قضايا وآراء

دراسة نقدية لكينيدي

كان في الماضي وبعيون الحاضر عبارة عن تجربة عامة، فصورة الشباب العاطفية تتحول إلى مجرد أوهام باردة، إلى أضواء قاسية مصدرها حكمة "النضوج".

و بتعبير بيتر بيرغير: "من الآراء الشائعة والمغلوطة عن الماضي إنه ثابت، وغير قابل للنمو، وغير متبدل، وكأنه بعكس تيار الحاضر المتقلب دائما. ولكن، وهذا أقله في حدود وعينا، إن الماضي خاضع للتبدل ومرن، وهو يتبدل باستمرار مع خبراتنا وهي تعيد تأويل وتفسير الأحداث السابقة. نحن لدينا عدة شخصيات حية بمقدار ما لدينا من وجهات نظر. ونحن نواصل إعادة تأويل سيرتنا الذاتية مثلما فعل الستالينيون في إعادة كتابة تاريخ الموسوعة السوفييتية، لقد اعتبروا بعض الأحداث القادمة ذات أهمية حاسمة، ودفنوا سواها في حفرة النسيان المخجلة".

 هذا صحيح أيضا في حال الحكم على شخصيات تاريخية عامة. ليس فقط لأن سلوك السياسيين ورجال الحكومة يخضع باستمرار لإعادة التأويل من زوايا جديدة، ولكن أيضا بسبب الأثر الضروري الغامض والمعقد للسلوك العام. وكما قال شكسبير، كل من الأفعال الطيبة والشريرة التي يقترفها القادة السياسيون تستمر على قيد الحياة بعد رحيلهم، ويجب دائما فحص تراثهم مجددا، على ضوء التطورات التي نجمت عن سياستهم. وقد يستغرق هذا سنوات أو عقودا قبل أن تتضح نتائجه. لذلك كان من المحتم على جون كينيدي أن يتحول إلى موضوع للنقد التاريخي . وكما هو متوقع كان النقاد أحيانا يدانون بمحاولة آثمة في إعادة كتابة التاريخ. غير أن " التاريخ " كدلالة عامة وشائعة مجاله المفاهيم المتداولة والمتبدلة للماضي، لما هو غائب وغير موجود . إنه تأويلات شخصية لأحداث سجلها أفراد عاديون منحازون حتما ولديهم قناعات مسبقة. بالتأكيد ليس هناك رأي واحد عن كينيدي لا يقبل التفنيد، حتى في فترة "أسطرته" بعد الاغتيال مباشرة. علاوة على ذلك، وكما ذكرت سابقا إن صورة كينيدي التي رسمها أنصاره كانت تخضع للتمحيص كلما وصلت الأمور إلى موضوعات سياسية حساسة. على سبيل المثال حرب فيتنام، وعلاقته بليندون جونسون. بهذا المعنى، إن المراجعات النقدية انطلقت من المهتمين بكينيدي، ثم تابعها رجال ونساء تنطوي نواياهم على أهداف أخرى.

 

إن النقد الذي انصب على كينيدي وعلى أرشيفه من السجلات الرسمية لم ينجم أساسا من حقائق أو أدلة، ومع ذلك كانت أوراق البنتاغون، والتي خرجت إلى النور عام 1971، وسيلة ساعدته في توضيح دور ج ف ك بما يخص توريط أمريكا في فيتنام. ثم إن المنهج النقدي كانت له أصول ولكن في أطر مرجعية جديدة. لقد جاءت صورة كينيدي من خلفيات ليبرالية و" براغماتية " تعود إلى بواكير الستينيات. من هذه الزاوية كان كينيدي يبدو قائدا معاصرا ونشطا أيقظ البلاد من الجمود الافتراضي ومن شخصية إيزنهاور المحافظة. غير أن الانتقادات عكست تفكيك منطق الحرب الباردة ضد الشيوعية والنفور من التراث الليبرالي للسياسة المحلية. هنا كان كينيدي يظهر بشكل محارب بارد ومألوف، وسياسي غير خيالي وربما محافظ، تحمّل أعباء جوهرية عن أحزان جونسون ونيكسون :سباق تسلح غير مستقر، اشتباكات عسكرية متزايدة في الخارج، سنوات قلق عنصري، وانتهاك للسلطات الرئاسية. إن الحصيلة الشاملة لإعادة تفسير الحدود الإيديولوجية للمدرسة الليبرالية في أمريكا من قبل الراديكاليين وحتى من قبل بعض الليبراليين، قد وضعت على العديد من الأدبيات المهتمة بكينيدي بصمة أنتلجنسيا كانت تسمى " اليسار الجديد ".

وإن وجهة النظر هذه، التي تبتعد إلى حد ما عن مفاهيم سابقة أرست دعائمها السياسة الأمريكية التقليدية، ساعدت على تصوير كينيدي وكأنه مبدع رائد وجريء رسمت صورته أقلام أتباعه. لقد وضع النقاد جانبا وبنفاذ صبر كل الأحاديث المتعلقة بمسألة الأثر العميق لـ " شخصية " ج ف ك ومقوماته على الأخلاق والسياسة في أمريكا، ولكن التركيز على كينيدي، الرجل الذي نراه في الكتابات المعادية له، غائب تماما من سجلات نقاده.

لقد ردد ويليام أونيل أصداء الانتقادات العامة ونفحاتها حينما وصف النقلة من آيكي (1) إلى ج ف ك وكأنها نقلة من " النثر الحر " إلى " البلاغة "، وتذمر من محاولة كينيدي لتصويرها بشكل حرب باردة " سوف نربحها على أرض ملعب السكواش وفي صالات الرقص التي تعم أرجاء واشنطن ". وبنفس الطريقة نفى رونالد ستيل النزعة الخطابية للكلمة الافتتاحية والتي يغلب عليها " التصوير البطولي "، و" الكليشهات الجاهزة والمملة المغلفة بأوراق السيلوفان ".

إن النقاد لم يجدوا مادة طازجة وفيرة في أفكار كينيدي ولا في إنجازاته. وعلى الرغم من الحرية المفترضة في " دوغمائيته " و" حنانه " و" أسطورته "، كان سلوك كينيدي يخضع لافتراضات تضغط بكل قوتها عليه، والسبب أنه أعوزته القدرة للتعرف عليها.

و بنظر بروس ميروف كان كينيدي "سجينا للأسطورة الأمريكية الجوهرية ولانحرافاتها " وبالأخص " صراع الحرب الباردة ضد الشيوعية العالمية، والنمو المنظم للاقتصاد، وسبيل الإصلاحات الديمقراطية من خلال تشسريعات معينة ".

و لهذا السبب وحده، كان ستيل يعتقد أنه هفوة في تاريخ الليبرالية الأمريكية، فهو لم يمتلك " الحلول اللازمة لعلل المجتمع الحديث "، فما بالك " بالمعادلات والصيغ " لـ " بيروقراطية قوية ورئيس ميؤوس منه، وورطات عسكرية ".

كان كينيدي، في عيون نقاده، أسيرا للماضي وكذلك إخفاقاته، وهو ما نلاحظه بشكل سافر في إدارته للسياسة الخارجية. هنا، كان كينيدي ومستشاروه يتصرفون بوحي من تطورات الحرب الباردة والتي اشترك في تداولها الحزبان الأساسيان. لقدتخيلوا عالما يتحكم به التوازن في القوى بين الأمم الشيوعية وغير الشيوعية، على خلفية من اعتقاد راسخ أن النمو الاقتصادي برعاية الرأسمالية قد يساعد على ترويج الديمقراطية، وهذا يمحو أثر ثورات العالم الثالث كلما توسع الشيوعيون، وفي نفس الوقت يحافظ على الدول الصديقة لأمريكا بصورة دول توازن امتداد الجيب الشيوعي. إن إضافات كينيدي لهذه التطورات، وغالبا مع ذيول تراجيدية كان نقاده يلاحظونها، ألحت على إدانة الحرب الباردة بقوة غير مسبوقة و" بصلابة ". إن هذا التبدل – وهو عبارة عن موضوع له أبعاد في الأسلوب والتقنية وليس في المضمون – كان يعزى لعدة مؤثرات : خبرة كينيدي العسكرية، الظروف التاريخية لجيله، والتي كانت تخشى من " الليونة " وتؤمن أن "احتواء" الشيوعية سياسة ناجعة عموما، إنه خوف معروف تماما بين الديمقراطيين وعليه يقع اللوم لـ " ضياع " الصين واللوم " لمهادنته الشيوعية "، وهذا تطلب من عائلة ج ف ك أن تبرهن عن مستوى رجولته.

بغض النظر عن المصادر التي عادوا ليها، ركز النقاد، عالميا، على " القوة الضمنية " التي أضافها كينيدي للدور الأمريكي خلال الحرب الباردة. وفوق كذلك، إن أطروحة " المرونة في الإستجابة " وتراكم الترسانة الأمريكية كانت عرضة للإدانة لأنها تلغي احتمالات التوصل إلى معاهدة حول الأسلحة الضاربة. ولأنها تسببت في دفع السوفييت إلى تسريع تطوير أسلحتهم، ولأنها وضعت الأسس لتوسيع نطاق التدخل الأمريكي في الخارج، وبالأخص في فيتنام. وأسوأ مما سبق، لقد وضعت " الاستجابة المرنة " تحركات الأمريكيين من جراء أزمات السياسة الخارجية في عتبة متصلبة وحرجة. إن توفر خيارات عسكرية قد قللت من شأن البدائل المتاحة في يد السياسيين، لقد كانوا ينظرون للأزمات وكأنها مناسبات للبحث عن أي فيلق أو سلاح حانت مناسبة استخدامه كرد على ما سلف.

و حتى المؤيدين لكينيدي لاحظوا الأخطاء التي نجمت عن نظرية " الاستجابة المرنة ". وماذا عن سياسة ج ف ك المفترضة في نطاق مبادرات السياسة الخارجية فيما يخص العالم النامي – ولا سيما قبوله " التنوع العالمي "، ورفضه لرؤية مزدوجة لجميع مشاكل العالم الثالث، وعدم قبوله لفرض مؤسسات أمريكية في الخارج ؟.

 

من خلال عدسة النقاد، إن تلك الإجرءات الجديدة والجريئة ( خلافيا ) قد تقلصت إلى حدود نسبية خجولة . وعلى وجه التأكيد، إن عددا من النقاد امتدحوا كينيدي لتعامله الحصيف مع تيارات العالم الثالث ( لا سيما الأفارقة)، ولرغبته في تقبل الحياد كبديل عن الانتماء لواحد من معسكر الأقوياء. ولكن بالنسبة للنقاد، إن تلك التبدلات في الأسلوب لم تنفع في التستر على أهداف كينيدي الأساسية والتقليدية بخصوص العالم الثالث.

و في الحقيقة إن كينيدي أضفى على الدور الأمريكي صورة ممتازة في مجال كبح " حروب التحرير ". ولكن في نفس الوقت كان (وهذا بكلمات ريشارد ج والتون) " العدو الأول لحركات التحرير فيما بعد الحرب العالمية ".

و بعيون نقاده كانت القوى المضادة للثورات هي الصورة المثالية التي عبرت عن رد كينيدي على قلق وغضب العالم الثالث. وإن اعتبار الأسلوب فوق الجوهر في شخصية ج ف ك افترض اعتماد طريقة حرب العصابات في العالم النامي، وذلك من غير الإجابة على المعضلات الجوهرية التي فجرت شرارة حرب العصابات أساسا.

لقد كان من ضمن مواصفات الولايات المتحدة ومن صلب شخصيتها " ثقافة وطنية متكبرة "، وهذا دفعها لفرض قيم أمريكية بخصوص التحديث والتبدل الديمقراطي على بلدان أخرى.

مثل هذه النقائص، إن شئت، كانت تبدو للنقاد من صميم التبدلات " الثورية " الزائفة التي أصابت سياسة المعونة الأمريكية. إن اتباع سياسة تقدمية، على سبيل المثال أتت من الرعب الناجم عن الثورات الكاستروية والتي انتشرت في طول وعرض أمريكا اللاتينية، وربما من الاهتمام الأصيل برفاهية سكان الولايات الجنوبية. ومع أن هذا " جديد " بمعناه، فيما يتعلق بالابتعاد عن " السياسة المألوفة لدعم الديكتاتوريات والأقلية الحاكمة الفاسدة والانقلابات العسكرية " فهي لا تزال تمررالدعم عبر النخبة التي تستفيد من هذه الحالة. وبلا شك، كما قال بعض النقاد، وبتصميم، إن الإصلاحات التي ساعدت المؤسسة كانت طارئة وليست دائمة وعميقة، وبالإضافة لما سبق، لقد بدأت بعد الإهانة التي كالها لهم كاسترو والروس في أعقاب أزمة الصواريخ، ولتعدل من خوف أمريكا بخصوص انتشار الشيوعية عبر وسط وجنوب أمريكا.

و كما أكد النقاد، إن السلوك الانتهازي الذي وظفته إدارة كينيدي في مضمار " الانحياز التقدمي " كان رمزا لسياسته تجاه أمريكا اللاتينية، وفي الحقيقة، تجاه كل العالم النامي. إن سياسة كينيدي في دعم " اليسار الديمقراطي " كان الغرض منه خدمة المصالح الأمريكية أولا وأخيرا – وكما قال ريشارد بارنيت كان ذلك أيضا " الأمل الأقوى لفرض التحديث على أمريكا اللاتينية دون عنف ودون تحريض لمشاعر الكراهية ضد اليانكي".

 ومع أن هذه الإشارة كانت تبدو بحثا عن تبدل أساسي بأساليب سلمية، إن سياسة الإدارة الحاكمة استبعدت استخدام القوة والعنف للتغيير، ولكن فقط، كلما برهنت الظروف على عدم ملاءمتها للمصالح الأمريكية – هذا حينما كانت صفاتها الشخصية ذات طابع ثوري.

إن إدارة كينيدي لم تتخذ إجراء لمنع الانقلاب اليميني الذي استهدف التخلص من خوان بوسش (2) في جمهورية الدومينيكان وبسبب ارتباطات بوسش المدعومة من الشيوعيين. وبالمثل، إن كينيدي ساعد في إثارة الفوضى داخل نظام غاغان في غوايانا البريطانية (3) بسبب ارتباطاته المزعومة مع اليسار المتطرف.

بالنسبة للنقاد، إن النتيجة النهائية – والأكثر مأساوية – فيما يتعلق بكينيدي وتصميمه على محاربة ثورة العالم الثالث، كانت تسريعه لوتيرة الدور الأمريكي في فيتنام. وقد لخص ستيل دراماتيكيا حالة الإدانة (الذنب) حينما نعت فيتنام باسم " الحرب الليبرالية " التي " غطاها وقرظها ووجهها مثقفون سحرتهم أضواء القوة، وكانوا تواقين للبرهنة على صلابتهم وبراعتهم ". وكما عبر بارنيت عن ذلك، كان كينيدي ينظر إلى فيتنام كـ " حالة اختبار " هدفها تعديل أثر الثورات، وقد طبق هناك كل التقنيات الجديدة المتاحة بين يديه للقضاء على " حرب التحرير".

 ولهذا السبب كانت اللغة الدرامية لهذه الأخطاء الفادحة في استراتيجيات كينيدي ضد الثورات تتجلى بـ : النزوع للمساواة بين الثورية والشيوعية، والإيمان المتغطرس بقدرة الولايات المتحدة في التأثير على السياسات الداخلية للبلدان الأخرى، التعامل مع الشيوعية وكأنها مونوليث، والوهم الذي يعتبر تكتيك حرب العصابات أسلوبا ناجعا، حتى لو أنها كانت تتحرك بمعزل عن أهدافها.

لقد رأى النقاد في زعم بعض المعجبين بكينيدي وكأن بطلهم على وشك الاعتراف بأخطاء أساليبه. ولكن كينيدي لم يكن يلاحظ الأطروحات التي استند عليها توسع أمريكا في فيتنام، وكما قال ستيل : " على الرغم من الملاحظات المقتبسة الغزيرة التي تصر على نتيجة مضمونة لحرب جنوب فيتنام، لم تصدر عنه أية إشارة تتضمن أي احتمال بخسارة سايغون، لقد رفض جميع المناسبات التي تؤمن الانسحاب".

 إن موقف النقاد ضد كينيدي كان يستند أساسا إلى حقيقة لا مهرب منها تتعلق بتضخيم دور الولايات المتحدة في الأزمة. لاحظ النقاد أن كينيدي وسع من الحضور الأمريكي في جنوب شرق آسيا بما يزيد على الحدود المسموح بها في معاهدة جنيف، لقد أرسل القبعات الخضراء إلى فيتنام، وشن عمليات عسكرية في السر ضد شمال فيتنام، وسمح " للمستشارين " الأمريكيين في تقديم دعم ميداني لفيتنام الجنوبية. وربما كان أكثر فتكا، أنه عمق من الموقف السيكلوجي للولايات المتحدة في فيتنام على اعتبار أنها أرض اختبار للقدرات الأمريكية في محاربة الشيوعية. لقد فعل ذلك من خلال زيادة مضطردة في الدعم الأمريكي لفيتنام، بقصد تحويلها إلى مسرح يثبت : كيف أن بمقدور التطوير الاقتصادي أن يحد من الثورات الشيوعية (برنامج " القرى الاستراتيجية – هاملت فيليجيز " الفاشل هدف إلى عزل القرويين عن مصادر العصيان في المستوطنات الجديدة، وكان هذا واحدا من الإجراءات الحديثة المرتبطة بتلك السياسة). ولم يتورع كينيدي عن التدخل في السياسة الداخلية لنظام ديم (4) وعمق ذلك من مسؤولية أمريكا في التطورات اللاحقة للأحداث في فيتنام.

هناك موضوع آخر له معنى أيضا، وهو رفع ج ف ك ومستشاريه لمستوى الحالة الرمزية في فيتنام من خلال بلاغيات تصورها وكأنها ميدان معركة أساسي الصراع فيه بين الحرية والشيوعية. ولهذه الأسباب، أدان بارنيت إدارة كينيدي لأنها " أطلقت " سراح الأسلحة التي حولت الولايات المتحدة إلى قوة تدخل عسكرية ضاربة في جنوب شرق آسيا، وبشكل لا يقبل الشك. وبغض النظر عن الجدال حول الحتمية التاريخية، أقر النقاد بالاستمرارية الفعلية بين سياسات إدارتي كينيدي وجونسون بخصوص فيتنام.

من وجهة تقدمية، إن أزمة السياسة الخارجية المعروفة التي أصابت إدارة كينيدي وقعت في براثن خط مختلف لا يشبه الأسلوب الذي خطط له أصحاب ج ف ك المخلصون.

غير كشف الستار عن واقعية كينيدي ومرونته وتقدميته تحدثوا عن العوز المحبط في صفاته كمحارب بارد وبطيء. نظر النقاد إلى خليج الخنازير كمناسبة لا تخدم كينيدي في التعرف على مقدار الحماقة الناجمة عن الثقة بـ " الخبراء "، والسي آي إيه، وحظه الشخصي، ولكنه كان يعبر بشكل مباشر عن حملات ج ف ك الصليبية ضد الشيوعية في العالم الثالث، وعدم استعداده لتقبل مصداقية ثورات الجناح اليساري في العالم النامي. إن مؤتمر فيينا لم يكن مواجهة بين كينيدي متعقل وخروتشوف عدواني ومتصلب. على النقيض من ذلك، إن كل الزعماء السوفييت سعوا إلى قوننة وتبرير الحالة في وسط أوروبا. (كان النقاد واضحين في تبخيس الخطر السوفييتي المزعوم وتهديدهم على أعلى المستويات بإغلاق المعابر إلى برلين). ولكن كينيدي، خشية من الظهور بصورة ضعيف أو غير مؤهل بعد المشهد الكوبي، تعامل مع مشكلة برلين بطريقة رفعت عنه الستار كـ " رجل نووي".

 لقد أعاد الحياة إلى بلاغيات كانت ميتة تنذر بشر مشكوك به، ووصف برلين، في سياق حملته الانتخابية، على أنها اختبار أساسي للرغبة الأمريكية في تبرير بناء القوة النووية التقليدية والضاربة. وهكذا هدم آخر فرصة حقيقية لإبرام معاهدة للحد من التسلح بين القوتين الكبيرتين في العالم.

 

إن القرار السوفييتي في نصب صواريخ فوق أرض كوبا لم يكن مفهوما (إن لم يكن بحاجة إلى مبررات) وذلك كرد على استفزازات السنة الأولى من تواجد كينيدي في مكتب الرئاسة. كان خروتشوف بالنسبة إليهم يبحث عن طريقة للتعامل مع العيوب السوفييتية المتنامية في سباق التسلح النووي الذي تسببت به ترسانة سلاح كينيدي.

كما أن الكوبيين الذي تأثروا بخليج الخنازير وبلاغيات كينيدي التبشيرية فيما يتعلق بالصراع ضد الشيوعية في أرجاء الكرة الأرضية، كان همهم أن تردع هذه الصواريخ أي غزو مستقبلي يستهدف أمة جزيرتهم.

و لكن لأنه رفض الإقرار بدوره في دفع عجلة الأزمة، اعتقد كينيدي ببساطة أن هذا اختبارا آخر لحزبه، ولقد ذكر عدد آخر من النقاد، أيضا، أنه كان مهتما بنتائج انتخابات عام 1962، وفيما إذا كانت سمعته " موالية للشيوعيين ". إنه لم يتعامل بجدية مع احتمالات التفاوض، على الرغم من العرض السوفييتي في إلغاء الصواريخ المنصوبة على أرض كوبا، مقابل إلغاء الخطر الأمريكي "المؤكد" والمباشر في تركيا.

و لم يلاحظ النقاد أسلوب " ضبط النفس " في تعامل كينيدي مع الأزمة. فهو عوضا عن اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية، استخدم التلفزيون ليصرح بالإجراء السوفييتي ورد أمريكا عليه، لقد حصر خروتشوف في زاوية ضيقة، بحيث أن أي تنازل من جهته سوف يفسر، فقط، كاستسلام للإنذار الأمريكي.

إن الحل السلمي للأزمة، في النهاية، كان، إذا، ناجما عن تفهمـ "ـه "، وليس لمرونة مفترضة أو لتمالك كينيدي زمام نفسه.

لقد أثارت ذيول أزمة الصواريخ قلق النقاد. بالنظر إلى سحب الصواريخ على أنه انتصار " للإرادة " الأمريكية و" إدارة الأزمة "، كان كينيدي ومستشاروه أكثر حزما في تصوير الاتحاد السوفييتي كرجل عاجز في مضمار " حروب التحرير " الوطنية، ومثالها فيتنام.

و حتى إن تحريم كل اختبارات الأسلحة النووية تحت الأرض، كان ينظر إليه على نطاق واسع كبرهان على نضوج حكمة كينيدي في تعامله مع أخطار الكوارث النووية، لقد اعتبر النقاد ذلك إشارة على الشر القادم في الطريق.

و ذكروا، وعلى رأسهم آ ف ستون أن محادثات معاهدة تحريم الاختبارات سبقها عرض سوفييتي لإبرام معاهدة شاملة للحد من التسلح، وظروف اختبارها . غير أن إدارة كينيدي رفضت هذه العروض.

و في الواقع، إنه بسبب التفوق التقني للولايات المتحدة في اختبارات تحت الأرض كانت الاتفاقية النهائية لعام 1963 " تسوّق " أمام القوات العسكرية وأمام الجماهير على أنها إقرار سوفييتي بتفوق أمريكا النووي. ومن أجل ضمان موافقة البنتاغون على المعاهدة، قدم كينيدي تنازلات للجيبش، بما فيها الموافقة على تسريع وتيرة اختبار الرؤوس النووية تحت الأرض. وبما أن تلك الاختبارات أدت، في النهاية، إلى تطوير ABM ( 5 ) وMIRV ( 6 )، تعامل معها النقاد كواحدة من الإسهامات الفتاكة التي أضافها كينيدي لسباق التسلح.

 

 

هوامش المترجم :

1 - آيكي الصغير هو لقب شهرة عرف به إيزنهاور في نطاق عائلته.

2 - خوان دومينغو بوسش : 1909 – 2001، رئيس الدومينيكان وقد عاش في المنفى بين 1937 – 1961 وخلال ذلك كان يعمل بالتأليف والتدريس.

3 - شيدي غاغان : 1918 – 1997، رئيس وزراء غوايانا من 1961 – 1964.

4 - دين ديم نغو : ( 1901 – 1963 ) أول رئيس لفيتنام الجنوبية . امتدت فترة حكمه بين 1955 – 1963.

5 - ABM  جهاز دفاع مضاد للصواريخ الاستراتيجية.

6 - MIRV عربة قادرة على حمل عدد من الرؤوس النووية.

 

المؤلف توماس براون : كاتب ومحلل سياسي. من مؤلفاته الأخرى : السياسة والقادة السياسيون.

 

المصدر :

Kennedy Revised, by : Thomas Brown, in : JFK : History Of An Image , I B Tauris and co ltd. , London, 1988,ISBN : 1 – 85043-1124.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1168 الاثنين 14/09/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم