قضايا وآراء

تماثيل الافراد الفرعونية / زهير صاحب

وهي وليدة المجتمع وظرفه وعصره، من شأنها تسليط الاضواء على طبيعة النظم الاجتماعية والشعائر والطقوس والمعتقدات الدينية التي مارسها المجتمع المصري. حيث وجدت هذه الافكار معنى اغنى وقوة تعبيرية اعمق، كانت تفتقر اليها وهي خارج مجال التمثيل الفني. انها معادلة التمثيل والانعكاس بين ما يفصح عنه العمل التشكيلي من افكار، والملابسات التي قادت الى ابداعه. ذلك ان نوعية الفكر الحضاري في نشأته الاولى، وفي مواصفات البيئة الزمانية والمكانية، كانت تعمل بذاتية خصوصية محددة، والتي امتلكت بفعل روحيتها المحددة هويتها الحضارية وخصوصيتها المحلية. فالتعبير المنبثق عن الفكر الحضاري والمتمثل بالابداعات الفنية تبدأ بهذه الفاعلية، الا وهي استثارة تلك الانطباعات والافكار، وهي الوسيط الهام لانتعاش مثل هذه المدركات الروحية.

وترتبط تماثيل الافراد، بجوهر الفكر الحضاري الاجتماعي، فهي كفن او كتماثيل تعتبر فنا شعبيا، ذلك  انها في مضامينها ترتبط بالفكر الاجتماعي، وفي موضوعاتها تمثل شخصيات اجتماعية شعبية، وهي تختلف في ذلك عن تماثيل الفراعنة الملكية. وهي بذلك عبارة عن خطاب فكري تداولي بين الافراد، ويعمل بمثابة اداة تواصل، او وسيلة انتقال بين الافراد، عن طريق ضرب من التناغم الوجداني، وقد وجد صداه بشكل تمثلات ذهنية ثابتة. ذلك ان الطقوس والممارسات بشعائرها الدقيقة، كانت تؤدي فعلا، الى تثبيت الخبرة الاجتماعية لدى كل عضو في المجتمع، واقامة عالم واع تؤلفه الرموز الاجتماعية والكلمات والمفاهيم والمصطلحات ذات الفهم الاجتماعي الواسع والعميق. وفضيلة ذلك هو ان الانسان قد خلق حيزا ثقافيا، حَوّله بتأثير من تفكيره وعواطفه الى شكل معبر عن دينونته وطقوسه وشعائره ومعتقداته، ومن ثم استحال الى وحدة روحية ذات صيغة جماعية في تجسيد افكاره. فالوعي ينطلق مما هو داخلي واجتماعي وروحي، فتنبثق شرارته كنشاط وابداع وخلق. فماهية المضمون هنا، تعيش في بيئة ذات مدلولات ثقافية واجتماعية وتاريخية ومايثولوجية وسايكولوجية، يتبادل معها الاثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة، من خلال اطار نوعي اكتسب مضمونه من الخارج، وهي مرتبطة بالحالة العامة للتفكير والتي وجدت خصوصيتها بهذه النوعية من التمثلات في التكيف الفكري لنوعية المحيط.

ان الاكتشاف المثير، اكتشاف ان الاشياء في الطبيعة، يمكن ان تتحول الى ادوات قادرة على التأثير في العالم الخارجي بل وتعمل على تغييره. ذلك ان الفكر الذي كان يجرب دون توقف، والذي كان قد شرع في التفكير على ان المستحيل نفسه، يمكن ان يتحقق بأدوات سحرية. ذلك ان تماثيل الافراد هذه، كانت وسيلة للتعبير، شأنها شأن الايماءة او الكلمة في بسط سيطرة الانسان على الطبيعة. فالفكر الاجتماعي والذي آمن بفكرة الخلود والحياة الابدية، وجد في مثل هذه التماثيل بمثابة العوذ او البدائل السحرية التي تنوب عن الاجساد الفيزيقية، حين ينالها العدم بحتميته المعهودة. فالقرين (Ka) والروح (Ba)، كانت تعود الى الجسم بعد ايداعه التراب، كانت تعود اليه وتفارقه ومن ثم تعود اليه، وبامكانها حسب النصوص الدينية العودة اليه متى تشاء، وتكفيها صورة بديلة كي تهتدي الى مقرها الابدي، فهذا النوع من التماثيل، كان من نوع الدلائل المرشدة للكائنات الاثيرية حين عودتها الى الجسد. ولذلك كانت تنتمي الى المنهج الواقعي في اساليب نحتها، نوع من الواقعية الصارمة التي هدفها المحاكاة الدقيقة للنموذج بحيث يبدو مطابقا لنموذجه الاصلي، وما ينقصه الا الروح التي ستحل به بعد حين. انه عالم من القيم المطلقة والباقية، يعلو الظواهر المتبدلة، ويتحرر من جميع تعسفات الحياة واشكالاتها الوقتية.

