر صالح

من صعوبات الحاضر في بناء الديمقراطية، كأسلوب في الحكم، أو في إدارة مفاصل الحياة، أو كوسيلة لتقيم التراث ونقده وتقويمه، لأن الثقافة بتأثيراتها النفسية على السلوك لا تعبر عن السلوك الظاهر والصريح وأحيانا المفتعل منها فقط، بل تعبر عن ما هو مخزون في اللاشعور الجمعي والفردي ويشكل برمجة راسخة تغلف السلوك وأنماط التفكير. ومن هنا تأتي الفروق الجوهرية بين السلوك الظاهر والسلوك الباطن على حقيقته، ومن هنا أيضا تأتي أهمية فهم الحالات الملموسة بين الادعاء بالديمقراطية والإيمان بها وبين التجاوز عليها ووضع العراقيل أمامها، ولعلنا ندرك الكثير من الحالات التي فرضت أو سوف تفرض فيها الجماهير ممهدات الانتقال إلى الديمقراطية من خلال الإطاحة بالنظم الدكتاتورية الفاسدة كما في الانتفاضات العربية الجارية الآن، أو فرض الديمقراطية من الخارج كما في " الحالة العراقية "، والصعوبات التي تحول دون نقل نواة الديمقراطية الناشئة إلى حيز التطبيق بالفعل صوب فضاء أوسع من الممارسة السياسية والاجتماعية !!!!.

 

ومن المفارقة بمكان أن الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية أنجزت الكثير في ميدان تعميم التعليم وإشاعته بين فئات المجتمع وبمختلف مراحله، وقامت بتعميم المعلوماتية وحضارة المعرفة والانترنيت والفضائيات والعولمة ووسائل الاتصال الاجتماعي وشبكاته المختلفة، إلا أن ثقافاتها مازالت موغلة في التخلف وعاجزة عن الانجاز  وغير قادرة على تجاوز المألوف، ولكنها تستخدم منجزات الآخرين وربما تتوهم إنها الأرقى والأحسن والأشرف، فتنظيم القاعدة الإرهابي والتنظيمات الإسلامية المتطرفة والأنظمة الدكتاتورية تجيد لغة الكمبيوتر والاتصالات، وهي سباقة للاستفادة من ثمرات التقدم العلمي والتطور التقني والمعلوماتي، ولكن تستخدمها في سياقات متخلفة لتكريس الاستبداد والقمع ومحاربة الفكر الحر، كتخريب شبكات الاتصالات في العالم المتحضر والسطو المنظم والمافيوي على شبكات التواصل الاجتماعي، وتهديد الكثير من المواقع الالكترونية وسرقة البريد الالكتروني للآلاف الأشخاص  عبر سرقة كلمة السر والاطلاع على خصوصيات مالكيها، وجمع المعلومات عن الأشخاص وتجمعاتهم وسكناهم وحركتهم لأغراض تصفيتهم والتنكيل بهم، أو السعي بكل الوسائل لحيازة التكنولوجيا المتقدمة لأغراض العسكرة الشاملة للمجتمع، أو لحيازة السلاح النووي لأغراض عسكرية بعد أن يستنزف الموارد المالية للدولة وعلى خلفية تصور وجود عدو وهمي يهدد البلاد والعباد والدين. وهي سلوكيات تعكس تصورا مفاده أن الثقافة المتخلفة والتي استفاد أهلها من منجزات الثقافات المتقدمة فإنها رغم هذه الاستفادة الخادعة ما زالت محكومة بأنماط عقيمة من الأفكار والقيم والتقاليد، فاستخدام منجزات الثقافة المزدهرة لا يدل قطعا على الازدهار الثقافي في الفكر والممارسة لذات المستخدم لها خارج نطاق الشعوب المنتجة لها !!!!.

 

ومن هنا تأتي أهمية معرفة وتشخيص المكونات الثقافية التي تتحكم في المجتمعات وتؤطر تفكيرها وتحدد اهتماماتها وتوجه نشاطها وتشكل مرجعية مناسبة ومزاجا عاما لتبني مختلف الحلول على صعيد السياسة والتقدم الاجتماعي، وتشكل الديمقراطية ومستقبلها إحدى القضايا الهامة التي تتأثر بالنسيج الثقافي السائد والمتراكم عبر عصور. إن الثقافة بمعناها الانثروبولجي هي أسلوب أو طريقة الحياة التي يعيشها أي مجتمع بما تعنيه من تقاليد وعادات وأعراف وتاريخ وعقائد وقيم واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية وتعاطف أو تنافر ومواقف مكثفة من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل، أنها طريقة وأنماط سلوك ونظم ومؤسسات اجتماعية وسياسية وما يعيشه المجتمع من انفتاح أو انغلاق، فالثقافة بهذا المحتوى العلمي هي في الغالب لا تأتي قصدا من الأفراد وإنما يكتسبها الناس امتصاصا من البيئة منذ ولادتهم " أي أن  وجود الثقافة وجودا موضوعيا ومؤثرا في تشكيل وعي الناس "، وإذا اكتسبوها بالقصد فان قصدهم يكون محددا بالبرمجة من الأهل والمجتمع، فهم يتشربون ثقافة أهلهم ومجتمعهم مثلما يتشربون اللغة الأم ويحكمون على كل شيء وفق المعايير السائدة التي امتصوها امتصاصا تلقائيا، وامتزجت بعقولهم ووجدانهم، فهي، أي الثقافة، تحركهم بمخزون اللاشعور ولكنهم يتوهمون أنهم يفعلون ذلك بمحض اختيارهم وفيض إرادتهم ويجهلون أن مصدر هذه الثقة هو البرمجة الراسخة فيظلون مأخوذين بما تبرمجوا عليه ولا يخطر على بالهم أن يرتابوا فيه أو يراجعوه، ومن هنا تمايزت أوضاع المجتمعات واختلفت قدراتها وقناعاتها الحقيقية في تبني عملية التغير الاجتماعي الشامل، ومن ضمنها القناعة بالديمقراطية وانتهاج التعددية السياسية كأسلوب لإدارة الحكم والحياة !!!!!!.

