قضايا وآراء

سماويّات: (12): رؤيا السماوي في الحقيقة الشعرية .. بحث في نقد النقد / حسين سرمك حسن

 – كما قلت في أكثر من موضع – أن يشبع الثيمة الواحدة : صورة أو وصفا أو فكرة تقليبا، ويعتصرها حتى ثمالتها الدلالية والجمالية، فنجده يعود ليبدع قصيدة جديدة عنوانها " صوفية النيران " لن نقف عندها تحليليا طويلا وسنكتفي بإشارات سريعة عنها . فهو يسير على استراتيجيته نفسها – وهذه من سماته الأسلوبية المركزية – في خلط ما هو مقدس بما هو مدنس .. ما هو " سماوي " بما هو أرضي .. ما هو متعالي بما هو يومي تفح له وتلوثه الغريزة . وهو يبدأ أيضا بحماسة حبية فائقة لا يتورع فيها عن كشف " آثامه " العشقية :

يـامُـنـقـذي مـني : أمِـثـلي جَـبـانْ

 

تـُؤسِـرُهُ بـ" غـمـزة ٍ " مُـقـلـتـانْ ؟

تـرمي بـهِ على رصيـف الهـوى

مُـضـرَّجـا ً بـعِـشـقـه ِ شـامَــتـان

 فـأيـن َ زعْـمـي أنـني صـخـرة

عَـصِـيَّـة ٌ على فـتون ِ الحِـسـانْ ؟

صوفـيّـة َ الـنيـران ِ لا تُطـفِـئـي

نـارَك حـتى يطهـرَ الأصغــرانْ

قـارَبْـتُ " ستيـنـا ً " ولـمّـا أزل

طـفـلا ً له ُ بـنـاهـديـك ِ افـتِـتـانْ

وبعد أن يشبع من اللعب " الطفلي "، والإبداع هو لعب مميت كما يقول " شللر "، خالطا ماء القداسة بتراب الدناسة، ليصنع عجينة عجيبة :

 عـيـنـاك ِ مـحـرابٌ وخَـمّــارة ٌ

شـرقِـيّـة ٌ سُـقـاتـُها جمعُ جـانْ

وجدتُ نفـسـي ضائِـعـا ً فيهما

أسـكــرُ آنــا ..ً وأصـلـي بـِـآنْ

كـيف التقينا ؟ أين َ يا حـلـوتي؟

ضعتُ أنا وضاع حتى المكانْ !

 

.. ويستعرض سيرته العشقية والحياتية المنفلتة التي تقوم على مبدا اللذة .. أن يكرع من نهر اللذة حدّ التخمة المازوخية :

فــرَّ فـمي مـني إلــى حرفها

فـراشـة ً هـوَتْ عـلى شَمْعَـدانْ

واجـتمعَ الضِـدّان ِ : صـوفِـيّـة

ومـاجـِنٌ مـا قــامَ وقــتَ الأذانْ

ويـسـتحي مـن يومِـه ِ لـو غـفـا

فـردا ً بـلا نـديـمــة ٍ أو غَـوان

وكـان لا يُــؤمِــنُ أنَّ الـهــوى

يُـمكـنُ أنْ يـفـتحَ بـابَ الجِـنـانْ

 بعد كل ذلك يأتي ليعلن توبته النصوح .. توبة لا رجعة عنها .. والغريب أننا باركها رغم أنها لم تتم على يد ولي أو رجل دين أو تجل روحي أو لحظة ألق صوفي .. بل على يدي امرأة ملتهبة العواطف طهّرته بعشقها : جسدا وروحا :

صوفيّـة َ النيـران ِتـابَ الـفـتى

ماعادَ يُـغـويـه الطلا والـدِّنـانْ

أبـدَلــت ِ مِـحـرابـا ً بـحـانـاتـه ِ

وبالكؤوسِ التيـن َ والزُعْـفـرانْ

تَــنــسَّــكَـتْ حـتـى ربــابــاتـُـه ُ

زهـدا ً وصلى عـودُهُ والـكـمانْ

إذا ســرى فـالـنـخــلُ قـنـديـلــه ُ

وإنْ غــفــا فـحُـلـمُـهُ الـرافـدانْ

 

