قضايا وآراء

الأيديولوجيات الدّينية وسؤال الحداثة..

هي من ناحيةٍ أخرى حقلُ تصارع أيديولوجي بوصفها امتيازاً يكافح في سبيله كلّ مذهبٍ فكري أو اجتماعي سياسي. فهي تمثل صلاحية الفكر في تمثّله وعلاقته بالواقع الآني، وتسعى الأيديولوجيا إلى إحرازها، وبذلك تذوب الفوارق وتختفي بين الاتجاهات الفكرية، وتنهار المسافة، بل تكاد تنعدم بين خطاب إحيائي أو تراثي وآخر توفيقي وثالث حداثي، بما أنها جميعا تخوض حرب ادعاء الصلاحية المعرفية وتمثل العالم، وسواء كانت هذه المعرفة سعياً محموماً لتمثل الأشياء ذهنياً أم كانت تتسم بغائية تجنح لتغيير العالم وليس فهمه أو اكتشافه، أي سواء كان الفكر واقعيا أو مثالياً، تفسيرياً أو تغييرياً، فإن هناك إدراكاً بالزمن، وسعياً مشتركاً نحو الحداثة.

إنّ المفهوم الهلامي للحداثة، بتجلياته ومدلولاته الكثيرة، وباقترانه بحركة التاريخ والتي تنعكس في بعدها الجدلي شعوراً بالزمن؛ يتداخل مع مفهوم آخر لا يقلّ التباساً، هو مفهوم المعاصرة. تجمع بينهما في ترادفٍ مفهومي السمة القارة للتزامن، أي إدراك حركة الزمن والشعور به، ولأنها سيرورة اجتماعية في الزمن تشمل الفكر والسياسة والحضارة والأدب وكلّ التجليات الثقافية الناجمة عن إدراك الإنسان بذاته والكون والتاريخ؛ فإنّ المفارقة والتحدّي الثقافي المقترن بجرح نرجسي والكامن تحت تأثيرات الحداثة المحتمة؛ هي تشكّلها في سياق ثقافي وحضاري محدّد، فالحداثة بوصفها ظاهرة تاريخية؛ انبثقت في وسط جغرافي وثقافي محدد هو الوسط الأوروبي.

 

الإشكالات المحاطة بالحداثة ونشأتها

هنا تكمن إشكالية الحداثة، وبُعدها الجدلي خاصة، إذا ما ترافقت تأثيراتها مع إرادة هيمنة سلطوية تبلورت ثقافياً في بعض وجوه الاستشراق، وسياسياً في الهيمنة الاستعمارية التي قادت إلى شعور مباغت بالصّدمة الحضارية الناجمة عن المواجهة مع الآخر بوجهه المشرق الماثل في الحداثة، والمترافق في الآن نفسه مع الوجه القاتم المتمثل في الهيمنة الاستعمارية والتوجه الكولوينالي. كانت مواجهة كفيلة بتعرية الذات، وانكشاف مدى التراجع والهزيمة الحضارية التي مُنيت بها الذات العربية والإسلامية، فسرعان ما تشكّلت خطابات كثيرة ومتفاوتة في إدراكها لحجم الأزمة وتحديات النهوض، لكنها رغم هذا التفاوت؛ تشترك في حافز معرفي مشترك، أو أفق معرفي، يمثل عقلانية الحداثة، أي تلك العقلانية أو الأفق المعرفي ''الأبستيمي'' الذي تحدّث حوله مشيل فوكو.

فإذا كان لكلّ عصر أو مرحلة تاريخية أفق معرفي خاص؛ فإن الحداثة بوصفها ظاهرة تاريخية ورؤية فلسفية وفكرية، تشكّل امتداداً طبيعيا للمكتسبات المعرفية لعصر الأنوار، والذي يُشكل بدوره امتداداً لإفرازات النهضة في ايطاليا مروراً بلحظة الإصلاح الديني في ألمانيا، وهي المحطات التي أدت إلى إعادة الاعتبار للعقل بعد انتكاسته في العصور الوسطى.

