قضايا وآراء

الشعر الحر في العراق و(الهايكو) في اليابان: هل صحيح إن الحمار وحده يعرف الحقيقة في بغداد؟؟

 المترجمة إلي العربية أو المجلات المتخصصة أو مواقع الأنترنت، سوي موضوعات أو في الأصح شذرات، متشابهة، لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد استشفيت من ذلك، أن هذا النوع من الشعر، نشأ يابانياً وسيبقي في دائرة اليابان حصراً، ولن يتمكن من بسط جناحه حتي علي أقرب المقربين إليه مثل الصين ودول آسيا.. فهو ياباني الصنع بامتياز ولا يقبل المناصفة أو المشاركة فكيف بشاعر عراقي يحاول رمي شباكه في هذا البحر الياباني وهو بحر لا يعوزه الإتساع ؟!ولذلك قصة أرويها بأختصار:

عندما كنت في دمشق أطلعني صديقي (أبو حالوب).. وهذه هي كنيته علي كتاب شعر لأحمد هاشم تحت مسمي ثانوي (بغداد في عيون الهايكو) وعنوان رئيسي هو (الحمار فقط يعرف الحقيقة).. و( أبو حالوب) بالمناسبة، يعتبر مختار وعرّاب الأدباء والفنانين العراقيين  والصحفيين المتواجدين في سوريا، وهو رجل دافئ في حواراته، متتبع للإبداع وزبون دائم في مقهي الروضة العريق في الشام.... إذنً، غامر شاعر عراقي، على خوض هذه التجربة، التي ظلت كما قلت في كواليس وحيطان الأدب الياباني..... أليس في ذلك مايثير الإهتمام ؟

قبل أن أعرج علي ما تناوله الاخ هاشم في كتابه لا بد أن أشرك القارئ بما لدي من معلومات عن الهايكو:

يمتد تاريخ الأدب الياباني إلي قرون قبل الميلاد، شأنه شأن الأمم الاخرى في شرق آسيا ورغم التطورالذي طرأ علي فن الشعر في اليابان، إلا أن المحور العام الذي تدور حوله القصيدة ظل محصوراً في الطبيعة وتمثله قصائد الهايكو، فاليابان عبارة عن ثماني جزر بركانية شاسعة، تحاصرها مياه بحر تهدأ تارة وتهتاج تارة أخري.وفيها جبال شاهقة، التي تخمد مرة وتثور بحممها مرة أخري، ناهيك، عن الزلازل وما تعصف بالسكان علي حين غرة، فلا عجب إذن أن تحتل الطبيعة مركز الصدارة في شعر اليابان " بلاد الشمس "، وأن يتصف الياباني بالحدة والمزاج العصبي.وأثناء قراءاتي لأشعار (الهايكو) المتوفرة، وجدت تشابهاً بين الشعر الحر الذي ولد في العراق وبين (الهايكو) ليس في طريقة النظم أو المحتوي، بل في ظروف الإنبثاق الأولي، وما واجهه (الشعّران) من ردة فعل قوية.. فمثلما، ظهر الشعر الحر في العراق، منتصف أربعينات القرن الماضي، شاهراً سيف الحداثة، بوجه الشعر التقليدي، ظهر شعر (الهايكو) في اليابان، كاسراً النمطية في الشعر الياباني القديم! لقد واجه الشعر الحرمصّدات ورفض وتشهير من دعاة الشعر العمودي، الموغل في الذاكرة الأدبية العربية حد الإنصهار مع العروبة في العصر الجاهلي، وحتي اليوم، كذلك جابه شعر (الهايكو) من الأدب المحافظ في اليابان والممتدة جذوره أيضاً إلي قرون عديدة! شعر بلا قافية ووزن.. والهايكو شكل شعري يتكون من 17 مقطعاً لفظياً تحتوي علي ثلاث وحدات منظومة بترتيب (5، 7، 5 ).. إنها واحدة من أهم أشكال الشعر الياباني التقليدي التي لا تزال تتمتع بشعبية واسعة في اليابان.

وعلي نقيض الشعر الغربي والعربي، يخلو الهايكو من القافية والوزن.. وتتصف قصائده بالبساطة الخادعة بما يخص جذورها وعمق مضامينها.. وتتطلب أنقي وأعمق الوعي الروحي للفرد، لكونها تمثل كل العالم الديني والتجربة الشعرية الشرقية.وتتبع الحالة، الذهنية، للهايكو من فكر فلسفة نكران الذات والوحدة وقبول الإقرار بالجميل والصمت حين يفقد الإنسان الكلمات والتناقض واللاعقلانية والفكاهة والحرية واللا أخلاقية والبساطة والمادية والحب والشجاعة... في قصيدة " الهايكو " نلاحظ، إذاً، تحولات الطبيعة و ألوانها وإسقاطاتها علي تحولات المشاعر الإنسانية التي تقرأ في الطبيعة ما يجيش في داخلها من شوق وحنين.. وحب ووله وحسرة وخيبات وألم ودهشة، أو تسقط علي المشاهد الطبيعية ما يعتمل في الأعمال من مشاعر وأحاسيس..

لقد حقق الشاعر (أحمد هاشم) بعضاً من هذه الأشياء في معايشته عبر زيارته القصيرة لبغداد، كما يبدو، لكنه كان بعيداً عن أهم صفات الكتابة في شعر (الهايكو) وهي شيئان متقابلان : القوة والدقة.

إن انفعال الشاعر أو اندماجه في موضوع قصيدته حتي لو كانت من (الهايكو) لا يعني بالضرورة أنه سيخرج لنا قصيدة جيدة الأداء، مؤثرة الأسلوب، فقد يكون " عاجزاً " في تلك الحظة عن التعبير بطريقة ناجحة رغم انفعاله، فما رآه ربما كان أصعب عنده من.. شعره!

إن روعة الرمز، في الكتابة، أن يكون لقاء لكل الأفهام  فالرمز نمط رفيع من التشبيه، وما دامت غاية التشبيه هي الإيضاح، فتلك غاية الرمز أيضاً.. والمرموز يجب أن يحمل خصائص أشمل مما يحمل المرموز إليه..وإلا فسدت قيمة الرمز البلاغية، فبين الظفر والناب والأخذ والرد والعض علي الإصبع تضيع... الأفكار!

وأعود إلي (هايكو) بغداد وأحمد هاشم المولود ببغداد سنة 1969 والمقيم منذ عام 1996 في أستراليا.. لقد صدرت للشاعر سابقاً، مجموعتان بالعربية (إشارات لذاكرة الرجل) عن دار السندباد في سوريا.. و(ما أجمل بغداد) عن دار أزمنة في الأردن... " الهايكو " في هذا الكتاب تتحدث كلها عن بغداد والموت اليومي المجاني.. وفيها صور محزنة وأخري تسحب الدموع من مآقيك، لكنك، من خلال قراءتك تعرف أن دياجير الظلم مهما دجنت لا تستطيع أن تطفئ نور الحرية..

وإن مفتاح البطن لقمة ومفتاح الشر كلمة! يقول أحمد هاشم :

 

                (ولد مزقته مفخخة أمتع الطعام)

                                    ***

 

           (جائع فوق بحر نفط، يكتب أجمل القصائد)

                                    ***

 

       (سبعة ينامون في غرفة ثمة فسحة كبيرة لكتاب..)

                                    ***

 

        (عاصفة رملية تساقط المطرولا ماء في الحنفية)

                                    ***

 

    (الإشارة الضوئية عاطلة بلا مقابل سكران ينظم السير)

                                    ***

 

                   (قطعت الكهرباء بآخر عود ثقاب)

 

[email protected]                         

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1183 الثلاثاء 29/09/2009)

 

 

 

 

في المثقف اليوم