عودة إلى سادن الوجع العاشق

وقبل أن ننتقل إلى معضلة نقد نقدية أخرى ينبغي أن نمعن النظر في خاتمة هذه القصيدة " سادن الوجع الجليل " أو حركتها الرابعة والأخيرة، فهي عودة من الشاعر إلى مصيبة وطنه يفتتحها بالإعتذار لأبناء وطنه في دار دجلة إعتذارا مزدوجا ومضاعفا : فمن جانب هو يعتذر لأنه ترك أرضه الطاهرة لينتبذ في المنافي، ومن جانب ثان فهو – وهذا الأكثر إثارة للوجع والندم – يعتذر لأن لا أمل له في العودة رغم أنه ليس مسؤولا عن مشاكسة طريق الإياب لقدميه العاشقتين ذاك التراب الطهور :

أصحابنا في دار دجلة عذركم

إن غرّبت قدماي يا أصحابي

جفّت ينابيع الوئام وأصحرت

بدء الربيع حدائق اللبلابِ

أحبابنا .. واستوحشت أجفانها

مقلي وشاكسني طريق أيابي

أحبابنا عزّ اللقاء وآذنت

شمسي قبيل شروقها بغيابِ

أحبابنا في الدجلتين تعطّلت

أعيادنا من بعدكم أحبابي

ويهمني هنا استعادة بعض آراء النقاد حول فهم الشاعر لموضوعة الحب وحدود إنهمامه بمكوني موضوع حبه : روحه وجسده، وفي درجة انصهار التيارين النفسيين السلوكيين المعبرين عن هذين المكونين : تيار المحبة وتيار الشهوة، ومنها مثلا لا حصرا : ( تمثل الدعوة بـ " قصّ لي " هزة الإيقاظ التي تشد الشاعر من انزوائه المنكسر إلى مواجهة ذاكرته المثخنة التي كان يفرّ منها، وهنا نلحظ في " قصّه " ميله للتهويم الكلي، لا تلك التباريح المفصلّة التي كانت تفيض بها غزلياته المشرقية، ففي سبعة أبيات وحسب يحدد من هو : ماض فتي مستلب الألق، وكهولة منكفئة تستدني الحياة في انتفاضات شغبها، ثم .. بهذا يلبي بعد حصارها الضاج :

ساعة مرّت .. وأخرى وأنا

 ألثم الورد وأحسو الشهبا

لا يمارس مثل هذا القفز أو التقافز بمواجهة موقف شبيه إلا من هو هارب متخفف حتى من ظلّه : من طال به أمد النضال، وتشعبت به سبل التخيير والحكي والتبرير، فلم يغنم سوى الخيبة، ولم يظفر بغير الإنكسار ؛ هي ممارسة قسرية ترتهن لها الكثير من التجارب الإبداعية لشعراء المنفى ... فهم أسرى ذاكرة موجوعة متخمة بالفجائع .. يستغرق برؤها عقودا من الزمن لو تغيرت الحال إلى النقيض الأحسن، فكيف بها ولا تلويح إلا لمزيد من الخذلان والتردي ؟! .

إن قدرة الشاعر في مهجره المشرقي على مراوغة الذاكرة في النصوص الغزلية، أو لنقل : تحقيق التوازن بين سلطة الذاكرة والنزوع إلى الحلم بحيث وُجّهت أو استثمر مخزونها في خدمة الخيال حتى كدنا ننسى – بموازاة جذل التصوير في بعض النصوص – عظم مصيبة الشاعر / العراق، وعمق ألمه – القرني / ص 202 و 203 ) .

