قضايا وآراء

سماويّات (13): الحقيقة الشعرية و"الغزل المعاكس".. بحث في نقد النقد / حسين سرمك حسن

وهو يختلف عن التغزّل بالحبيبة بضمائر المذكّر غائبا أو مخاطبا – وهذا هو الجانب الآخر من الإشكالية - كما تقول القرني في الهامش (40) على الصفحة 260 من كتابها القيّم : " هو.. حبيبي.. سيدي.. أنتَ يا... إلخ "، حيث تقول في معرض التفاتها إلى هذه الظاهرة في تناولها لقصيدة السماوي " : أيها البدر العسيري، من ديوانه " عيناكِ لي وطن ومنفى ": (.. فمع أنني لا ألوم الشاعر على تأثّره بهذه العلة التي يُسرف يعض التقاد في تسويغها، إلا أن هذا لا يمنع من تسجيل عدم تقبلي لها، وعدّها من دلائل ازدواجيتنا الأخلاقية / اللغوية اجتماعيا وإبداعيا أيضا – القرني – ص 260 / الهامش 40).  أي أن الناقدة قد عدّت تلبس الشاعر مشاعر وعواطف وأفكار الأنثى (إلتفاتة فارقة قلّ أن تستدير بها أعناق الشعراء – ص 166)، في حين أنها لم تتقبل مغازلة الشاعر حبيبته بضمير المذكّر. وفي واقع الأمر، فنحن نجد في الموقف الأخير غير المستساغ " إلتفاتة فارقة " أيضا تتطلب أن يتبنى الشاعر " أنموذجا " متخيلا للحبيبة تكون فيه في موقع الذكر من ناحية، واستعدادا " جديدا " على الشاعر الذكر في أن يستخدم خطابا ذكوريا لأنموذج هو في حقيقته " الموضوعية " ذي طبيعة أنثوية. بمعنى أن الشاعر في الحالة الأولى يقف موقفا صعبا حيث يصبح لزاما عليه أن يضع ذاته في موضع الأنثى العاشقة، وأن يتلبس موقفها النفسي و " خفايا " دوافعها نحو الرجل وهو موقف غريب عليه. سيصبح لدينا في هذا الموقف المركب أربعة أطراف وليس طرفين : الأول الشاعر (الذكر) الفعلي مبدع النص، موجّه الخطاب الذي صار " مستترا " في ساحة الحضور الفعلي الآن، والثاني المرأة العاشقة التي يوجّه الشاعر الخطاب العشقي " نيابة " عنها ولكن على لسانها، والثالث هو الرجل الذي تعشقه والذي سيكون " إسقاطا " للصورة التي يتمنى الشاعر أن يكون عليها في حالة كونه المعشوق المفترض، أما الرابع فهو الحضور الأنثوي الأنموذجي " المستتر " في ساحة النص والحاضر في ذاكرة الشاعر ووجدانه كي يقيس عليه فهو الطرف الذي اعتاد على أن يكون الشريك في التجربة الحبية المعلنة والمقبولة اجتماعيا عادة. وهذه عملية شديدة التعقيد تتطلب تماهيات واستدعاءات وتمثلات كبيرة على صعيدين : الأول هو كيف يتوفر الشاعر الرجل على مشاعر الأنثى العاشقة ويعرف خفاياها، والثاني هو كيف يحوّل الشاعر الرجل موضوع الخطاب من امرأة كما اعتاد نفسيا واجتماعيا حتى تطبع بذلك سلوكيا إلى رجل كما ستفرضه حيثيات الخطاب الشعري ليعود بعدها إلى نقطتي بداية : أن يرجع كموجه للخطاب من موقع المرأة إلى موقع الرجل، وكمستلم للخطاب من موقع الرجل إلى موقع المرأة. ولكن هناك حقيقة نفسية هامة يجب أن نضعها في أذهاننا وستزيد الأمر إرباكا وهي أن كل الشخصيات التي تتمظهر على خشبة النص هي من صنع الشاعر وتشكل جزءا من شخصيته شئنا أم أبينا، إذ من المفروغ منه، وسيبدو الأمر كاريكاتوريا ومضحكا، أننا لا يمكن أن نتصور أن هناك امرأة عاشقة تقف في الأمام وخلفها يقف شاعر يهمس في أذنها لتقول للرجل الذي تعشقه ويقف أمامها شعرا غزليا.. في واقع المشغل الشعري هناك الشاعر فقط.. مع أوراقه ولغته ومخزون خيالاته وبقايا التجربة العملية التي يريد تجسيدها، وهي – أي التجربة - هنا خطاب عشقي موجه من امرأة إلى رجل، ولا أحد معه يحضر ماديا أبدا.. أبدا.

وبدءا، هناك نصوص مبكرة فيها ظاهرة " الغزل المعاكس ". فمثلا، في مجموعته " قصائد في زمن السبي والبكاء – 1970 " هناك ثلاث قصائد يستخدم يحيى فيها خطابا مصدره ضمير المتكلمة العاشقة هي :

# " قال لي " ومنها :

قال لي ثغري سكّر

قال لي نهدي بيدر

قال لي جيدي مرمر

وصليب فوقه " عيسى " تسمّر – ص 65

 # " امرأة " ومنها :

متى..؟

متى حبيبي الطهور

نفرح في منزلنا الصغير

تمنحني بنتا كأمها

وطفلا كأبيه صادق الشعور – ص 84

# أما الثالثة فهي " أغلى رجل " وفيها يقول :

أقبل عيناه على صدري

تأكله... تأكل من زهري

رجل في شارع حارتنا

أذهلني.. أوغل في أمري

يأخذني بين ذراعيه

ويظل يشدّ عاى خصري – ص 97

وتتوالى النصوص بعد ذلك في الناحيتين : الغزل المعاكس والتغزل بالأنثى بضمير المذكّر. ففي مجموعته " عيناك لي وطن ومنفى " لتي أهداها إلى رفيقة دربه " أم الشيماء " هناك العديد من النصوص في الجانبين، منها أولا، وحسب تسلسل النصوص في المجموعة، قصيدة " ظمأ " التي يستثير مطلعها تساؤلات هامة :

رفع النقابَ وسلّما

وبحاجبيه تكلما

فلولا البيت الرابع الذي وضعنا " حال " المتكلم فيه " متيّما " أمام مصدر ذكوري لكان من الممكن القول أن المتكلم أنثى تتغزل بذكر. لكن هذا الإعتراض يتهاوى عند المدخل، فمن هو الرجل الذي يضع نقابا على وجهه في أواخر القرن العشرين حيث صدرت المجموعة سنة 1995 ؟! :

ودنا فأغمض مقلتيه

تغنّجا... وتبسّما

فوجدتني بعبيره

رغم انطفائي مُضرما

وتعثرت شفتي بصوتي

فانكفأت " متيّما "

فهنا نجد صوتا رجوليا يتغزل برجل لكن الإحالة ستتفق مع أطروحة الناقدة القرني في أنه تغزل بالمحبوبة بضمير المذكر – الغائب هنا - :

فتعثرت شفتي بصوتي

فانكفأت متيّما

لكنّما عيناي من

شغفٍ تحولتا فما

وحيث يعود المحبوب / المعشوقة ليحسم الأمر بوضع نقابه من جديد ممعنا في إهاجة نيران شوق العاشق وهيمانه به :

فأعاد وضع نقابه

كيدا وقال متمتما :

صبرا على عطش الهوى

إن كنت حقا مغرما

فالماء أعذب ما يكون :

إذا استبد بك الظما

تأتي بعد ذلك قصيدة " يا بعيد الشرفات " (ص 45 – 49) والتي يقول فيها:

يا خجول النظرات

أنت أيقظت قناديلي

وقد كنّ سبات

لا تصدّ الوجه عنا

نحن للحسن رواة

يا كسول الخطوات

هاتني منك رحيق الحب... هات

زن باشذائك بستان قصيدي

لك عندي حقل نعناع

ونهرا صبوات

وهنا سترتبك حسابات البيدر النقدي فلا تطابق حسابات حقله، فهنا خطاب واضح وصريح من مذكر لمذكر، ولا توجد اي قرينة (مثل قرينة القناع في النص السابق) تشي بالهوية الأنثوية للمحبوب المخاطَب، أي أننا لا نستطيع الإفتراض بأن الشاعر يوده خطابه إلى حبيبة (امرأة) من خلال ضمير المذكر (المُخاطب). هنا يكون الغزل ذكوريا بطرفين ذوي هويتين رجوليتين واضحتين. والشاعر يوسّع أبعاد حضور محبوبه بصورة تمنحه ملامح خارقة تعزّز سماته الذكورية في الوقت نفسه :

يا رعاك الله

ما ضرّك لو داعبت قيثاري

عسى تنبض أوتارٌ موات

سأسميك " الفرات "

وأنا الواحة تمتد على ثغر فلاة

كما أن الصفات التي يضفيها على ذاته في المهارات الغزلية تشي بروح رجولية مبادرة وفق سياقاتنا المتداولة :

يا بخيل الكلمات

كنت قد ضيّعتُ بالأمس لساني

غير أن الحبّ قد علمني خمس لغات :

لغة الأنمل والجفن، الفم، الخطو

وبوح الغمزات

فلماذا تكتم السرّ الذي يفضحه الشوق

وهل تكتم عطرا زهرات ؟

إلى أن يعلن بلا لبس عن هويته كعاشق مذكر :

يا خجول النظرات

جيدك المشمس منديل حرير

فلماذا تمنع العاشق

من تطريزه بالقبلات

وسأقفز الآن قصيدتين هما : موشّح : يا صبا جدّة و أيها البدر العسيري لأن لهما سمات خاصة في مخاطبة موضوع الحب، وسأتناول قصيدة " يا ضاحك الشفتين " التي يستهلها الشاعر متغزلا بشفتي المحبوب :

شفتانِ ؟ أم جرحا خزامى

نزفا عبيرا وابتساما ؟

والنص من جديد رسالة مرسلها الشاعر / المذكر وموجهة إلى مستلم هو المعشوق / المذكر أيضا. لكن طبيعة موقف المرسل هنا تختلف عن النص السابق (يا بعيد الشرفات) فهي استقبالية سلبية بدرجة أكبر بكثير :

يا ضاحك الشفتين قد

أضحكت في حطبي الضراما

ثغري يخصّهما السلام

فهل تردّ له السلاما ؟

ضرّجت قلبي بالهيام

وما عرفت له هُياما

وبصورة عامة يكون الموقف الأنثوي في العلاقة الحبية والجنسية استقباليا (سلبيا)، ومحنة الأنثى الشاملة في حياتها النفسية أصلا تتمثل في محنة (الإختراق)، فالأنثى تُخترق في كل دورة شهرية، وفي كل مواقعة جنسية، وفي الحمل وفي الولادة. كما أن الطابع المركزي لصلة الأم بطفلها " رجلها – أول تجربة حبّ " هو الحنو الإستقبالي.. الإحتضان المعطاء ذو الروح التحملية الهائلة.. وكل ذلك يوصل إلى السمة المازوخية في الموقف الأنثوي الحبي. وقد تشي سيادة هذه الروح في خطاب هذه القصيدة بأن الطرف المرسل يحمل " روح " أنثى رغم أن الضمائر والأفعال المستخدمة وهوية الشاعر تشير إلى أنه ذكر :