ان اهتمامنا بالمضمون، ينصب على كون المضمون، لا يتمثل في الاشكال التي يظهر بها وجوده المباشر فحسب، بل على كونه ايضا يتوسع ويكبر ويحيا عند ادراكه من قبل الروح في بنائية مثل هذه الاشكال. التي تنتمي بصدد فكرة المضمون الى السحر التشابهي، والذي يقوم على فكرة التأثير بين المتماثلات، ذلك ان صفة التطابق التام بين اشكال هذه التماثيل ونماذجها الاصلية، من شأنها ان تجعل الصورة البديلة، تعمل بفاعلية الصورة الاصلية. وكي يمعن النحات في تحقيق مثل هذا النوع من التشابهات المتطابقة، كان يضيف على سطوح التماثيل علامات تمثل اسم صاحب التمثال، والتي تعمل بشكل دلالات علامية لا تظلها الروح في رحلتها وعودتها الى الجسد. ان مثل هذه التماثيل كانت ذات ميزة دينية خاصة، فهي بمثابة العوذ ذات القيم الدينية والسحرية، والتي تصنف على انها تعاويذ او رموز فتشية، وكانت تعامل بقدسية كبيرة، باعتبارها اشياء تسكنها الارواح حين تحل بها حلولا.

لقد وجد المجتمع المصري في زمانه ومكانه، بعد ان جرب هذا الفعل مئات المرات، رموزا او وسائل للتعبير، يتجسد بها مثل هذا النشاط الجماعي، بحيث غدت مثل هذه الرموز بمثابة الهرمونية الايقاعية، التي بأمكانها ان تنشط على الفور جميع مراكز المخ المتصلة بهذا النشاط. وان لهذه الرموز الدينية، اهميتها الكبرى في سوسيولوجيا الفن (الفن والمجتمع) حيث كانت لها وظيفة تنظيمية في بُنى المجتمع، كونها تنقل ذات المعنى الى كافة افراد المجتمع. فامتلكت مضامين هذه الاعمال النحتية قدسيتها الخاصة، من خلال الطقوس الدورية المرتبطة بالنظم الاجتماعية، والشعائر والطقوس الدينية التي يؤديها الافراد قاطبة بشكل متوارث ونشيط. باعتبارها تمثلات الوجود الانساني، وبما يرضي متطلباته الروحية، انه الموقف الانساني الفكري في سعيه لترويض الطبيعة عن طريق المحاكاة والتقليد، واستعطاف قواها الخفية، بفاعلية التمثيل، التي وجدت بها حركة الفكر الاجتماعي ذاتها الاولى في التاريخ، ولعل في ذلك اهم مقومات خلودها حتى  هذه اللحظة، كأعمال عظيمة في تاريخ الفن.

 

2 - المضمون والخامات :-

ان دراسة تحليلية تركيبية لنظم العلاقات التي تميز تماثيل الافراد من مصر القديمة، وذلك بصدد قيمة العناصر الكامنة في بنائية التماثيل، ونظم تفاعلها في التكوين العام للتماثيل، تظهر ان الصلة الفنية المتفاعلة بين الاشياء والافكار، تتميز بطابعها المباشر، فهي تشبيه وتداع، أي هي تقريب حر لا يتطلب البراهين، وهي بهذا المعنى تقريب اكيد (بدهي) يتحقق فورا بين موضوعين او ظاهرتين في المجتمع او الطبيعة. في حالة من التفاعل التام بين الشيء وجوهره، فالشيء هنا يؤدي وظيفة المضمون الذي هو محتواه. وبذات الفعل الذي حرص به رسام الكهوف، الى خلق هيئة الطريدة البديلة، بتلوينها بالالوان، وتحقيق ادق تفاصيلها، بغية انجاح فاعلية العمليات السحرية. عمل نحات تماثيل الافراد، على ان ينظم مشاعر الجماعة الانفعالية، من خلال الجمع في نظام الصورة بين الرسم والنحت، فلكي تكون الصورة نموذجا مطابقا للاصل، استخدم النحات اسلوب تلوين التماثيل بالالوان.

