قضايا وآراء

إيقاع المكان المقدس في أدب العراق القديم

هي الإشارة البيرسية (حسب "بيرس") بصورتها العرفية(3)، ولكن العلامات اللغوية (اللغة) بوصفها حركة تصفه الكتابة بوصفها (دال الدال)(4)، حيث إن قيام الكتابة هو قيام اللعب: (و ها إن اللعب يعود إلى نفسه، ماحياً الحد الذي كان يعتقد بإمكان تنظيم حركة العلامات انطلاقا منه.)(5)

لذلك نجد أن تسمية (لغة) كانت تطلق على كل من العقل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والعاطفة والتجربة …الخ.

وها نحن نواجه اليوم نزوعاً لإطلاق تسمية الكتابة على هذه الأشياء جميعا وسواها(6) .

يرى "أرسطو" الارنانات المنبعثة من الصوت رموزاً لأحوال الروح وفي الكلمات المكتوبة رموزا للكلمات التي يبثها الصوت(7)، لذا فأن "جاك دريدا" يرى: ( 8)( بأن الكتابة الصواتية محددة بالفضاء والزمن وهي تحدد نفسها بنفسها في اللحظة المشخصة التي تفرض قانونها على المجالات الثقافية الوحيدة التي كانت وما تزال تفلت منها)، وفي تحليله المثير لمغامرة الغرب الميتافيزيقية والعلمية والتقنية والاقتصادية الكبرى يكشف "دريدا" عن تمركزٍ للروح بين الموجودات و"اللوغوس"، بين الروح والأشياء علاقة إدلال طبيعي أو ترجمة وبين الروح و"اللوغوس" علاقة ترميز تعاقدي ولكن اللغة المكتوبة تثبت تعاقدات توحد بدورها تعاقدات أخرى(9).

يقول "جان جاك روسو" في أول اختراع للكلام ليس ناتجاً عن الحاجات بل عن الأهواء(10)، كما أنّ اللغة الأولى كانت مجازية(11)، ثم ينتقل "روسو" نقلة مهمة عندما يقول: (12)(إن حقل الموسيقى هو الزمن وحقل الرسم هو المكان ولذلك فإن الزيادة فيما نسمعه في أن واحدا من الأصوات أو تعديد الألوان بعد الآخر إنما هو تغيير لاقتصادها، وإحلال ٍ للعين محل الأذن وللأذن محل العين.)

إذن فالكلمة المكتوبة تثبت الفضاء (المكان) وتمسك به لارتباطها بالنظر(العين)، ولكن الكلمة المنطوقة تمسك بالزمن لارتباطها بالأذن البشرية، وهذا يحيل لحقيقة مهمة هي أن قراءة الكلمة المكتوبة في نص ما أو خطاب معين، هو في واقعه إمساك بالمكان والزمان معاً، من هنا تأتي أهمية القراءة والقارئ، فلا غرو عندما يبتدر الله تعالى رسوله الكريم محمد (ص) بأمر القراءة: (إقرأ باسم ربك الذي خلق) (13)، فالقراءة هنا أمر ينطوي على نطق ما هو مكتوب في ظاهره، ولكن في باطنه دعوة للامساك بالزمان والمكان سوية.

إنّ المكان في الفكر الديني والأسطوري القديم له أهمية كبيرة، ويبدو موقـّعاً (من الإيقاع) ومبتعداً عن الفوضى وله وظائف دينية ودنيوية، يقول "مارسيا إلياد" حول المكان: (عند الإنسان الديني، المكان ليس متجانساً، فيه انقطاعات وفجوات فيه أجزاء تختلف اختلافاً نوعياً عن الأجزاء الأخرى)، يقول الرب لموسى(14): (لا تقترب إلى هاهنا، إخلعْ حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة، خروج 5:3)

ولكن المكان في الخبرة الدنيوية متجانس ومحايد، لا انكسار يفرقه نوعيا عن مختلف أجزاء كتلته، فالمكان الهندسي، قابل لأن يتجزأ، أو يتجدد من أي جهة كانت لكنه لا يعطي تمييزا نوعيا ولا توجها انطلاقا من بيئته الخاصة،(15 ) كما أن الناس ليسوا أحرارا في اختيار الموقع المقدس، ليس عليهم سوى البحث عنه واكتشافه مستعينين بالإشارات الخفية،(16 ) ومهما بلغت درجة نزع القدسية عن العالم، لم يفلح الإنسان الذي شاء أن يحيا حياة دنيويه في القضاء على المسلك الديني،(17 ) كما أنه لا يمكن ابتداء شيء أو صنعه بدون توجه أولي، يسبق ابتداءه أو صنعه، وكل توجه إنما ينطوي على اكتساب نقطه ثابتة،( 18 ) حيث إن التجلي الآلي يكشف عن نقطه ثابتة، عن مركز، إن اكتشاف أو تعيين "نقطة ثابتة" أي مركز لهو فعل يضارع خلق العالم. (19 )

في الأدب العراقي القديم يحتل المكان أهمية بارزة في متون نصوصهِ، ففي ملحمة جلجامش مثلا يطالعنا النص بعدة أمكنه مقدسة، فأوروك المدينة هي أول هذه الأمكنة المقدسة بجدرانها وأبوابها ومعبدها "أي -أنا " بل هي مركز النص وسرّته: (20 )

(بنى أسوار "أوروك"، وحرم "أي-أنا" المقدس، والمستودع الطاهر فأنظر إلى سوره الخارجي تجد شرفاته تتألق كالنحاس .

واستلم أسكفته الحجرية الموجودة في القدم .)

إن بناء أسوار أوروك، هو تحديد لها بوصفها مكاناً مقدساً، وتطويبها ومباركتها، لأنها ما عادت مكاناً مجهولاً، بل أصبحت مكاناً مسكوناً، ولا بد من تحديدها لتمييزها عن المكان المجهول الذي يحيط بها، لأن الإقليم المجهول والغريب غير المأهول، يسهم بالنمطية المائعة والشبحية التي يتصف بها العماء (chaos)، والإنسان إذ يحتل هذا الإقليم ويقيم فيه فإنما يحوله رمزيا إلي كون (cosmos) بتكراره طقس ولادة الكون،(21 ) لذا نجد النص مهتما بتفاصيل البناء إلى درجة أنه يطالبنا بأن نقترب من هذا البناء وتفحص أسسه والمشي على أسواره( 22 ) :

اقترب من (أي- أنا) مسكن عشتار

الذي لا يماثله صنع ملك من الآتين ولا إنسان

اعل فوق أسوار (أوروك) وامش عليها

تفحص أسس قواعدها، وآجر بنائها

وتيقن أليس بناؤها بالآجر المفخور

وهلا وضع0"الحكماء السبعة" أسسها

إن البذخ المعماري هذا يشير ويحيل إلى المكانة الدينية والدنيوية لمدينة أوروك، فالبناء بالآجر المفخور وإعلاء الأسوار والاستفادة من الخبرة والتجربة المعمارية للحكماء السبعة في بناء أسسها هو في واقعه لإكساب المدينة منعة وقوة ضد الغزاة، وكذلك لإكسابها جمالا معماريا متميزا.

كما أن الاهتمام بمعبد (أي-أنا) له مهمة دينية مقدسة، فالمعبد يمثل مركز الكون للاتصال بالمتعالي وقد بني بطريقة غير مسبوقة، حيث إن مبدع النص يحاول إيهامنا بأنه حتى الملوك الآتين لا يقدرون على بناء ما يماثله. ويشير النص بأن هنالك اهتماما بالأسكفة (العتبة) لكونها الحد الفاصل بين الخارج (غير المقدس) والداخل (الأكثر قدسية).

