قضايا وآراء

الرّمزيّة في شعر منير مزيد من خلال قراءة قصيدته "حليب اللّوز والزّيتون" / زهور العربي

صوتُها صوتُ المستضعَفِينَ والأحرارْ، فستانُها تغاريدُ الفرَحِ و الألَمِ، و إكليلُها السماءْ ..

 

أمام هذه الكلمات توقّفت طويلا لأنّ القصيدة (حليب اللّوز والزّيتون) امتداد لها لذلك سأتمعّن معانيها الجليّة والخفيّة ولعل ما بطن أعمق واثرى وتلك وسيلة شاعرنا المحبّبة وهي البراعة في استعمال الرّموز والصّور الموغلة في الغموض والممتدّة الآفاق والتي تعطينا الفرصة للعديد من القراءات والتّأويلات ولعل هذا الأسلوب اشتهر به الأدب الأوروبي وتزعمه عربيا الشّاعر بدر شاكر السّياب ومن قبله نازك الملائكة هذان الشّاعران العراقيان رائدا قصيدة النّثر باستحقاق ولعلّ شاعرنا يسير على نفس خطاهما ليس تقليدا أعمى بل تجديدا و ارضيّة صلبة يقف عليها ليبدع ويترك بصمة (منير مزيد) التي سيخلّدها التّاريخ ويذكرها الأدب العربي بكلّ فخر.بهذا التّعريف المزيدي للشعر أردت أن استهل قراءتي للقصيدة...

 

هذا النّصّ الحديث الولادة كيان متجانس عفيّ ناعم الملمس سلس الكلمات تعبق منه العديد من الرّوائح النثريّة فمن خلال العنوان يتجلى لنا أسلوب شاعرنا الرّمزي فيجعل للوز والزّيتون حليبا مشتركا فماذا قصد شاعرنا؟

 

ولماذا اعتمد اللّوز والزّيتون دون غيرهما؟

ربّما السّبب الرّئيسي هو خلفيّته الدّينيّة فالزّيتون ذكر في القرآن الكريم في سورة( الأنعام و المؤمنون وعبس و التّين)

وهي شجرة مباركة خضراء على طول السّنة لكن لا تعطينا حليبا فثمارها زيتونا يعطينا زيتا...

 

أما اللّوز فهو شجر زهره جميل ابيض وثماره حبّات اللّوز ويمكن أن تعطينا عصير اللّوز وهو مستحلب ابيض مركّز يخلط مع الماء ويصبح عصيرا يقدّم في الأفراح عندنا في تونس خاصّة لكن لا يخلو هذا الشّجر من سلبيات فلقد أوصى(أحيقار) الحكيم ابنه بألاّ يكون كشجرة اللّوز متسرّعا فهي تزهر قبل كلّ الأشجار وتنضج ثمارها بعدها ...

"(يا بني، لا تكن عجولا كشجرة {اللــوز}، فإنها تزهر قبل جميع الأشجار، و تطعم بعدها جميعا) ..

 

لكن شاعرنا اعتبر الشجرتين أمّا أو نهدا يدرّ حليبا ربما لعراقتهما من ناحية وقيمتهما الفلاحيّة والاقتصادية والغذائيّة وربّما السّبب الأهمّ أنهما تكثران في وطنه الحبيب فلسطين فهما متجذّرتان تجذّر الأجداد وصامدتان في وجه التّجريف .. صمود الوطن ....

 

يقسّم شاعرنا قصيدته إلى أربعة أجزاء أو رسائل سيخاطب فيها أربع شخصيات أولها الحبيبة وبعدها السّماء ثم الأشجار وفي الأخير ذاته وهي أربع كلمات من معاجم مختلفة (فضاء ونبات وإنسان) فما مشكلة شاعرنا؟...

 

وما هي هواجسه التي دفعته لينسكب بهذه المرارة العذبة؟..

يبدأ شاعرنا بتوجيه رسالته الأولى إلى الحبيبة ولا يسميّها بل يناديها بصفتها ومكانتها عنده

(حبيبتي) فليست أي امرأة...

 

إنّها التي تعنيه والتي تأسره والتي يعلن أمام الملإ بأنّها حبيبته يتوجّه إليها يخاطبها وكأنّه يناجيها أو يدعوها لتهتم به لأنّه سيعترف بمدى شوقه و في تساؤل حائر عاجز ليعرف مصيره بعد أن أصبح جثّة هامدة فهل سيجرفه(ماء)؟ ...

 

أم ستحمله (ريح) فهي صاحبة القرار وهو المفعول به مجرّد ظلّ لطائر جناحه قرمزيّ... وكأنّه يقصد الطائر القرمزي الذي يعيش في أمريكا الجنوبيّة أو ربّما انتحل شخصيّة بطل قصّة (الطّائر القرمزي) للكاتب (جيمس هاور) ...

 

لله درّك من شاعر ففي أوج ضعفه اختار من الطّيور أرقاها هذا الطّائر الجميل والعريق الذي يلبس حلّة حمراء يمتاز بجماله وصموده فالشّوق كبير والاحتراق يجعله يبعث كعنقاء من رحم الرّماد . وها هي غجريّة الشّمس تغريه وتزيده احتراقا ولا يهمّها أن يصطلي الغير بنارها فهي ترقص له لكن على جثث الموتى والعبيد قمّة الاصطفاء والاعتداد بالنّفس ولا يكون منيرا إن لم يفعل ذلك فحتّى عذابه واحتراقه صورة نادرة تترجم قوّته وتميّزه :

حبيبتي

أيُّ ماءٍ

أو ريحٍ

ستحمِلُ ظِلِّيَ المُحترِقَ شوقاً إليكِ

على جناحِهِ القُرمُزِيِّ

لا تَكُفُّ غجَريَّةُ الشَمسِ عنِ الرَقصِ

غيرَ آبهةٍ بِعُواءِ وجُوهٍ

لا تُرعِبُ إِلاَ ّالموتى و العبِيدْ

 

رغم رائحة الدّخان وطعم الشّواء في هذا المقطع إلا أنّ الصّورة لها أبعاد عميقة تجعل من الشّاعر بطلا ومن الشّمس عاشقة بل غجريّة فلن يرضيه أن تكون عاشقة عاديّة بل غجريّة جريئة تمتلئ رغبة وجرأة ورقصا يثمله ويقتل غيره ولست أدري هل سيموتون حسدا أم حسرة؟؟ ولقد قلّل من شأنهم وأعدمهم فهم (موتى وعبيد)ولا يوجد غيره يأسر هذه الغجريّة ...

 

يا لك من شاعر أيّها المنير وحقّ لك أن تعدم الكلّ لتصطلي بنارها وحدك .. و ليس غريبا مثل هذا الغرور على معشر الشّعراء ألم يقل المتنبّي :

أيّ محـلّ أرتقـي أي عظيـم أتّـقي

وكلّ ما قد خلـق الله ومـا لـم يخلق

محتقر في همّـتي كشعرة في مفـرقي

 

وبعد أن أسر الشّمس هاهو يتجه للسّماء ويخاطبها لكن أي سماء يقصد؟ فسماء كلماته أوسع وأبرح وهذه التي يخاطبها مجرّد تابع لنور كلماته وها هو يتحدّاها ليطلق فراشات شعره الذّهبيّة فمن هي هذه الفراشات؟ أهي القصائد؟ أم هي معانيها المحرقة؟ أم هي الحروف التي ستقطر شعرا ويختار الغسق ليكون فضاءها والغسق هو أوّل ظلمة اللّيل بعد الغروب وبعد الشّفق وها هو يستحيل شمسا لتتصاعد الحرارة من ظلّها ...

 

انّه يشتعل ليبوح ويخاف أن تنفرط من بين أنامله فراشات القصيد لحظة توهّجه يريد أن يطلقها لتلامس السّماء لتكتوي بما بقي في الغسق من هجير الشّمس لا يهم أن اكتوت بتلك الحرارة فالفراش يعشق النّور بالرّغم من انّه سبب نهايته لكن هنا فراشات شاعرنا ستنطلق من أعماقه المتأجّجة لتحيا قبل أن تنتهي اللّحظة الشّعريّة أو لحظة مخاضه حين يلبسه شيطان الإلهام وهو يستغلّ الفرصة حتّى لا يدركه الفطام أو تمضي تلك اللّحظات ويجفّ نهد البوح أو الشّمس أو السّماء أو الكلمات فلا نستطيع تحديد صاحب النّهد وهنا تكمن قدرة شاعرنا في القصيد النّثري فليس مطلوبا منّا أن نفهم كلّ الجوانب في مثل هذه القصائد فما يعنينا هو أن تربكنا الصّور والأخيلة والإنزياحات حدّ الدّهشة ولقد حصلت دهشتي ...

 

وها هو شاعرنا يشن حربه ويدخل في سباق مع بداية وقت البوح ونهايته هذه الفترة التي تشبه لحظات الغسق القصيرة وهي بمثابة النّهد الذي سيشبعه حليبا لكن ليس كالحليب فهو حليبه الذي أدمنه وكبر وترعرع عليه حضارة وانتماء وعقيدة ....

يا أيَّتها السماءُ المُسافِرةُ في نُورِ الكلِماتِ

دعِيني أُطلِقُ فراشاتِ شِعري الذَهَبيَّةَ

في ضَبابِ هذا الغَسَقِ السِحرِيِّ

المُتصاعِدِ مِن حرارةِ ظِلِّي

حتى لا يُداهِمَني الفِطامُ

فِطامُ نَهدِكِ عَن حَليبِ اللَوزِ والزَيتُونْ

 

ينزل الشاعر من عليائه ليخاطب حلمه الذي جعله شجرة ربما ليدلّل على تشعّب وكثرة أحلامه ورؤاه وآماله الكثيرة والوارفة هذا الحلم الذي يحمل بصمة حبيبته وعطرها فهو يدور في مدارها هي فقط ... وهي الملهمة والدّافع والغاية...

 

وها هو يدخل عالم السّحر والشّعوذة ليجاهر علنا بممارسته الألعاب السّحرية ويعترف انّه حاوي يتقن تحويل القصيدة إلى عروس جاهزة للزّفاف حين تغادر فانوسها السّحري المحمّل بالعرائس كلّها تنتظر بلهفة المشتاق أن يبعثها خالقها لترى النّور وتُزفّ على أوراقه ..

 

يا لك من حاوي ايّها الشّاعر صاحب الأنامل الخلاّقة التي تتدلّى منها الكلمات فوانيس تضيء الكون نعم لقد أصبت فلحظة البوح يستحيل الشّاعر حاويا يضرب بقلمه على الورق ليفجّر كلماتها ينابيعا وأزهارا وفراشا وعرائسا لقد أفحمتني بهذا التّشبيه أيها الحاوي الكوني :

يا شَجَرَ الحُلمِ المُعطَّرِ بأنفاسِ حبيبتي

أنا حاوِي القَصائِدِ

أُخرِجُ القصيدَةَ مِن فانُوسِها السِحريِّ

عَرُوساً تستَعِدُّ للزَفافِ

 

يستدرك شاعرنا ليعلن في الفصل الأخير من مشاهده الخلاّقة انّه وحيدا في عالمه المقدّس محراب الشّعر وكأنّ لا شعراء غيره ولا كائنات أخرى غيره ليعلن انّه صاحب الفعل وانّه مفتاح كلّ الأحاسيس وانّه محرّرها من زنازينها فهل الآخر من قيّدها....؟

ام انّه يقصد ذاته...؟

 

هذه الذّات التي تعيش غربة على كافة الأصعدة ربّما غربتها الذاتيّة أعمق وأمرّ إذ تقمع كلّ أحاسيسها وتكبح جماح روحها ربّما سخطا على ما لقيته من تغييب ولا حبّ بين بني جنسها فانغلقت على كلّ مشاعر الودّ وكبّلت الرّوح ها هو الشّاعر يستغل لحظة البوح ومكانها (محراب الشّعر) ليخلّص أو يعتق روحه ويطلق عنانها (للحبّ) ( للفرح الأبدي)وأيضا (للألم)الذي يجسّده في دم الشّهيد الذي يسفك بلا ذنب وكم هي كثيرة شهداؤنا وخاصّة في وطنه فلسطين ورغم الألم فالشّهيد يفدينا بروحه وعمره لكي يرسم (الانتصارْ) وجها صبوحا محمّلا بكلّ الآمال وهكذا يختم شاعرنا القصيدة بباب من الأمل وهو رسالة تمسّك بها اغلب الشّعراء لتخطّي أوجاعهم ورحمة بالقارئ واستحضر هنا بيت الطّفرائي الشّهير : أعلل النفس بالآمال ارقبهاما اضيق العيش لولا فسحة الامل ...

وحيداً

أَسكُنُ في مِحرابِ الشِعرِ

أفتَحُ بوَّابَةَ الرُوحِ للحُبِّ

للفَرَحِ الأبَديِّ

للألَمِ الذي يرسُمُ بِدَمِ الشُهداءِ

وجهَ الانتصارْ

 

كانت جولة ممتعة في ثنايا هذا القصيد النثري الموغل في الرّمزيّة والإيحاء والغموض الممتع بأسلوب متميّز في النسج بالكلمات والخلق والإبتكار وتنويع الصّور و التّكثيف فشاعرنا حداثي كونيّ يريد ان يترك بصمته الخاصّة لعشقه الكبير للقصيد النثري الذي يتقنه وكتب في شأنه الكثير من الدّراسات لينير المبتدئين والمهتمّين بهذا النّوع من الإبداع ولعلّه في هذا القصيد ركّز على الرّموز واهمّها الشّعر والقصيد والزيتون والحليب واللّوز وكلّها لها العديد من الدّلالات ولعلّ أهمّها الحبيبة أو القصيدة فلا فرق بينهما فكلاهما ترمز

للأخرى ...

 

القصيدة :

حبيبتي

أيُّ ماءٍ

أو ريحٍ

ستحمِلُ ظِلِّيَ المُحترِقَ شوقاً إليكِ

على جناحِهِ القُرمُزِيِّ

لا تَكُفُّ غجَريَّةُ الشَمسِ عنِ الرَقصِ

غيرَ آبهةٍ بِعُواءِ وجُوهٍ

لا تُرعِبُ إِلاَ ّالموتى و العبِيدْ

 

يا أيَّتها السماءُ المُسافِرةُ في نُورِ الكلِماتِ

دعِيني أُطلِقُ فراشاتِ شِعري الذَهَبيَّةَ

في ضَبابِ هذا الغَسَقِ السِحرِيِّ

المُتصاعِدِ مِن حرارةِ ظِلِّي

حتى لا يُداهِمَني الفِطامُ

فِطامُ نَهدِكِ عَن حَليبِ اللَوزِ والزَيتُونْ

 

يا شَجَرَ الحُلمِ المُعطَّرِ بأنفاسِ حبيبتي

أنا حاوِي القَصائِدِ

أُخرِجُ القصيدَةَ مِن فانُوسِها السِحريِّ

عَرُوساً تستَعِدُّ للزَفافِ

 

وحيداً

أَسكُنُ في مِحرابِ الشِعرِ

أفتَحُ بوَّابَةَ الرُوحِ للحُبِّ

للفَرَحِ الأبَديِّ

للألَمِ الذي يرسُمُ بِدَمِ الشُهداءِ

وجهَ الانتصارْ

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1786 الأحد: 12 / 06 /2011)

 

في المثقف اليوم