 

واستنادا إلى ذلك فان مجتمعاتنا العربية والإسلامية الطامحة إلى بناء الحياة الديمقراطية، والتي تجسدها ثورات الشباب العارمة والناتجة بفعل عوامل الفقر والفاقة المستديمة، إلى جانب عوامل الانفتاح على العالم المتقدم بكل ما يحمله من ثورة تقنية ومعلوماتية، وما تحمله من دوافع إنسانية لبناء مجتمع واسع ومتسامح يسع للجميع بعيدا عن الصراعات المذهبية والعرقية والدينية والقبلية، فأن ثورات الشباب تحدث اليوم في بيئة من سلطة الهيمنة والغلبة والانحيازات القبلية والعشائرية والطائفية، وفي ظل بيئة منفلتة من كل ضوابط الفكر الفلسفي والتفكير المنطقي، وغياب روح النقد ونقد النقد وسيادة الروح اللاعقلانية غير الناقدة، والخضوع لدوغمائية الأنساق المغلقة، والخضوع لنقلية الأفكار المسبقة والمفاهيم الجامدة الناتجة أو المتولدة من تلك الأنماط المعيارية الثقيلة للغيبيات الدينية المقترنة بالخرافة، وفي بيئة تعمل على تبجيل أصنام الجمود وأوثان الثبات، ونصوص " القال والقيل " التي تحولت مع الزمن إلى نصوص مقدسة غير قابلة للنقد والتكييف للظروف المستجدة، وفي زمن تحول فيه الدين من ممارسة طبيعية تشبع حاجة الإنسان النفسية إلى السكون والهدوء والطمأنينة والتسامح، إلى فعل يقترب كثيرا في مظاهره وأدائه من الأمراض النفسية المتمثلة في العصاب والوساوس القهرية، عبر إعادة تكراره  المرضي على نسق ما يجري لمن يغتسل يوميا مئات المرات نتيجة إحساس لا شعوري دفين بالألم  والنجاسة، واتخاذه غطاء لتبرير كافة الأعمال الشريرة، من قتل وفساد وإشاعة الكراهية بين الناس في الداخل والخارج وتشديد قبضة الانتماء إلى الحليف الديني والطائفي في الخارج وأضعاف وتهميش الخطاب الوطني  !!!.

 

أن ثورات الشباب اليوم في العالم العربي والإسلامي لا تقاتل فقط  على جبهة الإطاحة بالنظم الدكتاتورية والفردية والتي تعتبر هدفها الرئيسي في المرحلة الأولى ، بل يجب عليها أن تحمي الثورة من الانحراف، وتنجز مشوارها في البناء والتأسيس لثقافة التسامح، عبر إبعاد شبح التطرف الديني والفكري، ومن خلال وضع اللبنات الأولى لإشاعة ثقافة بديلة لثقافة وفكر المجتمعات القروسطية المتخلفة، ومن هنا تأتي أهمية الحيطة والحذر والوعي الكامل من اختراق الثورات الشبابية من قبل قوى التطرف الديني والفكري والسياسي، مستغلة هذه القوى خطابات التجييش، وهي خطابات اللحظة الآنية التي تعزف على انفعالات الجماهير مستغلة حشودها في المكان والزمان المناسب لها، بعيدا عن أي استبصار للمستقبل، ولكي يعيدوا من جديد إعادة توليد أنماط من الحروب الأهلية الداخلية والحروب الإقليمية، وتفتيت وتشظية المجتمعات العربية والإسلامية إلى مذاهب وطوائف متنابذة مبنية على الكراهية والحقد وتتقاتل على أتفه التفاصيل، وتقطع هذه المجتمعات صلتها بالعالم الخارجي لتعيد إنتاج ثقافة القرون الوسطى من جديد وتكون هذه المرة بدون رجعة !!!!.

 

أن ثورات الشباب التي تحمل في طياتها كل العطاء الإنساني والحضاري يجب أن تكون شبابية في أهدافها وفي رؤيتها للمستقبل، ويجب أن تكون هذه الثورات خالية المكان لمن يرى الأوهام هي الحقائق المطلقة والوحيدة على الأرض، ولا مكان لمن يرى أن الماضي بتركته الثقيلة هو أفضل بكثير من الحاضر ولا قيمة للتخطيط والإعداد والنهوض بالمستقبل، ولا مكان لمن يصادر حرية الآخرين في النقاش والاجتهاد وتنوع الآراء بواجهات مختلفة كما تفعله الأنظمة الاستبدادية، ولا مكان لمن يحصر الإنسان في دائرة الإحساس الدائم بالذنب وتعطيل قدراته الذاتية ووضعه في حالة الإحباط والفشل المستديم والاستخفاف بقدراته على إصلاح الحاضر. أن ثورة الشباب هي ليست فقط ثورة سياسية على نظم مستبدة فقط، بل هي أولا وأخيرا ثورة ثقافية وذات دلالات نفسية عظيمة تنقل الإنسان من حالة الإحباط والقنوط إلى حالة تعزيز الإنسان الفرد ثقته بنفسه وتقديره لذاته كما ينبغي، وإطلاق قدراته في مختلف مجالات الحياة لبناء مجتمع العدالة والديمقراطية والتقدم العلمي والتقني والعيش بسلام وآمان في المحيط الوطني والإقليمي والدولي !!!!.

     

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1776 الخميس 02 / 06 /2011)

 

 

 

في المثقف اليوم