إني أضعت حدائقي

وأضعت نهري والوئاما

ونسيتُ – يا حلو – الكلام

تعال علمني الكلاما

واغرس على شفتيّ من

شفتيك أزهار الخزامى

ويتكرر هذا المنظور الإلتباسي ثانية في قصيدة " زرني خيالا عابرا " رغم أن هوية المخاطب الذكورية واضحة من عتبة العنوان. ومما يزيد من الإلتباس هو أن الضمائر التي تستخدم في اللغة العربية للمتكلم هي ضمائر مشتركة : فـ " أنا " تستخدم للمذكر والمؤنث، مثلمل هو الحال بالنسبة للـ (ياء). وبالتالي فقد نقطع شوطا طويلا من النص، وقد نكمله حتى النهاية دون أن تتضح معام مرسل الخطاب الشعري هل هو رجل أم امرأة. وهو ما حصل في النص السابق " يا ضاحك الشفتين " الذي هو خطاب من مذكر إلى مذكر، وقمنا باستشفاف سمات أنثوية عن شخصية المرسل من خلال الإيحاءات النفسية التي توحي بها الأفعال والاسماء والرموز من ناحية وطبيعة علاقاتها من ناحية اخرى. أي أن الأمر ليس كما تقول الناقدة القرني – متعاطفة بفعل موروثها الديني والروحي وتنشئتها الاجتماعية – خطاب لا تستسيغه لأن الشاعر يتغزل بحبيبته مستخدما ضمير المذكر، بل هو خطاب من مذكر إلى مذكر (خطاب مثلي وفق المصطلحات الطبنفسية). وفي هذه القصيدة يرتسم بعدا هذه العلاقة منذ البداية :

يوم دخلتَ روضتي

وددتُ أن أطيرا

يا عاشقا يملؤني غرورا

زُرني خيالا عابرا

لعل خطوك الرشيق يورق الزهورا

 لكن يمكننا استنادا على الأطروحة / الفرضية السابقة حول الطابع الاستقبالي (المازوخي) للطرف الأنثوي في العلاقة الحبية والجنسية، مضافا إليه المفردات المستخدمة الدالة على الإستقبال والخصب والنماء فإننا نستطيع تخمين هوية المُرسِل بدرجة مقبولة. فالمفردات التي يستخدمها الذكر تكون اختراقية مستقيمة تمزيقية مدببة وذات طبيعة مادية صلبة وذات متجه محدد، أما المفردات التي تستخدمها الأنثى تكون استقبالية دائرية احتوائية فضفاضة وذات طبيعة لدنة مرنة ومطواعة :

ظامئة حديقتي

فهل بعثت غيمك المطيرا ؟

زرني خيالا عابرا

واغرس بأحداقي منك نظرة

فللقاء شيّدوا الجسورا

زرني

تجدني غيمة تُمطرك العبيرا

أتعبني الهجر يا مؤرّقي

فصدّ عن حديقتي الهجيرا

فهنا نلاحظ كلمات مثل : الحديقة والغيمة والعبير رموزا تستخدم في الأعم الأغلب للتعبير عن الأنوثة. في حين أن مفردات مثل : اغرس والجسور، وقبلها الخطو والدخول والمطر رمز تستخدم عادة لوصف الفعل الذكوري. ويجب أن نضع في أذهاننا أن هناك رموزا مزدوجة المعنى الأمر الذي يزيد من درجة الصعوبة التي نواجهها في تحديد الهوية بدقة من دزن وجود اسم الشاعر (معرفة هويته)، وهنا نلاحظ أهمية (اسم المؤلف) في توجيه مسارات إدراك الناقد فكيف يموت المؤلف ؟. ثم تتعزز طبيعة الهوية الأنثوية من خلال الأفعال العاطفية التي ترسخت في مداركنا كأفعال تقوم بها المرأة عادة (نمطيات السلوك الجنسي) :

زرني خيالا عابرا

وانثر على وجهكَ شعري خيمة حريرا

جعلتُ هدبي لكَ يا مؤرّقي وسادة

ومقلتي سريرا

وساعديّ سورا

لمن تدفّق الشذى من شفتي

وازدحمت حديقتي زهورا ؟

(للحديث صلة طويلة)

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1785 السبت: 11 / 06 /2011)

 

في المثقف اليوم