فالتماثيل المنحوتة من ذلك النوع من الاحجار الصلبة، المدللة عن فكرة الابدية كعلامة اصطلاحية، والتي تتصف بالحبيبات الناعمة والسطوح الزجاجية، كالكرافيت والديورايت والكوارتز، كانت تكسى اولا بغشاء رقيق ابيض من الجبس، يكون قاعدة لامتصاص الالوان وتثبيتها، ومن ثم تضاف الالوان على سطوحها.

اما التماثيل المنجزة من احجار هشة خشنة السطوح، فتكسى مباشرة بالالوان والتي تلتصق فورا على سطوحها. ولعل من شأن هذه التقنية التي يشترك بها الرسم والنحت، ان تخفي عن العين وربما حتى الذهن جماليات السطوح الحجرية وتفاصيل الخطوط والملامس على سطوح التماثيل، الا انها في جوهرها ترتبط بطبيعة المضامين الدينية القدسية، الكامنة في البنية الفكرية لهذه الاعمال النحتية. فهناك المضمون والغاية والمدلول، ومن جهة اخرى هناك التعبير والتظاهر والواقع، وبين الاثنين تشابك وتداخل، بحيث ان الخارجي لا يكون له من مبرر وجود الا ان يكون تعبيرا عن الداخلي.

لقد ابدع النحاتون في اختيار وتناسب الالوان وتجانسها، متبعين اسلوبا واقعيا في منهج التكوين، أي ان وظيفة الالوان، هو ان توجد او تحقق المشابهة بين نموذجين. فبشرة الرجال مثلا كانت تلون بالمغرة الحمراء (Red Ochre) ذات الاطياف البنية، في حين لونت بشرة النسوة بالمغرة الصفراء او الوردية. وكان الشعر يلون دائما باللون الاسود، اما الثياب فكانت بيضاء شفافة، والحلي تلون دائما بالاخضر او الازرق. واضافة الى التلوين طعّم النحات عيون التماثيل باحجار ثمينة ملونة جميلة. فكان بياض العين من حجر الكوارتز الابيض شبه الشفاف، والقرنية من البلور الصخري، اما حدقة العين فكانت تجويفا في الوجه الخلفي من القرنية، يُملأ عادة بمادة قاتمة اللون جدا. مع احاطة ذلك كله باطار نحاسي. واجمل التماثيل الحجرية الملونة هو ما عرف باسم تمثال الزوجين الخالدين. فقد هرب العمال الذين اكتشفوها مذعورين لشدة الواقعية التي مثلا بها، واقعية تفوق تماثيل الشمع، وتماثيل الواقعية الصارمة في فنون ما بعد الحداثة. ان اية خبرة انسانية سواء اكانت نظرية ام عملية ام وجدانية ام خيالية ام انفعالية سلوكية، لا تتم بغير ادوات تحقيقية منظمة، يبتدعها الانسان في مواجهة الروحي، الساعي نحو الخلود والابدية.

لقد حافظت مقابر الدول القديمة والوسطى والحديثة، على اعداد كبيرة من تماثيل الافراد، وقد كانت فعلا بحالة ممتازة من الحفظ، وخصوصا نماذجها في عهد الدولة القديمة، وتقدم نماذج تماثيل الافراد هذه، افضل تفسير للفن من وجهة النظر الاجتماعية. ذلك ان الفن يعتبر بمثابة بلورة لكل نشاط اجتماعي، وتركيز لطبيعة الحياة الاجتماعية. ولعل تمثال الكاتب المصري المشهور خير تعبير عن مثل هذه التقابلات الفكرية.

فقد استطاع الفنان المرتبط بوسطه الحضاري، ان يحقق فكرة الكاتب في خامة الحجر الصلبة، باحثا عن الحقيقة الحقة في جوهر الشكل، محققا الخاص من خلال العام في بنائية الشكل، ذلك الى انتباه الكاتب المتحفز، وتهدل عضلات صدره، وانطواء ساقيه تحت الجسم، وكان منهج الرؤية قد اقتنص لقطة فوتوغرافية خاصة في نظام حركة الشكل الحرفية واحالها الى دلالة تشكيلية. ذلك ان النشاط الفني تركيب خاص وواع، يسيطر فيه الفنان على تنظيم العمل، واعادة تنسيق العناصر، وفقا لفكرة كان الفنان قد خبرها في تجربته الانسانية. ولعل فاعلية الفكر الحضاري، قد كيفت الشكل نحو مظهر اخر، يتفق مع المضامين الفكرية والرؤية التعبيرية للشكل. ففكرة الكاتب قد دخلت نسق الفن، لتؤدي فكرتها كعلامة تشفر عن نظم من العلاقات بين وجود الشخصية الاول، وعمل نظام الصورة كفتش في عالم الابدية. نوعا من الصور البديلة، التي اريد لها تنشيط الفعل السحري في عمليات تناسح الارواح التي ابتكرها الفكر الاجتماعي.

ولم يقتصر فنان النحت المجسم في عمل تماثيل الافراد، على مادة الحجر، وانما جرب خبرته العالية في مادة اخرى اسهل في التشكيل الا وهي خامة الخشب، التي تتميز بتماسك جزئياتها ونعومتها ومطاوعتها الجيدة لمطرقة النحات، ومع ذلك فانها تحتاج الى وعي وخبرة كبيرة في اختيار نوعية الاخشاب الصالحة للنحت، ذلك ان الياف الخشب، ممكن ان تعيق عملية نحت التمثال. ونظرا لافتقار البيئة الطبيعية المصرية لمادة الخشب، فان الاخشاب ذات النوعيات الجيدة التي تصلح للنحت كانت تستورد عن طريق التجارة من اقاليم اخرى. وكانت تماثيل الخشب تلون بالالوان المناسبة لجعلها اكثر واقعية وبما يتفق مع فكرة التمثال، او تترك بدون تلوين. وعند تلوينها، يغطى سطح التمثال الخشبي بطبقة من الجبس الناعم، ثم يلون بالالوان المناسبة. ومن اشهر تماثيل الافراد من مصر القديمة، تمثالان، احدهما لرجل من عصر الاهرام والاخر لامرأة من عهد الدولة الوسط.

ونموذج عصر الاهرام، اشتهر في اوساط مؤرخي الفن باسم شيخ البلد، وهو اقدم ما عرف بالتماثيل الخشبية في بلاد وادي النيل. وهو في ذات الوقت اجمل ما ابدعه النحاتون المصريون من تماثيل. لقد احتاج النحات الى سنديانة خشبية كبيرة وغليظة، كي يحيلها الى دلالة تشكيلية، تلتقي مع فكرة شيخ البلد، الذي عرف على مر التاريخ بامتلاء الجسم لحد السمنة المفرطة. ذلك ان تظاهرالعيني محقق عن طريق محض صورة يعتبرها الحدس مقاربة للمضمون حدا تشبيهيا. ظهر نظام الصورة لشيخ البلاد، بواقعية مفرطة، تتميز بوجه ممتلئ مدور، وجبهة صلعاء، وشعر قصير، وعنق غليظ قوي، وجسم بدين ممتلئ، يبرز رأسه من بين كتفيه دون رقبة. وفي عينيه المطعمتين بالاحجار الكريمة الملونة غبطة وابتهاج تسري في كيانه حياة قوية، هي جزء من حيوية التمثال. فقبل واقعية (غوستاف كوربية) باكثر من اربعة الاف سنة. كان تمثال شيخ البلد، صورة بديلة من طراز خاص، عن صورته الفيزيقية الفانية. فلا عجب ان لقب من قبل العمال المكتشفين بشيخ البلد، لما انسوا فيه من تماثل كبير مع عمدة قريتهم. فلقد كان التعبير عن المضمون، والذي يبتدي ببنية مشكلة اجتماعية او مطامح جماعية، يبدو اكثر وضوحا في تلبيته لنداء الروح. ظهر شيخ البلد، بزي طقوسي، وكأنه في فعالية دينية، فقد ارتدى تنورة طويلة تصل الى ما تحت الركبتين، تاركة الجذع عار. وقد اندفعت يده اليسرى الى امام لتقبض على عصا طويلة (عصا المسير)، وقد انفتحت ساقه اليسرى بخطوة قصيرة الى الامام، ساعية نحو الابدية، انه فعل استشراق الحدث قبل وقوعه. ذلك ان حركة اجزاء الجسم في بنائية التمثال، لابد ان تنطوي على فعل محدد في الجانب الفكري للموضوع، فهذه الاعضاء المتجه نشاطها نحو الخارج، تخدم الخصوصيات التعبيرية في الشكل اكثر من غيرها، باوضاعها وحركاتها في تجسيد التعبير الروحي. وفيه قال عالم المصريات (ماسبيرو) : لو اقيم معرض عالمي لروائع الفنون المصرية القديمة، لقدمت اليه تمثال شيخ البلد، ليمثل عظمة الفنون التشكيلية المصرية.

574-yu

اما نموذج الدولة الوسطى من التماثيل الخشبية، فقد اشتهر باسم (حاملة القربان) ويمثل فتاة جميلة في مقتبل العمر، تحمل صندوقا مليئا بالهدايا (الخبز) وقد وازنته على رأسها بيدها اليسرى، وقبضت بيدها اليمنى على طائر وديع. وهي تتقدم بهدوء نحو مقبرة سيدها لتقديم القرابين. ذلك ان (كا) سيدها وروحه (با) تتغذى دوريا على مثل هذه القرابين، وفي حالات اخرى ترسم نوعية القرابين على جدران المقبرة، او تكتب اسمائها لتحقق فعل الوجود الرمزي للقربان. فمثل هذه الاشكال التي ترتبط بمعنى وتعر عنه بشكل مرادفات، تجسد العلاقة بين الرغبة المتمثلة بالمضمون والمتحققة في السمات التعبيرية المميزة للشكل. فهي حالة من خصوصية التعبير عن حالات او تقاليد مثقلة بمضامين فكرية.

ويحتفظ التمثال بطابع مؤثر، ذلك ان الفتاة بمشيتها الهادئة، ورشاقة قوامها، اشبه بعارضة ازياء معاصرة، تمظهرت الفتاة برداء طويل ضيق، يرتبط بحمالتين على كتفيها، وقد ترك جزء من جسمها عاريا، ويعتبر هذا التمثال من تماثيل الخشب الرائعة الجمال في فن النحت، بفعل الخبرة التي نسقت بها اجزاء الجسم، بالاضافة الى ذلك الاتساق والتناسب بين حركة الساقين وحركة الملابس فوقها، مما اضفى على التمثال قوة حيوية ذاتية ومرونة كبيرة. والاهم من كل ذلك هو نظام الالوان الذي رسمت به تفاصيل التمثال، ويشتغل ذلك باللون الزهري الفاتح لبشرة الفتاة، ولون الفستان الاخضر والذي زين بنظام زخرفي باللون الازرق، الا ما اروعها من لوحة (ماتيسية) حيث جمال المشهد، كامن في نظم العلاقات المنتظمة والفاعلة التي تميز التكوين.

ان قيم التعبير في مثل هذه الاشكال الرمزية، لم تكن نسخا لواقع معطى، بل كانت كشفا لظواهر الحياة، بما قيها من قوى ورغبات وميول ومخاوف، تنقله اشكالا فنية ابداعية ذات مدلولات رمزية، فغدت رموزا قدسية لارتباطها بمفاهيم وشعائر وطقوس ومعتقدات دينية، بحكم ارتباطها الرمزي بوجود المجتمع المصري في زمانه ومكانه، فقد حيكت الافكار المرتبطة بها، داخل نسيج اجتماعي، فبدت في حقيقتها اشكالا طقوسية، تمتلك الوساطة بين القدرة الكلية وعامة الناس، وغدت تمتلك القدرة على التواصل المباشر مع الارواح المتحكمة في قوانين الوجود.

وفي عصر الدولة الحديثة، لم تعد تماثيل اميرات البلاط الملكي، صور بديلة لاصحابها كنذور جنائزية فحسب، وانما اصبحت تحفا فنية تعرض في القصور، وتعمل كدلالات رمزية، ضمن مبدأ عبادة الاسلاف، وتعظيم جلالة الفرعون العظيم وذريته. ذلك ان مثل هذه الاشكال، كانت مثقلة بمضامين عقلية، تمتزج بانفعالات الحياة وترتكز عليها، فهذه الرموز كانت تمل بمثابة الخطابات المرئية لنقل الفهم والمطامح والرغبات.