هنالك طقوس معينة تترافق مع عمليات البناء، كقراءة التراتيل والأناشيد، وبهذا الصدد يقول د. فاضل عبد الواحد علي:- فالأمير السومري" كوديه" الذي تحدث كثيرا في كتاباته عن معبد الخمسين (Eninnu) ربما معبد النواميس الخمسين "50 me" التي يعتقد أنها كانت العوامل الأساسية في ظهور فنون الحضارة وازدهارها، يقودنا من خلال إحدى تراتيله لمواكبة مراحل البناء منذ البدء في وضع اللبنة الأولى وحتى الانتهاء منه.(23 )

إذن فإن عملية البناء أو إعادة البناء هي تدشين لعهود جديدة، يصاحبها تغير من مستوى ثقافي ومعرفي إلى آخر أكثر ثقافية ومعرفية، ويبدو أن المنتصر هو الذي يقوم بعملية البناء ومن ثم إعلائه، وهذا ما نلاحظه في أسطورة الخليقة البابلية عندما أمر الإله مردوخ بعد انتصاره على تيامات ببناء مدينة بابل (bab-ili) ومعبدها الشهير ايساكيلا (Essajilla) مع معابد أخرى للآلهة العظام،(24 ) أما المدن الخاسرة فلن يصيبها إلا الخراب والتدمير على أيدي المنتصرين سواء كانوا ملوكا أو آلهة وهذا ما نجده في أسطورة "آيرا" المكتوبة شعرا، وآيرا هو إله الطاعون والأمراض وإله الحرب والصيد أيضا.(25 ) حيث يسير إلى مدينة بابل ويهاجمها وهنالك ينتزع من مردوخ سلطاته، ويسلط على بابل الفوضى والخراب ويقوم بذلك أبناؤها أنفسهم:- (26 )

إنهم يطلقون الشتائم على الحاكم المسؤول عن معابدهم

وقد سدوا بأيديهم بوابة بابل، شريان رخائهم

وأضرموا النار في معابد بابل، مثل ما يفعل من ينهب البلاد

أنت الذي كنت تسير في المقدمة وكنت تقودهم

وصوبت السهام إلى أمكور-أنليل (سور بابل) حتى صاح يا ويلي

إن النص يصف حالة من الفوضى وانعدام السلطة، فالناس تشتم الحاكم علنا، وإن ما يحدث هو عملية مماثلة لقتل تيامات حيث نجد العنف موجها للأماكن المقدسة وعلى القائمين في خدمتها، كما أن غلق بوابة بابل وإضرام النار في معابدها وتصويب السهام إلى جدرانهاـ هي محاولة لتجريدها من قوتها ومنعها وبالتالي من احتياز قدسيتها لتحويلها إلى عماء لتعود إلى حالتها الرجراجة، حالة ما قبل الخلق، لذا نجد مردوخ يتحسر على مدينته ويتأسف على زمنه الذي أوشك على الزوال فهو يرى بأم عينه سقوطه وما أقسى أن يرى حاكم نفسه وقد هوى، وها هو مردوخ يمسك قلبه قائلا : (27)

أسفي على بابل التي جعلتها شامخة مثل تاج النخلة

لكن الريح أيبستها

أسفي على بابل التي ملأتها بالبذور مثل كوز صنوبر

لكنني لم أجن ِ منها شيئا

أسفي على بابل التي غرستها فصارت حديقة ناضرة

لكنني لم أذق طعم ثمرها.

يبدو أن إله الطاعون "آيرا" بعد أن تم له الاعتراف بالانتصار، قام ايشوم مساعده بإقناعه بأن لا أحد يستطيع مجابهته كف يده عن بابل، ليس هذا فقط بل عمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتغيير اتجاه العنف إلى أعداء بابل: (28 )

عسى أن يتكاثر من جديد شعب البلاد المباد

وعسى أن يسير على دروبها القصير والطويل

وأن يصرع الأكدي الضعيف السوتي القوي

وأن يسوق رجل واحد منهم سبعة مثل الغنم

وعسى أن تحيل مدنهم إلى خراب وجبالهم إلى قفر

وأن تأتى بغنائمهم الثـقيلة إلى شوانا (بابل)

وأن تعيد آلهة البلاد الغاضبين إلى مساكنهم بأمان

وتنزل في البلاد من جديد الماشية والغلال

إن الدعوات أعلاه والتي يطلقها "ايشوم" هي تأكيدات لقرار اتخذه "آيرا " بحق بابل وسكانها، فبعد أن ضمن ولاءها له يعمل على إعادة بنائها وتأثيثها لتعود قوة مضافة إلى قوته ومركزا له، حيث إن تكاثر الشعب يعني زيادة المقاتلين، كما أن امتلاء دروبها بالناس قصيرهم وطويلهم هو تعزيز الأمن والاستقرار فيها ليمارس جميع الناس أعمالهم ومصالحهم، فضلا عن ذلك فإن إعادة الناس الغاضبين إلى بيوتهم بأمان بواسطة الإله هي في واقعها قرار بالعفو عن المتمردين، والنص يشير إلى أن بابل ستستعيد قوتها وقدسيتها لتصبح مركزا تهابه المدن المجاورة وترسل لها الضرائب والعطايا والنذور: (29)

وإن تجعل كل واحد من حكام المدن يجلب جباية باهضة إلى شوانا

والمعابد التي سمحت بتخريبها عسى أن ترتفع قممها عاليا مثل الشمس المشرقة

وعسى أن يأتي دجلة والفرات بمياه الفيض

وأن يأتي كل واحد من حكام المدن بهبته إلى خازن معبد "أي- ساكيلا" وبابل

والنص يشير بوضوح لإعادة إعمار المعابد التي خربت، فقدسية المدينة ومنعتها نابعة من قوة المعبد وقوة آلهته وتميز بنائه وعلوه، ويبدو أن الأمكنة المقدسة لا يخلو منها مكان أو زمان، وبهذا الصدد يقول الأب د. يوسف حبي (30 ) :-

لذا كانت" الأمكنة المقدسة"معروفة وقائمة في جميع المعتقدات والأديان وفي سائر الأمكنة والأزمنة، ولدى كل الأقوام والشعوب، لم تشذ في ذلك ديانات التوحيد مع تأكيدها لاسيما المسيحية على العمق الروحي والباطني للمكان والقدسية.

سيكون من الضروري التعرف على الفردوس في البنية الأسطورية القديمة، بوصفها مكانا مقدسا، ففي أسطورة "أنكي و ننخرساك" نرى أن جنة عدن هي دلمون ( أرض البحرين) حاليا هذه الجنة كما يكشف عنها النص مكان ترسمه المخيلة الخلاقة للأديب الرافديني بزمن يكاد أن يكون مطلقا ليس فيه موت ولا آلام ولا افتراس ولا كبر في السن أو هو مكان فيه علاقات مثالية غريبة عن عالمنا الذي نعيش فيه (31 ) :-

في دلمون لا ينعق الغراب الأسود

ولا يصيح طير " اتد?و" ولا يصرخ.

ولا يفترس الأسد، والذئب لا يفترس الحمل.

ولم يعرفوا الكلب المتوحش الذي يفترس الجدي (…. )،

ولم توجد الأرملة (…. )

والحمامة لا تحني رأسها

وما من أرمد يتشكى ويقول "عيني مريضة "

ولا مصدوع يقول "في رأسي مرض الصداع "

وعجوز" دلمون" لا تقول أنا عجوز

ولا يقول الشيخ " أنا شيخ طاعن في السن"

والعذراء لا تستحم، ولا يصب الماء الرائق في المدينة

ومن عبر نهر(الموت؟) لا يتفوه ويقول …

والكهنة النائحون لا يحومون حوله

والمنشد لا يعول بالرثاء،

وفي طرف المدينة، لا ينوح أو يندب

إن الأديب العراقي القديم يحلم بفردوس أو مكان عجائبي، ليس فيه أحزان.

الكل أحياء ولا تبدو عليهم آثار الزمن، أي إن الزمن لا يعمل، وهذا المكان يتصوره الأديب العراقي يقع بعد عبور نهر الموت، الإنسان فيه حي ودائم الشباب والعدد ثابت فليس هنالك ولادات أخرى لأن المرأة العذراء لا تأتيها الدورة الشهرية لذا فهي لا تستحم، وليس هنالك من يموت أيضا، لذا فليس هنالك نواح عليه من الكهان ولا المنشدين، إن الفردوس المرسوم هنا مكان طاهر ومقدس، يجب أن يكون نظيفا ومشرقا ومياهه عذبة ومزارعه ُ وحقوله تنتج القمح والغلة، وهنا نلمح مفارقة غريبة فالزمن يعمل فقط على ما هو نباتي، وإلا فكيف ينمو النبات وينضج بدون الزمن (32 ) :

الأرض ( دلمون ) هي الموطن الطاهر

الأرض (دلمون ) هي المحل النظيف (….)

الأرض( دلمون ) هي الأرض المشرقة (….)

(دلمون) تشرب ماء الرخاء

آبارها ذات الماء المر، أنظر تراها وقد أصبحت مياهها عذبة

حقولها ومزارعها أنتجت الغلة والقمح،

مدينتها، أنظر تراها وقد أصبحت دار للشواطئ ومراسي الأرض.

قد تكون لحظات الخوف واليأس من المجهول هي التي تجعل الخطاب القديم يبدع هكذا نصوص، وربما فقدان الأمان ووجود الظلم واللاعدالة تجعل الأديب ينكفئ للداخل ويمني نفسه بوجود فردوس بعيد، ولكن في الحالات التي تكون فيها العدالة والاحترام والقانون هي من يسير المجتمع، نرى أن الخطاب يتحول إلى اتجاه آخر حيث تصبح المدينة هي الفردوس، أي إن الفردوس تكون موجودة هنا ولم تعد هناك وتتحول بموجب هذه الرؤية هكذا مدن أو بلدان إلى فراديس ولا يتوانى الأديب من خلع تاج العظمة عليها أي على بلاده (33 ) :

يا(سومر)، أيها البلد العظيم

يا أعظم بلد في العالم

لقد غمرتك الأضواء المستديمة

والناس من مشرق الشمس إلى مغربها

هم طوع شرائعك المقدسة

إن شرائعك سامية لا يمكن إدراكها

وقلبك عميق لا يمكن سبر أغواره

أي يا دار سومر

إن النص أعلاه يمثل لحظة عشق بين أديب وبلاده، هي لحظة وجد صوفية يعيشها الأديب ويتصورها بكل صدق فالمدينة تسبح بالنور، والحياة جميلة والشرائع عادلة وسامية، أما قلب المدينة فهو عميق ومترع بالحب لأبنائها، ولكن على العكس من ذلك نجد مدينة "أوروك" في ملحمة جلجامش تؤرخ لمرحلة كئيبة كان يعيشها الأديب العراقي، فالنص يكشف لنا عن انتقال المدينة إلى مستوى حضاري آخر، أو هو تدشين لنظام ثقافي آخر، حيث نجد جلجامش بطل مريع، فهو لم يعد السور والحمى بل صار آلها ظالما وصلت مظالمه إلى مسامع مجمع الآلهة (34 ) :

جعل الآلهة العظام صورة جلجامش تامة كاملة

كان طوله أحد عشر ذراعا وعرض صدره تسعة أشبار

ثلثان منه إله، وثلثه الباقي بشر

وهيئة جسمه لا نظير لها

وفتك سلاحه لا يصده شيء

وعلى ضربات الطبل تستيقظ رعيته

لازم أبطال" أوروك" حجراتهم متذمرين شاكين :

