قضايا وآراء

الانسان حيوان كاذب .. قراءة سيميائية في شعارات الديكتاتورية

 ولا اعرف لماذا هذا الاصرار على حشر الانسان في خانة الحيوانات المسكينة، بينما انا اعتقد بأن الانسان لديه من الصفات والمظاهر ما يجعله يختلف اختلافا جذريا عن الحيوان، ليس كونه ناطقا أو مفكرا مثلا، بل ان الانسان بهذا التعقيد الذي يتصف به، يجعله في منأى عن السياق الذي تندغم فيه كل حركات وتوجهات الكائنات الحية الاخرى، بشبكته العصبية المعقدة التي تنتج الكثير من المشاعر والاحاسيس والافكار المختلفة، والمتناقضة، تجعله كائنا متناقضا على عكس باقي الكائنات الحية التي تميل الى التوافق والتلائم مع نفسها وبيئتها، وهذا التناقض يمثل لغز سيرورته وسدى تطوره ونموه، لذلك ربما تنعدم زمنية الموافقة والتلائم البشري، فهو يكتشف نفسه دائما من خلال نقيضه.

 

  يعتبر السيميائيون الانسان "حيوان سيميائي" لأنه قادر على استخدام وانتاج العلامات. او كما يصفه كاسيرر(Cassirer) بأنه حيوان رمزي " في لغاته وأساطيره وديانته وعلومه وفنونه." وكما ان السيمياء وسيلة للوصول الى الحقيقة من خلال العلاقات بين علامات اللغة، الصورة...الخ، فهي وسيلة ايضا لقول الاكاذيب حسب تعبير  امبرتو ايكو إذ يقول "السيمياء معنية بكل شيء يمكن اعتباره علامة، والعلامة هي كل شيء يرمز، الى حد كبير الى شيء اخر. هذا الشيء الاخر لايوجد بالضرورة ولايمكن فعليا في مكان ما في اللحظة التي ترمز بها العلامة له، وعليه فأن السيمياء في جوهرها، هي ذلك النظام الذي يدرس كل شيء يمكن استخدامه لقول الاكاذيب"، فهل نحن نعيش في اوساطنا الاجتماعية والثقافية والسياسية واحتمالية ان ما يحيطنا ونتعامل به كوسيلة اتصالية بتداعياتها البلاغية والصورية، ربما تكون مجرد اكاذيب، ولو حصل ذلك فأذا ان الانسان حيوان كاذب بأمتياز، لانه يستطيع ان يمرر اكاذيبه من خلال التلاعب بأشارات وعلامات خطابه، وخير مثال على ذلك اللعبة التي تمارسها علينا الميديا التلفزيونية كل يوم.

 

  في مقالتي هذه اردت ان القي بعض الضوء على احد الشعارات التي كانت تعلو كل واجهات الدوائر الحكومية في الزمن الديكتاتوري السابق، محاولا كشف بنيتها العلامية، وهي " العراق وطن الجميع، وحماية امنه وسيادته مسؤولية الجميع"، فبقراءة هذه العبارة المتكونة من مقطعين نرى بأنها تنبني على بنية التكرار لمفردة الجميع، وذلك لتعزيز هذه العلامة، فالمقطع الاول "العراق وطن الجميع" تعطينا في معناها الحرفي، ان العراق هو لجميع العراقيين بدون استثناء وبدون تمييز، والمقطع الثاني "حماية امنه وسيادته مسؤولية الجميع"، ترينا بأن واجب حماية العراق والحفاظ على امنه وسيادته مسؤولية كل ابناء شعبه. بيد ان قراءة هذه العلامة قراءة اكثر دقة ومحاولة كشف جانبها العلامي المستور بفك ايحاءاتها وارتباطاتها المرجعية، ترينا بأنها صيغت لتمرير اكذوبة كبيرة ستظهر لنا في التحليل التالي:

 

 لكشف العلاقات النظمية للعلامات نضع كلا المقطعين على المحورين السياقي والاستبدالي لنكتشف طبيعة العلاقة التي تقوم بينها قبل الشروع بمقارنتها بالمرجعيات التي اسست لها والتي يحاول نص العبارة اخفاءها وتزييفها.

  

لنكتشف من هذا المخطط بأن العلاقة بين العلامات قائمة على المشابهة وذلك ما تعزز ببنية التكرار لـ (الجميع)، وايضا الضمير المتصل (الهاء) في (امنه، سيادته) الذي يرتبط ب(العراق) لتصبح العبارة:

   558-najem

 

"العراق وطن الجميع، وحماية أمن (العراق) وسيادة (العراق) مسؤولية الجميع"

 ولكن بالبحث عن مرجعية هذه العبارة ومقارنتها بشعار اخر من شعارات الديكتاتورية والتي كانت موجودة بنفس قوة العبارة الاولى وربما اقوى منها، وهي " أذا قال صدام قال العراق" للاحظنا بأن هذه العبارة قائمة على بنية التكرار ايضا، وذلك للفعل (قال) وهذا تعزيز لبنية المشابهة بين مقطعي هذه العبارة وهما "قال صدام" و "قال العراق". وعلى المستوى العلامي سنضع كلا المقطعين على المحورين العلاميين لكشف علاقاتهما النظمية:

  558a-najem

 

لنلاحظ بأن تلك العلاقة هي علاقة مشابهة بين (صدام) و(العراق)، مما يولد لدينا أن العلامة (العراق) في العبارة الاولى والعبارة الثانية يمكن لنا استبدالها بالعلامة الاخرى وهي (صدام) اعتمادا على علاقة المشابهة القائمة على التكرار، والذي ينتج بالتالي بنية علامية ونظمية جديدة تكشف زيف العبارة الاولى:

 " صدام وطن الجميع، وحماية أمن (صدام) وسيادة (صدام) مسؤولية الجميع"

 لنكتشف بأن العبارة التي بدت لنا عبارة وطنية تدعو الى ان العراق لجميع العراقيين، هي بالحقيقة احد عبارات الديكتاتورية التي تختزل الوطن برجل واحد، يحاول من خلال هذه الشعارات ان يمرر اكاذيبه على عقول السذج من الناس والتي كانت تردد خلفه هذه الشعارات ظانة انها شعارات وطنية تحترم الشعب وارادته، وبعد هذا كله اليس الانسان حيوان كاذب؟

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1183 الثلاثاء 29/09/2009)

 

 

 

 

في المثقف اليوم