حققت مصر في عصر الدولة الحديثة، ازدهارا اقتصاديا كبيرا، وحققت ايضا تواصلا حضاريا مهما مع الحضارات المجاورة، بفعل الفتوحات الحربية والتجارة النشطة، الامر الذي حقق تحولات مهمة في السمات الخارجية (السطحية) التي تميز نظام الصور الشخصية في زمانها ومكانها. فحلت موضات وانساق جديدة للازياء، كالثياب الطويلة الضيقة ذات الطيات العديدة والمعقدة في بنائية سطوح التماثيل، وكثر التزيين بالحلي والقلائد والعقود، واتخذت نظم تصفيف الشعر اشكالا معقدة. ومثل هذه التمظهرات لا تفيد الا في جعل الفرادة ذاتية في خصوصية الموديل (النموذج) كوسيلة للايحاء بالفكرة الاساسية للموضوع. وفي هذا العصر العظيم عاش عمالقة فن النحت في مصر، وابدعوا روائع نحتية خالدة، اشهرها تماثيل اميرات البلاط كما اسلفنا.

 

3 - السمات الشكلية

في محاولتنا لكشف خصوصية الاسلوب الذي نحتت به تماثيل الافراد المصرية، من خلال نظم العلاقات التي يقررها المضمون كدلالة فكرية، وتعمل بمثابة العنصر الفكري الضاغط لتقرير خصوصية الشكل، والذي يخضع لنظام وظيفي محدد، يرتبط بما يبثه المركز الفكري، من افكار، ترتبط بعالم الابدية والخلود. يمكن القول ان الاسلوب الواقعي الذي يعتمد المراقبة البصرية في آلية عمل الذهن في فعل ابداع هذه الاعمال النحتية، كان هو الاسلوب الذي يميز السمات الشكلية لهذه التماثيل، ومهما كانت خصوصية الموديل الذي يمثل في العملية التشكيلية. فهذه الصور البديلة التي اوكل اليها اجتذاب القوى الاثيرية في ميكانيزم عملية وافكار الخلود المعقدة، لا يمكن ان تؤدي وظيفتها الا بمبدأ مطابقة الصورة لاصلها الواقعي. فبالواقعية تنشط وظائف هذا النوع من تماثيل الافراد. فهنا يصبح الفن رمزا يعيه الجميع باعتباره ترجمة لعواطف مشتركة، نوعا التشبيه البديهي الذي يتحقق ما بين الفيزيقي الفاني قبل فنائه، والتمثال الابدي الذي يخلد عدم الموديل الحي. وهذا هو التفسير العقلاني الاكثر منطقية لواقعية هذه التماثيل باتجاه خلق موازنة بين الاحساس الداخلي للفرد، وعالم التجربة الخارجي، حيث تكون مهمة العمل التشكيلي ادراك مثل هذه الموازنة.

وجد المصريون القدماء ان سلطتهم على الطبيعة، تتحدد وبشكل جوهري، يمثل هذه الطبيعة من التصورات او التمثلات الروحية، والتي كانت بمثابة الوسيط بينهم وبين العالم الخارجي. فكانت تماثيل الافراد على اختلاف موضوعاتها، تعرض في اجواء المقابر، كودائع جنائزية، وكان البعض منها يعرض في حنايا (بوابات كاذبة) لتؤدي التحية للاحياء وكانها قد ولدت تواً . وتأسيسا على ذلك، فان فضاءات التماثيل كانت فضاءات جليلة قدسية، هذا بصدد الروحي في التماثيل، اما الشكلي فانها كانت تنحت بالحجوم الطبيعية محتكمة لمنهج المحاكاة، وتعرض متكأة على جدران معمارية، ولذلك كانت تنحت تفاصيلها من الامام، وبمسقط نظر مواجه للرائي.

ووفقا لاسلوب المحاكاة او النسخ والتقليد، والذي يصل لحد طبع القوالب الجبسية على الاجسام، فانها تتميز بمبدأ التناظر والتوازن بين نصفي التمثال، ولعل هذا النوع من التماثل المتوازن مرتبط بقيمة الفضاء القدسي كبيئة مكانية، وخصوصية المضمون الذي ينشد الاستقرار السيكولوجي والهدوء والاتزان، فأي منها لا يمكن ان يتحرك ويدور كما تدور تماثيل الرياضيين الاغريق، ذلك ان بنائية الفكر، قد حددت هذه التماثيل بنوع من تخشب الحركة، رغم الحيوية الروحية التي تسري في كل جزء منها. فهي غنية بمدلولاتها الحضارية والانسانية التي تتجاوز المدلول الظاهري للتمثيل الشكلي، الى نوع من الانسجام بين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي.

وحين سؤل زعيم الواقعية الرسام (كوربية) ارسم ملائكة؟ اجاب رسام الانسانية : ارني اياها. هذا الترديد الامين للحدث الذي يرتكن الى التقليد، هو ما جعل تماثيل الافراد المصرية تتميز بخطوط واقعية، وهي تجسد البنائية الظاهرية للتكوين البشري. ومع ان هذا يفتقر الى التأويل في العملية الابداعية، الا انه لا يخلو من تراكم التجربة والخبرة العظيمة في اخراج اشكالها بطابعها الواقعي. فمثل هذه الاشكال التي ترتبط بمعنى وتعبر عنه بشكل مرادفات، فانها تجسد العلاقة ما بين الرغبة المتمثلة بالمضمون والمتحققة في السمات التعبيرية التي تميز الشكل .

لقد تخير الفنان من الموضوع، مجموعة من العلاقات، محاولا ابرازها بهيئة لها كيانها الخاص، والافكار المرتبطة بها بالوسط الحضاري. فالشكل كان الفنان يجده في الواقع الخارجي، لكن صياغة التعبير هو ما يؤلف جوهر عمله وماثرته. وبفعل هذا الجهد الابداعي، ان بدت سطوح التماثيل تعمل بمنطق جمالي كبير، فقد توحدت نظم العلاقات فيها على نوع من الحساب الرياضي، لمناطق امتصاص وعكس الاضواء، وذلك بفعل التفاصيل الدقيقة التي ميزت سطوحها. فمناطق الارتفاع والانخفاض على السطوح، وتأثير فيزياء الضوء فيها، وتجاور المساحات المسطحة الى جانب المساحات المعقدة، هو بحد ذاته الخطاب الجمالي الذي بثه النحات في تماثيله، والذي اوصله النحات (رودان) الى ذروته بعد ذلك باكثر من اربعة الاف سنة.

اعتبر انسان مصر القديمة، الفن شيئا على قدر من الاهمية، وقد بلغ حدا في تماثيل الافراد، صار فيه استخداما اجتماعيا. ويتجسد ذلك في العلاقات الذهنية المشتركة، وارتباطها بقيمها التعبيرية الرمزية بوجود الشعب المصري. والذي يقرر ما وراء هذه التمثلات الموضوعية والذاتية من افكار تكمن وراء هذه المظاهر. هذه الفاعلية التي تتحرك بها النظم الفكرية والشكلية لتماثيل الافراد في صميم بنائية الفكر، ليست على الاطلاق صفاتها الطبيعية، بل هو الموقف الاجتماعي المفعم بالجلال ازاءها، مكتسبة بذلك زخما من التعبير في محتواها الفكري، بدلا من الشكل الظاهري الذي تعودته الحياة. ولذلك شملت تماثيل الافراد كموضوعات، كل شرائح المجتمع المصري، بدء من تماثيل الشخصيات المهمة كالنبلاء والوزراء واميرات البلاط، بالاضافة لتماثيل الكتبة، والذين احتلوا مركزا مهما في المجتمع المصري، وقد شمل التمثيل الخدم والعمال كل في وظيفته المقررة . ذلك ان المرحلة نحو الابدية للاتحاد بعالم الاله (اوزيريس) الخالد لم تستثني احدا، انه نوعا من الطوفان الذي لايستثني احدا، فعلى الجميع ان تلحق بسفينه النجاة.

نظمت تماثيل الافراد كتكوينات نحتية، وفقا لآلية عمل ذهنية النحات، والذي كما اسلفنا، يعتمد المراقبة البصرية في انشاء التكوينات، مستندا الى ثقافته الاجتماعية. فمن تماثيل الافراد ما كانت متفردة، ومنها ما كانت مزدوجة، تمثل رحلة الزوجين الابدية .وبعض التكوينات كانت بمثابة مجموعات عائلية .وفي ذلك كله، نوعا من تلك المشاركة الجادة، من قبل الافراد بالرموز المشتركة، وهو تلك الروحية القدسية التي تبرز كوحدة عضوية حية، عميقة التعبير في ضمير ووجدان الجماعة.