لم يترك جلجامش ابنا لأبيه

ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار

ولكن جلجامش هو راعي "أوروك"، السور والحمى

إنه راعينا، قوي وجميل وحكيم

لم يترك جلجامش عذراء لحبيبها ولا خطيبة البطل

وأخيرا سمع الآلهة شكواهم

إن الأديب العراقي في هذا النص العظيم يرسم صورة عجائبية للبطل جلجامش من الناحية الجسدية ويخصه بصفات إلهية وبشرية، ولكننا لا نقدر أن نخفي إعجابنا بتهكميته البارعة (أعني كاتب الملحمة) التي وصلت إلى حد السخرية من الآلهة نفسها التي خلقت هذا البطل العجيب، أو عن جدوى خلقه، إن النص يصور لنا أوروك عبارة عن ثكنة عسكرية، فالناس ينامون ويستيقظون على قرع الطبول، طبول الحرب التي يقرعها رجاله مما جعل الرعية يعيشون في إنذار دائم هذا الإنذار الذي لم ينجو منه لا الرجال ولا النساء، ولا العذراء ولا المتزوجة، ولا الابن الوحيد ولا الأبناء العشرة، بالإضافة إلى المظالم الوفيرة التي كان يغدق بها جلجامش على رعيته ليل نهار، إن الكاتب المبدع يجد في تصوير أوروك بوصفها جحيما أرضيا لا يطاق، ولا يمكن العيش فيه، إن النص يريد أن يقول لنا ما فائدة الراعي جلجامش حتى لو كان جميلا وحكيما وقويا إذا كان مهتما بنفسه ومغامراته فقط، وأيّ سور ٍ وأيّ حمى إذا كان يعيش خلف هذه الأسوار الناس عبيدا وجنودا إلى ما شاء الله، إن مأساة أوروك يجمعها الأديب العراقي القديم ويبثها في هذا البيت العظيم (35 ) :

هو راعيهم ولكنه يضطهدهم، وهو قوي وجميل وحكيم

والبيت أعلاه يكشف عن تحول في البنية الذهنية العراقية، حيث إننا نلمح تحولات مهمة خصوصا في الجانب السياسي، فالآلهة عشتار يتقلص نفوذها ويبدو أن " شمش " بوصفه آلهاً هو الذي يقدر الأمور في أوروك، فإذا كان الجميع في خدمة بعضهم البعض في زمن عشتار، فإن أوروك الحالية تغير وضعها السياسي حيث تغير الوضع وصار الجميع في خدمة الواحد الفرد، لذا فلا نستغرب أن يضج الناس، فالحالة بالنسبة لهم جديدة وغير مألوفة، حيث إن النخبة الواعية وبالأخص الكتبة كان يعز عليهم أن يجدوا أوروك ما هي إلا حظيرة وهم عبارة عن ماشية، يـُعلفون ويـُسمنون ويقدمون نذرا بشرية على مذبح العنف للإله " شمش "وممثله جلجامش، لذا فالأديب العراقي القديم كان يصف الحالة وصفا دقيقا لحد التفاصيل ولكنه لم يفسرها لأنه ليس من واجبه تفسيرها بل التفسير والتأويل هي من مهمة القارئ .

ولو عدنا للبيت المذكور سابقا نجد هنالك تكنيكا متطورا استخدمه الأديب على مستوى بناء الجملة لكي يوصل لنا ما يريد قوله، حيث جمع بين الملك والرعية في بيت واحد لكنه أفرد له صفات متناقضة، فهو الراعي والمضطهـِد (بكسر الهاء) والقوي والجميل والحكيم، فالملك في هذه الجملة هو كل هذه الصفات والعناوين، أما الرعية التي يقع عليها الفعل فهي مغيبة ومهمشة ولا يشار إليها إلا من خلال الضمير المنفصل ( هم)، وهو مندرس وملحق بملفوظ الراعي /هو راعيهم/ وبملفوظ (يضطهدهم) ولا شك أن هذا الاستخدام المبدع للغة قلما نجده حتى في نصوصنا المعاصرة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأديب يتخفى وراء جمله ويستخدم جلجامش بوصفه قناعا بصوره ذكية ومبدعة .

 تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1157 الخميس 03/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم