قضايا وآراء

السماوي وأناشيد سماوية / صالح الطائي

وفي البال شريط ذكريات شاخت أصولها في أعماق النفس كما هي نفوسنا شاخت ونزعت عن هودجها نزق الشباب الجميل. وأورقت فروعها اليانعة في كل الأيام والأشهر والسنين تستفز شوقا للقاء، لتذكرنا بنهارات لا يعيدها التمني، ولذا لن يسمع بما فعله المشيب.

كلما يعدني السماوي بزيارة، أجلس مجترا هذا الشريط ، لحظة بلحظة، ثم تصيبني قشعريرة من خوف كبير، هل أن صورته لا زالت كما كانت بالأمس حينما تقدم نحوي  ممسكا بيد خجولة ديوانه الصغير (عيناك دنيا) ليقدمه لي كأول هدية قيمة أستلمها من كاتب؟ وكأول كتاب تلضى بنار الأسف والحسرة التي أججها الخوف فاستعرت وأكلت كل ما هو جميل من كتبي لكي لا تقع بيد المجرمين وتصبح دليل إدانة عند قوم همج رعاع؟

وكلما أقرأ جديدا للسماوي، أجلس معيدا شريط ذكريات العمر، أقارن ما علق منها في البال ولم تمحه عاديات الزمن، أقارن بين بساطة كلمات (عيناك دنيا)

(أيا أبناء السماوة إن نفسي            تؤمل فيكم الأمل الكبيرا)

 

وبين فخامة وجزالة وحكمة وصوفية كلمات كبرت مع المعاناة التي عاشها السماوي، فأجد كلمات ليست مثل الكلمات، كلمات نحتت من الماس وعيدان الأبنوس والساج، وبلاطات الحضارة القديمة، وحجارة الزقورة، ومسلة حمورابي، وأزاهير الربيع، وهديل الحمام وتغريد العصافير، وكل دواوين العشق العربي، وأغاني الصوفيين وتهجدات الحكماء وتبتل الدعاة، وضحكات الأطفال، وبكاء الثكالى، وتنهدات العشاق، ونظمت مسبحة بخيوط من جدائل العمر وآهات السنين، ووجع نفس باحثة عن الحقيقة في دنيا تشغلها التفاهة والتيه والغرور والسذاجة والمصلحية. فآمنت أن للتغريد خارج السرب منافع لا يدركها إلا الحكماء، وعرفت أن اللغة تتطور وتنمو كما هو الإنسان، الفرق الوحيد أن هناك من تنمو لغته وثقافته بشكل سليم متطور متناسق بهي تساوقا مع نمو ثقافته ومعارفه، كما هي لدى السماوي، لينتقل من الخطاب المباشر في (عيناك دنيا) إلى دنيا أخرى

أعرف فصل الصيف في مدينتي

من الندى الناضح من ريحان جيدها

ومن قميصها الرقيق

وأعرف الشتاء من وشاحها المخمل

والربيع من رسب الفراشات

تحوم حول ثغرها المخضل بالرحيق

 

لقد حاولت أن أبقى في أفياء ديوان السماوي الذي بين يدي ولا أفتح جرح الذكريات القديمة المتجددة تماما كما قال 

لا تفتحي بوابة الأمس

أغلقيها واختمي بالشمع نافذة العتاب

 

ولكني وجدتني مدفوعا بشوق الأربعين، وبآهات السنين لأحلم ولو حلم عصفور

 

فما الذي يطلبه العصفور

من مملكة البستان

غير النبع

والعنقود والبيدر

 

لأقول للسماوي الذي صلى للمرة الثالثة بلا وضوء (*) : وما الذي نطلبه نحن الذين تسحرنا الكلمات من ساحر الكلمات غير أحاديث أحلى من بستان وأعذب من فرات وأشهى من عناقيد الكرمة، ومن قبلة غادة، فما أحلى الغواية في دنيا أشعارك! وما أعذب الذوبان في بحور حكمتك وبهاء صورك.

لقد شدني محتوى الديوان الجديد، وأعادني إلى أيام المستنصرية وبداية سبعينات القرن الماضي، أعادني أربعين عاما إلى الوراء لأتذكر سويعات قضيتها مع السماوي قبل أربعين عاما، فوجدت السماوي في أحشاء القلب، طودا شاخا لا يدانى، فهل بعد هذا لعاقل أن يصدق قوله:

 

أنا يا سيدتي ما زلت

في رحم "التي ليست تسمى"

نطفة تأمل أن يحضنها

صدر وبيت

  

 ................................ 

(*) منذ سنتين والسماوي يعدني بزيارة، حتى أنه قال في إحدى المرات: أنه إذا زار العراق ولم يزرني سيكون كمن يصلي من غير وضوء، ولكن الظروف القاهرة، وظروفه الصحية بالذات، كانت تحول بيننا في كل مرة، وكأنها تريد لمعاناتنا أنْ تستمر إلى الأبد، وكأنها لا تدري أن ليس في العمر بقية! 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1777 الجمعة: 03 / 06 /2011)

 

 

 

في المثقف اليوم