وتعتبر ظاهرة حركة تماثيل الافراد، واحدا من اهم الظواهر التي يجب التعرض لها، ذلك ان نظم العلاقات الرابطة في بنائية التماثيل بين المضمون او الفكرة، وخصوصية الشكل الحركية، تفرز مثل هذه التعبيرات المرتبطة بوظيفة التماثيل. ذلك ان نوع الايماءة، تشير الى نوع من الذاتية في التعبير، ازاء مؤثرات لحظة محددة، واوساط بيئية محددة ايضا، وتجد خصوصيتها في التمثيل الفني كانعكاس لمجموعة الافكار الناشطة في الوسط الحضاري. وتظهر تماثيل الافراد المصرية، باوضاع حركية اكثر تنوعا من تماثيل الملوك، وذلك بسبب تعدد وتنوع موضوعاتها. فالبعض منها مثلت في وضع الوقوف  ومثيلاتها الاخرى ظهرت بوضع الجلوس على كرسي او مسند منخفض. في حين مثلت تماثيل الكتبة بشكل خاص، بوضع التربع على سطح الارض تعبيرا عن ماهية التمثال وهو من اصعب الاوضاع في التمثيل الشكلي للموضوع، والذي يحتاج الى مهارة وخبرة كبيرة في تمثيل خطوط القدم وتقاطع الساقين، لما من شأنه ضبط ادراك المشاهد وتوجيه انتباهه بحيث يبدو التكوين واضحا موحدا مفهوما في استيعابه البصري.

وفي وضع الوقوف، تواجه تماثيل الرجال والنساء المشاهد متقدمة نحوه بخطوة قصيرة، اما اليدين فمبسوطتين دائما باسترخاء كامل بموازاة الجسم، او تنثني احداهما لتؤدي اشارات محددة، بعد ان تجد استقرارها الابدي على الصدر ,فقد استطاع الفنان بنوعية الوضع الحركي، ان يبث المشاعر النفسية عبر كلية الهيئة الخارجي، وفي وضع الجلوس، تشترك تماثيل الرجال والنساء معا بذات الاوضاع الحركية. حيث تبسط اليدين باستقرار كامل على الرجلين، في حين تستقر القدمين امام كتلة التمثال. ذلك ان مثل هذه العوذ الجنائزية، والتي تعتبر بمثابة الحوامل للفعل السحري، يجب ان تؤدي سلوكا يتفق مع مناظر المسرح الجنائزي في حيز المقابر الابدي. فالشكل هنا يؤدي وظيفة الروح التي هي محتواه، باعتباره مظهرا من مظاهر تحقيق نجاح الحياة.

وفي نظام دراسة تشريح الاجسام البشرية، يبدو ان واقعية الاسلوب، التي قررتها وظيفة التماثيل، قادت النحات الى اتباع ادق قوانين المراقبة البصرية. في توضيح النظام العلمي لتركيب عضلات الجسم، مع القصدية الواعية في التأكيد على مناطق القوة في تكوين الجسم. بحيث ان قوة المثالية العليا في التكوين هي التي تميز نظام الصورة التي ستحل بها الارواح. لقد جسد لنحات عبر مادته وبوساطتها فعل ارادته، أي مخططه الذي ارتسم قبل ذلك في وعيه. فهنا تتجلى الهيئة البشرية ليس كونها محض شكل طبيعي، وانما باعتبارها تمثيل الروحي وتعبيره الكامن في اعماق الافكار الانسانية.

واخيرا فان مثل هذه الاشكال، لا تمثل ذاتها بما فيها من خصوصيات فردية، فهي الخاص الذي يشير او يرمز الى مغزى عام او الى كلي يقف خلفه بدلالته الرمزية الروحية. حيث ترتفع المدلولات فوق الظاهرات الطبيعية المنفردة، لكنها تظل ماثلة للوعي بشكل مواضعات، فيها جزء من خصوصيتها الطبيعية، رغم العمومية التي بها يدركها التمثل.

 

ا. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1782 الاربعاء: 08 / 06 /2011)

 

 

في المثقف اليوم