وهذه القصيدة : " سادن الوجع الجليل "، هو النص الدامغ الذي يكشف موازنة الشاعر بين سلطة الذاكرة والنزوع إلى الحلم .. وحيث انعدام التهويم الكلي .. والتقاط الذكريات المريرة التفصيلية .. وحيث الإنتقال من المحنة الشخصية إلى الإلتحام الحبّي الشهوي العاصف، ثم عودة الشاعر الواقعية وليس الذاكراتية إلى واقع وطنه الممزق شرّ ممزق برماح الطائفية والفساد والقتل المخطّط وقطع الرؤوس وتزييف الدين الشريف والركوع للأجنبي :

أحبابنا في الدجلتين تعطلت

أعيادنا من بعدكم أحبابي

ندعو ونجهل أن جُلّ دعائنا

منذ احترفنا الحقد غير مجاب

نخر الوباء الطائفي عظامنا

واستفحل الطاعون بالأرباب

عشنا بديجور فلما أشمست

كشف الضحى عن قاتل ومرابي

ومسبّحين تكاد حين دخولهم

تشكو الإله حجارة المحراب

ومخنّثين يرون دكّ مآذن

مجداً .. وأن النصر قطع رقاب

واللاعقين يد الدخيل تضرّعا

لنعيم كرسيّ بدار خرابِ

جيفٌ – وإن عافت عفونة لحمها –

أضراس ذئبان وناب كلاب

وطن الفجيعة والشقاء ألا كفى

صبرا على الدُخلاء والأذنابِ

 

الحقيقة الشعرية .. رؤيا السماوي: تطبيقان

إن سؤال الحقيقة الشعرية هو في جوهره سؤال الرؤيا، السؤال الحاسم الذي يضع الإطار الفكري والمعرفي لنظرة الشاعر إلى الجدوى من الشعر .. إلى دوره في الحياة والوجود .. والأهم إلى طبيعة صلته بالواقع الموضوعي الذي يعيش فيه الشاعر . هل الشاعر " ينسخ " الواقع ؟ هل يحاكيه ؟ هل يسبقه ويخلق واقعا آخر متقدما عليه ؟ أم يوازيه ؟ وهذه الأسئلة يجب أن يحاول أي ناقد جاهدا أن يتشارك في طرحها والإجابة عليها أي تاقد يتصدى لعملية نقد الشعر عموما، ونقد شاعر محدد خصوصا ؟ يجب أن يعرف اسس رؤياه إلى الوجود والكون والحياة .. إلى حقائق الواقع . وأقول " يحاول " لأن الحقيقة الشعرية هي حقيقة فردية دائما .. هي الحقيقة التي يدركها الشاعر المعني وحده وحين يفصح عنها يحاول القاريء الإمساك بجوانب من حدودها بمعونة الناقد . الحقيقة الشعرية حقيقة فردية وفي هذا فارقها الجذري عن الحقيقة الموضوعية التي نتشارك بها جميعا حد أن تصيبها بلادة الإتفاق وشحوب العادة . والشاعر ليس معنيا بأي اتفاق على الحقائق .. الحقيقة الوحيدة بالنسبة له هي تلك التي لا اتفاق عليها .. وبذلك فهي الحقيقة التي لم تُكتشف حتى الآن . هي الحقيقة التي تهضمها دودة الحرير بهدوء وصبر لتنتجها خيوطا من ذهب ورؤى وتحولات . ولعل أبلغ تعبير عن فعل الشاعر في تشكيل " حقيقته " التي تتناقض مع حقائق الواقع هو ما يمكن أن نسمّيه " بيان أبي نواس " حول أسس حداثته الشعرية :

غير أني قائل ما أتاني

من ظنوني، مكذّب للعيانِ

آخذٌ نفسي بتأليف شيءٍ

واحد اللفظ شتى المعاني

قائم في الوهمِ، حتى إذا ما

رُمتُهُ، رمتُ مُعمى المكانِ

فكأني تابعٌ حسن شيء

من أمامي ليس بالمُستبان

وليس شرطاً أن يصوغ الشاعر بيانا يحدد فيه رؤاه الوجودية والكونية التي يقوم عليها مشروعه .. المهم أن يدركها حقّا ويجسدها نصّا، فالسياب ثوّر القصيدة العربية ولم يكن في باله أن يصدر كتابا منهجيا يحدد تفصيلات مشروعه قبل أن يشرع فيه . فوق ذلك كان السياب لا يمتلك الإمكانات المعرفية والفلسفية كي يوصّف ضرورات مشروعه . لكننا نمسك بخيوط رؤيا الشاعر في نصوصه التي يكتبها حين تتململ في روحه الحاجة الأصيلة والضاغطة المرتبطة بمشاعر ملتبسة أو ملغزة عن قدرته الخالقة .. عن صلته بحقائق الوجود والحياة .. عن نظرته إلى الزمان .. والموت .. واللامرئي حيث فيه، في اللامرئي، تكمن الحقيقة التي لا نراها .. الحقيقة الأخّاذة التي يتبعها ابو نواس وتكاد لا تستبين له هو نفسه . في قصيدة " سوط ووتر " ( ديوان " هذه خيمتي فأين الوطن ؟ / ص 59 – 62 ) تتحقق منذ عتبة العنوان مجانسة غريبة بين أداتين قد تتشابهان شكليا ولكنهما تتناقضان إجرائيا، في حين أن الشاعر يرى أنهما " يعزفان " : الأول بوحشية على أجساد الضحايا، والثاني بضراوة على قلب الوجود المكلوم . ومن عتبة العنوان، وعبر تجليات المعاني المتقابلة للأداتين، التجليات التي يدركها الشاعر وحده فيعيننا على إدراكها في ذواتنا بفرك الصدا عنها، نسير وفق مسارين متناقضين لكن متصاهرين ومتشابكين، في الشعر / في فضاء الحقيقة الشعرية / وهي نتاج قوى اللاشعور الخلاقة تتعايش المتناقضات ويغني بعضها بعضا رغم تصارعها :

لستُ معنيا بتفسير الصدى

والتباريح التي شدّت فم الورد

إلى كأس الندى

وهذا هو مسار " وتر " الحياة .. والشاعر لا يشغله تفسير " الآليات " التي تجعل الأشياء تنجذب إلى بعضها .. إنها تنجذب .. هكذا وكفى .. لكن ما " يراه " هو ولا " نراه " نحن " موجودات هي في " ظنونه " هو حسب : فم الورد .. وكأس الندى، وكلاهما موجودان وغير موجودين من جانب، و " علاقات " هذه الموجودات التي يدركها هو أيضا من جانب ثان .. و " نتائج " هذه العلاقات من جانب ثالث :

لستُ معنيا إذا كان الردى

سيجيء اليوم

أو يطرق أبوابي غدا

وهذا هو مسار " سوط " الموت .. سوط الفناء الذي لا يرحم، والذي يجعلنا جميعا جبناء مثل الضمير كما يقول " هملت " . والشاعر لا يشغله – وليس لا يهمه – أن يقف المثكل على بابه اليوم أو غدا .. فكلّ عمله هو أن يؤسس لامتداد خلودي لا يقهر في مسار الزمان .. امتداد أبدي تتوهج فيه أصداء وتباريح وتر الإلتحام المشدود بين فم الوردة وكأس الندى .. ووتر الحياة المشدود هذا هو في رعشته الظل الذي يخفي في أحشائه تقلصات سوط الفناء الذي يلوح به المثكل .. إنهما متوحدان في الحقيقة رغم تناقضهما الظاهر .. هذا ما " يعرفه " الشاعر وما يجمعه في الصورة التالية بصورة خلّاقة :

لستُ معنيا :

أيشكو تعبَ الغربةِ

أم كان يناجي

حقله الضاحكً

عصفور شدا ؟

فالشاعر معني بـ " الحالة " التي تستقبلها " ظنونه " هو .. أن يكون القمر من ضوء أو من حجارة صمّاء هذا شغل العلماء والبشر الآخرين .. لكن ما تستقبله " حالته " النفسية الفردية في " اللحظة المعطاة " من " رسائل " من القمر هو الأساس .. فمنذ الستينات والبشر قد قطعوا الأمر وتأكدوا أن القمر الذي تغزلّوا به آلاف السنين هو حجارة وتراب .. وقد سحق رواد الفضاء       جبهته الكريمة بأحذيتهم الثقيلة .. لكن وفاء الشعراء العظيم له لم ينقطع لحظة .. بل يزداد عزمهم على الإنتصار له يوما بعد آخر .. وما معنى أن يكتشف العلماء حقائق مضافة كل يوم عن ظواهر الطبيعة وسلوكات مكوناتها .. وعن الطبيعة التشريحية المادية لأعضاء الجسد ؟! .. إنهم لم يستطيعوا خلع الصفة الشاعرية عن " القلب " رغم انهم أثبتوا أن " العقل " هو الذي يحب و " يشعر " لا القلب :

لستُ معنيا

بأسرار الهوى

بين الفراشات وأفواف الزهر

والندى يستبق الشمس

لكي يلثم أوراق الشجر

يقول كازنتزاكي : ( تذكرت ناسكا التقيت به ذات يوم على جبل آتوس . كان يمسك بورقة حور يعرضها للنور ويتطلع إليها، والدموع تنهمر من عينيه .

توقفت عنده مندهشا وسألته : ما الذي تراه في هذه الورقة يا أبانا المحترم بحيث يجعلك تبكي ؟ أجابني : " أرى المسيح مصلوبا " . ثم قلب الورقة وقد أشرق وجهه غبطة . وسألته هذه المرة : وما الذي تراه الآن فيجعلك سعيدا ؟

-     أرى المسيح مبعوثا يا بني .

لو أن المبدع يستطيع بالطريقة ذاتها أن يرى آلامه وآماله كلها حتى في أحط التفصيلات من العالم، في حشرة أو صدفة أو قطرة ماء، وليس فقط أن يرى آلامه وآماله هو ؛ بل أن يرى آمال الكون كله وآلامه . لو أنه فقط يستطيع أن يرى الإنسان مصلوبا والإنسان مبعوثا في كل خفقة قلب . وأن يحس بأن النمال والنجوم والأشباح والأفكار تخرج كلها من الأم ذاتها، مثلما نخرج نحن، وبأننا نقاسي كلنا ونأمل أن يأتي اليوم الذي ستتفتح فيه عيوننا فنرى أننا كلنا واحد – ونصل إلى الخلاص – تقرير إلى غريكو / ص 272 و 273 ) .

وهذا هو واجب الشاعر ومهمته .. فهو ليس معنيا بـ " البحث " في الأسباب وعنها، هذا شغل العالم الذي يريد ربط الأسباب بالنتائج أيضا .. مهمة الشاعر أن يصوّر الظواهر التي ألفناها بصورة تعطيها معان جديدة وأبعاد أكثر ثراء .. فالصلة بين الفراشات وأفواف الزهر نلاحظها كل يوم .. لكن منحها قيمة جديدة تشعرنا بنغمة جديدة لهذا الوتر يمدنا بالعزم في مواجهة سوط الفناء .. جعل هذا الوتر البسيط جزءا من الإطار الكلي لحياتنا ولفت انتباهتنا إليه محملا بقيمة فريدة جديدة هو مهمة الشاعر . وكل صباح تسبق قطرات الندى اذرع الشمس لتعانق خدود أوراق الشجر وترطبها .. هي ظاهرة طبيعية رتيبة ومكررة حد تبلّد حواسنا تجاهها . كل هذا يعلن الشاعر أنه " ليس معنيا " به في حركة توكيدية مضاعفة يعقبها تفسير لموقفه هذا :

لستُ معنيا

فإن الأرض إذ تعطش

لا تسألُ عن عمر الينابيع

وعن أصل المطر

هذا الجوع للجمال .. وهذا التوق للإلتحام بمظاهر الطبيعة مثل انشداد فم الورد لكاس الندى .. أطروحة الحاجة وطباق الإشباع - مستعيرين أسس الجدل الهيغلي - بغض النظر عن العلل والمعلولات للوصول إلى " تركيب " كلي .. حقيقة شعرية جديدة تتعشق فيها ارتعاشات وتر الحياة بتقلصات سوط الفناء هو ما ينهم به الشاعر غير معني بـ " الأصول " التي قد تكون مخادعة، ومظاهر القبح والجمال .. الموت والحياة .. في واقع " الحقيقة الشعرية " قد تتناقض مع اصولها .. و .. ربّما :

ربّما كان غزالا سوط جلّادي

وذئبا كاسرا كان الوتر

فالحقيقة الشعرية هي الحقيقة الوحيدة التي تتآلف فيها المتناقضات كما قلنا .. تتفاعل وتتصاهر ويعزز كل منها الىخر .. الشاعر ذاته هو معقد لاجتماع المتناقضات وتصارعها :

( تجرحه الوردة أحيانا

وحينا

يجرح السكين والحجرْ – ديوان " هذه خيمتي فأين الوطن ؟ - مقطوعة " الشاعر " من قصيدة " أربع قصائد " / ص 197 ) .

ويعرف بعض المختصين الصحة النفسية بأنها قدرة الإنسان على التأرجح بين الشك واليقين وصولا إلى القناعة اليقينية النهائية . وبطبيعة الحال فإن الإنسان السوي لا يمكن أن يستمر متأرحجا طول سني حياته بين الشك واليقين للوصول إلى الحقيقة الموضوعية . عليه أن يستقر اخيرا ليضمن افضل درجة من التكيّف مع متغيرات الحياة وصولا إلى افضل إنتاجية واقصى عطاء . هذا بخلاف الشاعر الذي عليه أن يمضي حياته متأرجحا وبقسوة بين طرفي الشك واليقين لأن وصوله إلى الحقيقة الستاتيكية النهائية يدمّر مشروعه .. فالحقيقة الشعرية غير ثابتة ومتغيرة كما أنها غير يقينية . الحقائق اليقينية هي الحقائق العلمية والدينية . وحتى الأولى قابلة للتغيير والمراجعة، إلا أن الثانية ثابتة ونهائية ومطلقة لأنها تصدر عن مطلق في حين أن مطلق الشعر يصدر عن نسبي، وعليه فحقائقه نسبية وغير نهائية . وهذا ينعكس على سلوك الشاعر الشعري .. فهو لا يمكن ان يرتوي من منهل الحياة حد الإشباع أبدا .. مثلما لا يرتوي من موارد العادة التي ألفتها الناس . وفي كثير من الأحوال يسقي جذور غابة إبداعه من ينابيع روحه :

يظمأ بين النبع والنهر

وتحت خيمة المطر

وربّما يحلب ضرع جفنه

فترتوي جذوره

ويضحك الوتر

في عالمه الشعري .. وتحديدا في لحظة الخلق الباهرة هو تركيبة عجيبة .. فقد تتسع عوالمه لتحلّق في آفاق السماولت القصيّة، قد يصبح كونا قائما بذاته .. قد يصير عالما يستوعب كل ما يحيط به من موجودات وبشر .. وقد – ويا للغرابة – يكون مستعدا للإنفعال بأبسط الأشياء حدّ الإلتحام بها لتتضاءل حدود وجوده وتلتم على بعضها مثل ذرة رمل صغيرة أو حبة أرز أو ورقة شجرة :

تُغرقه قطرة حبر

أو رذاذ الدمع بين الجفن والأحداق

ضاقت به الارض

وضاقت من مرايا حلمه الآفاق

لكنه

يتوه بين أسطر الأوراق

(للحديث صلة ويلة)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1776 الخميس 02 / 06 /2011)

 

 

 

في المثقف اليوم