 

استمراريّة الحداثة في «ما بعد الحداثة»

هذه المغامرة الفكرية التي خاض غمارها الإنسان طيلة قرون كثيرة، أدّت إلى أفق مفتوح للعقلانية، تتسم بقطيعةٍ معرفية، كما أن لها قابلية التمدّد أو الانحسار، لكنها في الآن نفسه لازالت قيد التشكّل، مما يعني أن نظريات ''ما بعد الحداثة '' ليست سوى امتداد طبيعي للحداثة.

كما يؤكد الفيلسوف العقلاني هابرماس، وذلك بخلاف منْ يلوذ بأفكار ما بعد الحداثة ويتبنّاها ظنّاً منه أنها جاءت تفنيداً ونقضاً للحداثة التي تحتفي بالعقل، وتسعى لانتشال الإنسان من الماضي المحمّل بالأوهام والتفاسير الميثولوجية للكون، لتحلّ محله تفسيراً عقلانياً واعياً.

وهكذا كان على الحداثة أن ترسّخ شعوراً متأصلاً بالحاضر والتجربة المعاشة والمتأتية من صيرورةٍ متشكلة باستمرار.

هذا الانحياز للحاضر، والعقل، وترسيخ فكرة التقدّم، والتفسير العلمي للكون والأشياء وتكوّن الأيديولوجيات والفلسفات الوضعيّة، وعلمنة المعرفة والمجتمع والسياسة وحتى الدين، وتفسير بنية المجتمع تفسيراً علمياً، والانحياز المطلق للإنسان بوصفه قيمة مركزية تقوم على أساسها الأخلاق المدنية والنظام السياسي.. وغيرها من خصائص؛ هي التي ستشكل سؤالا يتركز حول كيفية مواجهتها، سواء باستعارتها وتأصيلها ثقافياً أو بتجاهلها تماماً والاكتفاء بالتراث وإفرازاته بما أنه التشكيل التاريخي الوحيد للذات، أو الهوية الثابتة التي لا تخضع لأية سيرورة أو تثاقف، وبعبارة جامعة يمكننا الإشارة إلى كلّ ما يتعلق بسؤال الحداثة.

 

سؤال الحداثة واستجابة الأيديولوجيّات الدّينيّة

التحديات التي يرتكز عليها سؤال الحداثة ساهمت في تشكيل خطابات ومشروعات فكرية عدة في العالم العربي والإسلامي، وهي مشروعات تكشف بوضوح عن تسلّل الحداثة صامتةً وبشكل ملتبس، ممّا أدى إلى بروز تشوّهات في المفهوم والممارسة بين تيارات حداثوية مسطحة تنمذج الذات لتبدو كما لو أن الحداثة ليست سوى تقنية جاهزة، وتيارات أخرى ساهمت في إحداث تشويه مضاعف يُحيل الحداثة إلى مجرّد تناول وجبة ''هامبورغر'' أو ارتداء ربطة عنق فاخرة، وهو نفسه الالتباس الذي يقصر الحداثة على المعاصرة لتبدو مفهوماً مرادفاً. لكن هذا الالتباس يتجلى بوضوح حينما نتلمّس طبيعة الاستجابة التي تحاول الأيديولوجيات الدّينية التأسيس والتأصيل لها، انطلاقاً من المقولات الدينية نفسها التي تجاوزتها القطيعة المعرفية منذ عصر التنوير.

أغلب الأيديولوجيات الدينية تتجه للتوفيق بين الأسس والثوابت الدّينية، وبين العقلانية الحديثة أو الأفق المعرفي المعاصر ''الأبستيمي''، انطلاقاً من تداخل أو حوار يسعى لإقامة هجين فكري وقيمي لا يخلو من إسقاط أو مغالطة، فيما القليل منها - وهو التيار التراثي- يحاول أن يتصف في منظومته الفكرية، السياسية، والدينية بأصالة مقترنة بنقاء تراثي قابل في تصوّره على إعادة إنتاجه، وبالتالي الأهلية الكاملة على مواجهة الحداثة. وبعبارة أخرى فإنّ لديه كامل القدرة على إحراز الصلاحية المعرفية: الحداثة.

الاتجاه الأول باستماتته في استنطاق النص التراثي الديني لكي يتوافق مع الحداثة، يصل في النتيجة إلى استفراغ كلّ المضامين في النصّ، وهو ما يعكس تخبّطاً واضحاً بين السياقات التاريخية، بحيث تصبح المرجعية الدينية معطلة تماماً، فيما ستبدو مكتسبات الحداثة وقد خضعت لعملية بسترة واجتزاء لكي تنسجم مع النص مشوهةً وملتبسةً، بل ومعطلةً هي الأخرى.

كما أنها ستقع في إشكالية تأويل النص الديني، والذي يحمل بنية أسطورية مجازية تحتمل قراءات متفاوتة ومختلفة، بل ومتناقضة في أحيان كثيرة.

فكيف يمكن تأصيل فكرة حقوق الإنسان مثلاً ضمن مرجعيةٍ لنصّ هلامي متعدّد الدلالة؟ كيف يمكن مواجهة معضلة الاقتصاد أو السياسة انطلاقاً من نصّ ديني ذي بنية قصصية ميثولوجية؟ هل يمكن أن ينسجم النظام الاقتصادي مثلاً مع نظام التحريم الديني الذي يحسم بشكل نهائي فكرة الربا أو الملكية الخاصة؟ كيف يمكن استنبات الفكر الديني بعقلانيته التي تجاوزها التاريخ في عصر تكتسحه الحداثة بكل جاذبيتها وفتوحاتها التقنية والعلمية والقيمية؟ لكن السؤال الأشد إرباكاً لهذه الخطابات هو فيما يتعلق بالتحوّل الفكري الذي أحدث تلك القطيعة مع المفهوم المطلق للمعرفة والحقيقة فيما أغلب الأديان وخصوصا الأديان الشمولية منها قد انبثقت في وسط يحتضن اللوغوس أو العقل الكلي المفارق للأشياء، وهنا ينبغي تمييز تلك المنظومات الدينية التي تستنسخ بعضها البعض وتقوم باستعارة العبادات - كأية مادة ثقافية أو عنصر ثقافي، من شأنه أن يعيد مجدّداً تشكيل الثقافة أو المنظومة الدينية برمتها - عن تلك الأديان الشمولية التي توارت خلفها الأديان المحلية القائمة على أرضية التسامح والتعدّد.

 

التأثير الحداثي وضرورة المراجعة

ولأن النقاء التراثي أسطورة، أو وهم لا يمكن العثور عليه بين كلّ الأيديولوجيات الدينية - حتى وإن ادّعت خلاف ذلك، إلا أن تكون قد آثرت الانزواء في كهوف ''تورا بورا''! - فإنّ كلّ الأيديولوجيات الدينية التي تنضوي تحت الاتجاه الثاني، أي الاتجاه التراثي/ السلفي، مسكونة هي الأخرى بالأسس النظرية للحداثة من حيث لا تشعر. كلّ فكر ديني مسكون بهاجس التراث قد أصابه شيء من وهج الحداثة، وهو ما يعني أن ثمة تأثيراً حتمياً للحداثة على الفكر الديني يتجلّى في محاولات فكرية لا ترتكز على منهجية صارمة، بقدر ما يشدّها إلى ذلك عدم انعتاقها من هيمنة الماضي وانشدادها إليه.

على أن هذا التأثير الناجم عن العلاقة المتأرجحة مع الوافد الأجنبي يصبح واعياً مدركاً حيناً، وغير واع أو مضمر حينا آخر. لكن ثمة قاسماً مشتركاً يؤكد الافتتان بمنجزات الحداثة والتي هي أقوى من أن تُقاوم بمجرد الرغبة في حماية الذات الملتبسة، وغير القادرة على تجاوز الماضي بالتموضع في العقلانية الراهنة، حتى وإن كان من الضروري، كما يرى البعض، لهذه الإفرازات الحداثية أن تتلبس بالثقافة المستضيفة لكي يُتاح لها أن تنغرس في تربة وأرضية مواتية؛ فإن الشيء الأكيد هو حتمية التأثير الحداثي الذي يتطلب من كلّ التيارات الدينية المراجعة الجدية والنقدية لطرائق تفكيرها ورؤيتها للكون والإنسان.

 

- كاتب سعودي

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1177 الاربعاء 23/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم