قضايا وآراء

الشجن وتحفيز المترسب من الذاكرة في مجموعة (اسباخ على رصيف التعب)

ووجودها في دائرة الاحداث وصولا الى انتقاء ما يوازي هذه المشهدية بواسطة مجموعة من الصور التي تحمل مأساة . سنختار  في هذه القراءة قصيدتين هما (احابيل معلقة ومرافئ مؤجلة للريح). 

 

ان الصورة التي تواجهنا في (احابيل معلقة) مؤطرة بقلق يعتمل في صدر وعقل الراوي . هذا القلق ينفتح على رؤية مشهدية يومية تتواشج مع  المترسب الذاكراتي /المعلق/ في خبايا الروح. هذا الذاكراتي لم يمت لحد الان  بدليل هذا الكم من الافعال المضارعة المتلاحقة /يتحرك،يصد، تصبح،  تقرب، تلوح ) ذات البعد الحركي الذي يستجلب صورة تفضي الى ماهو شخصي متمركز في مساحات ماهو ذاكراتي ومتصل بخيط رفيع في ماهو واقع  تحت تاثير اليومي

 

لم يتحرك قطار الصمت

والباب المقفل مازال يصد هبوب الريح

ثمة اغنية جرداء تصيح

ابلع في فمك الخوف ولاتقرب من بيت الجن

 

ان مجموعة الخيوط الرابطة لهذا المشهد متحققة بنحو بصري الا انها غير ملتصقة بافعالها من الناحية التنفيذية، بمعنى انها تفارق هذه الافعال بغية التحول من مشهد المراقبة الى مشهد الفعل المغير . فالراوي - هنا - راوعليم يغيب عن المشهد في بدايته ليسمح لما هو بصري ان ياخذ مساحته لكنه سرعان ما يتدخل بنحو اخر من اجل استعادة المناخ المناسب لما يواجهه حتى لا تحصل هوة بين الفعل ومنتجاته

ابصق في وجه الذاكرة التعبى ما زال طريدا وجهك

 

ان دلالة الفعل / ابصق/ تعمل على تحفيز،او تثوير الساكن من الافعال على الرغم من ان عملية / البصق/ حاصلة فيما هو ذاكراتي، وقد اختار الشاعر بعناية كتمة /و وجه / للذاكرة كمي يحقق فعل / البصق /  بنحو ملموس على ذاكرة تحمل /التعب / . ان الانعطاف الذي يحققه البعد التاريخي/ الديني في / يوسف / والذي يمثل الشخصية الكفاحية ضد النفس اولا وتقويم الاخر ثانيا هو جزء من استجلاب بنية جديدة على مسار السرد . ان  فضيلة هذه الانعطافة تكمن في ان الراوي يخوض الحرب نفسها التي خاضها يوسف لكن بصراعات واشكاليات مختلفة في وسائلها ونتائجها .ان مجموعة المفارقات المتاسسة في هذا النص قد اختزلت في شخصية الرواي الذي يلبس لبوس  / يوسف / من اجل ان تتحقق نبوءته في تشخيص الاخر وتحقيق حضوره من خلال مجموعة من القيم التي تشتغل على التشبث باليات إنسانية راقية . انالمصير الحضوري المستجلب من اروقة التاريخ يستعيد قدسيته من طقوس الصدق المعلقة في سماء الحقيقة لان احابيل الخداع والزيف تبقى معلقة في الظلمة والسواد .

 

اما قصيدة / مرافىء مؤجلة للريح / فيضعنا النصيص في مواجهة بين ما هو مكاني وما هو زماني، اذ ان المرافىء هي المقابل المكاني / للريح / التي توحي بالتمرد والطغيان .فالعلاقة القائمة بين المرفا والريح علاقة م                    واجهة دائمة في دائرة التاويل، الا ان ورود كلمة / مؤجلة / قد اضفى بعدا مهما على النصيص، وكان الشاعر اراد ان يؤجل ما لا يمكن تاجيله على المستوى الواقغي بيد انه يمكن ان يحدث علا المستوى الشعري . هذه التقنية ترمي الى تعميق احساس المتلقي بقوة الزمن في مواجهة المكان، وهذا ما تعمقه بداية القصيدة فينا

 

في دائرة العنف لغة

تتنفس حرف الصمت

وهناك مرافىء عمياء

لن تفهم ما يجنيه الوقت من الافات

 

ان النص منذ بدايته يستفز الاخر ومداراته . هذا النكوص الروحي ابتكره الواقع المنطوي على تحديات صعبة قد تصل حد الموت، غير ان  الراوي / الشاعر يصوغ كونه من خلال يقظته الفكرية وتمسكه بما هو صحيح. ان حضور ما تاريخي لرموز كبيرة مثل النبي يوسف والامام علي قد اكسب النص تاريخية جديدة عبر ارتحالات هذه الشخصيات في ازمنة غير ازمنتها مما ادى الى انفتاح النص عبر شخصيات كارزمية لم ترتحل من الذاكرة لانها استطاعت ان تبرهن صدق مبادئها في ضوء معطيات زمنها والزمن الاحق لها . هناك استبطان واضح لشخصية السياب بطريقة اسباغ ما كان على ما موجود . ان هذا التوق الى الاتحاد بهذه الشخصية نمّت عن روح شفيفة يملؤها الحزن حيال مفارقات الحياة . هذا التشبث يحاول ان يخلق توازنا بين ما هو داخلي زما هو خارجي

يا سياب البحر

عقيم والافكار

نلوذ بجيكور الايتام

قد زخت جيكور البائس

بجراد العصر

بل في سبخ الانهار

 

ان خلخلة العلاقات بين سطر واخر تؤشر تلك الرؤية الداخلية التي تعتمر في نفس الشاعر من دون الالتفات الى حقيقتها الثابتة، وهذا هو ديدن الشعر الجيد الذي يقوم بخلق علاقات غير متوازنة بين الاشياء، انه يبحث عن النشاز الشعري، لهذا خلق الشاعر مفارقة اعتمدت على ثنائية متعارضة / البحر والعقم / الزخ والبؤس / السبخ والأنهر / .

 

ان هذه الفجوات بين الدال والمدلول مطلوبة في الشعر الحديث لانها تزيد من مساحة الازاحة الشعرية. ويستعمل الشاعر تقنية التنافر بين الفعل وفاعله ليزحزح قناعاتنا بالثوابت من خلال خلق مسارات استبدالية لمل هو جار على ارض الواقع مما ادى بالنتيجة الى خلخلة توقع المتلقي وثراء المتخيل الشعري

 

 

فز الحجر من الارض

ولا يصحو الظلام

ونهر بويب يبقى

نهرك اذ جفت فيه الاحلام

يبقى يحرس وجه

هويل والاغنام

 

ان هذه الثنائيات المتعارضة واستجلاب الماضي واسباغ القدسية التي يستحقها صيرت الخطاب بنحو مؤثر لانه انطوى على كشف مظاهر تاريخية ذات علامة مضيئة في تاريخ المدينة. هذه الخيوط الدلالية عمقت بنية الجملة الشعرية وساعدت على كشف مايصبو اليه الشاعر من دون ضبابية . لقد استطاع الشاعر ان يصوغ حزنه مما يترسب في ذاكرة او مايتشكل لحظويا وجاءت قصائده متطابقة بين ماهية مايعتمر بداخله من حسرة وشجن ومايراه من خراب النفوس

 

رياض عبد الواحد

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1168 الاثنين 14/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم