قضايا وآراء

قراءة حول "مفهوم العلمانية" / مصطفى الأدهم

المنشورة في "الحوار المتمدن" (2)، والتي رد من خلالها على مقالة الدكتور حسين الموسومة "فوز الإسلاميين نعمة أم نقمة" (3)، والتي كنت قد قرأتها، كما عرجت على ثلاثية الأستاذ أنيس.

وعليه أستحسنت الدخول على خط النقاش بين الدكتور والأستاذ من باب "مفهوم العلمانية"، لما للموضوع من أهمية على الصعيدين الفكري والسياسي وبالتالي له انعكاساته على حياتنا اليومية على أختلاف مشاربنا الفكرية. والغاية؛ محاولة للإثراء وتلاقح للأفكار. على أمل أشباع الموضوع واغناء كل من الكاتب والقاريء.

 

بداية، عرف الدكتور حسين العلمانية تعريفا مختصرا لخصه ب "فصل الدين عن الدولة والسياسة، وأن لا يتدخل السياسيون بالشؤون الدينية، ولا يتدخل رجال الدين بالسياسية". (4).

 

وهو ما يعد تعريفا متفقا عليه، كونه الأكثر شيوعا وتداولا عن العلمانية؛ "فصل الدين عن الدولة". وهذا التعريف هو نابع من رأي الفيلسوف الإنجليزي، جون لوك، الذي كتب في العلمانية "من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الإعتقاد دينيا أو فكريا أو اجتماعيا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العلمية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الإعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة. والا يتدخل أي منهما في شؤون الأخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارا، وبالتالي قادرين على ادراك الحقيقة." (5).

 

وأما دار المعارف البريطانية فعرف العلمانية على أنها: "حركة اجتماعية تتجه نحو الإهتمام بالشؤون الأرضية بدلا من الإهتمام بالشؤون الأخروية. وهي تعتبر جزءا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلا من افراط الإهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الأخير. وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلا من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الأخرى، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية". (6).

 

كما نرى هنا فأن كل التعريفات للعلمانية تجمع على نقطة مركزية هي "فصل الدين عن الدولة" - والتي هي بحد ذاتها اشكالية قياسية. بمعنى أن الأشكال الذي قد يقع بين أصحاب الفكر والقلم هو حول مدى صحة تسمية هذا النظام ب "العلماني" أو "لا علماني".

وهذا الإختلاف نابع من عدم الإتفاق على مقياس يحدد مدى فصل الدين عن الدولة في هذا النظام أو تلك الدولة.

وهل تعد "هذه" المسافة المفترضة بين كل من الدين من جهة والدولة من جهة كافية لإطلاق صفة العلمانية على هذا النظام أو ذاك؟!

وما هو مقدار هذه المسافة الفاصلة التي يصح عندها أو يلزم بعدها أطلاق صفة العلمانية على هذا النظام المفترض؟

وهل الديمقراطية جزء من قواعد اللعبة أم هي خارج قوس؟

 

لذلك، فأن الخلاف الفكري قد ينشب عند أطلاق صفة العلمانية على أي نظام حكم، تبعا لما ورد من نقاط في التساؤلات أعلاه، والتي لا تدعي احتكار كل نقاط الخلاف بطبيعة الحال، بل ما هي الا أمثلة تتوارد بسرعة على الذهن في مثل هذه الحالة.

ومن هنا يمكن فهم أحدى نقاط الخلاف بين كل من الدكتور حسين والأستاذ أنيس "حول مدى علمانية أو لا علمانية الأنظمة العربية الديكتاتورية الساقطة بفعل ثورات "الربيع العربي"".

 

لكني، أجدني أميل إلى طرح الدكتور حسين، في وصفه لتلك الأنظمة "بالعلمانية"، طبعا ليس من باب المديح لها أو الذم لخصومها من المعارضات؛ الإسلامية التوجه في غالبها. بل من باب وصف الشيء بأقرب صورة له.

ومن الأمثلة على هذه الصورة، نظام هيتلر النازي، وحقبة ستالين في الأتحاد السوفيتي؛ كلاهما كانا نسخة علمانية - تفصل الدين عن الدولة. خاصة في الإتحاد السوفيتي. لكنها في نفس الوقت علمانيات قمعية. لا تمت للديمقراطية والحرية بصلة.

ومن نفس المنطلق لا يمكن اعتبار حقبة ستالين أو حكم هيتلر بأنها أنظمة دينية - ثيوقراطية مثلا! - فهي فصلت الدين عن الدولة وهي النقطة الجوهرية في تعريف العلمانية.

تأسيسا على ذلك، أتفهم طرح الدكتور حسين حول "علمانية" الأنظمة العربية الساقطة في العراق، تونس، مصر وليبيا.

فنظام بن علي كان يمنع الحجاب، كما أن نظام مبارك ظل يحارب "الإسلام السياسي" حتى ساعة تنحيه، ونال دعما غربيا على ذلك كأحد مصادر شرعيته في الحكم؛ القائمة على الدعم الغربي. بالإضافة إلى أن نظام القذافي كان له اختلافات ومخالفات للشريعة الإسلامية، منها على سبيل المثال لا الحصر ما أورده الدكتور حسين من قانون منع تعدد الزوجات. الذي ألغاه رئيس المجلس الوطني الإنتقالي، وأحدث ضجة كان لها ارتدادات دولية.

 

أما نظام صدام فهو قد مزج بين العلمانية، والقومية وادعاء الإشتراكية مع كل من الطائفية والشوفينية من جهة والعشائرية والمناطقية من جهة أخرى - منتهيا بالصنمية. ناهيك عن تدشينه "لحملته الإيمانية" المنافقة. وهو ما يعد توليفة عجيبة غريبة.

لكنه النظام الأبشع ديكتاتورية. لذلك، فأن كل ما هو مسخ متوقع منه. لأنه حالة خاصة ومتفردة في الإجرام.

مع عدم اغفال أن بذرة "العلمانية النسبية" الممزوجة بين الشوفينية القومية من جهة والتمييز الطائفي من جهة أخرى، هي وصمة عار في جبين أنظمة الحكم التي تعاقبت على العراق حتى سقوط الصنم، بأستثناء فترة حكم الزعيم الوطني المرحوم عبدالكريم قاسم.

 

يبقى أن نشير إلى أن مدى فصل الدين عن الدولة، هو الأخر محل نقاش بين الباحثين. ففي الغرب الذي هو الأكثر ديمقراطية والأغلب علمانية. توجد للدين مكانة دستورية، وسياسية بالإضافة إلى رمزيته ذات الدلالات الغير خافية؛ منها:

 

    دستوريا:

 

?   ملكة بريطانيا هي رأس كل من الدولة والكنيسة الأنكليكانية البروتستانتية.

?   لرئيس الوزراء دوره في تعيين رئيس الأساقفة.

?   لا يجوز للملك أو ولي العهد البريطاني أن يتزوج من غير البروتستانتية، حتى تم تغيير هذه المادة قبل أسابيع.

فسمح لمن يتوى العرش في المستقبل الزواج من كاثوليكية. (7).

?   ينص الفصل الثالث؛ الفقرة (12) من الدستور الوطني الدانماركي على أن: "الملك السلطة العليا على شؤون المملكة ويحمل كل ذلك من خلال وزراء". (الملك رأس الدولة). (8).

?   وينص الفصل الأول في الفقرة الرابعة على أن "الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الدانماركية الوطنية وعليه تدعمها الدولة". (9).

?   والفصل الثاني، الفقرة (6) تقول "يجب أن ينتمي الملك إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية". (10).

?   تعتبر مالطا دولة علمانية، لكنها تتخذ المسيحية الكاثوليكية دينا لها، ويعتبر الإجهاض محرما بقوة القانون، تماشيا مع العقائد الكاثوليكية.

?   في فرنسا التي تعد أم العلمانية وحصنها المنيع، فأن نظرة سريعة متفحصة على جدول العطل الرسمية، ترينا أنه مقتبس بأغلبه من الأعياد الكاثوليكية. وتقدم الدولة من أموال دافعي الضرائب تمويلا للمدارس الدينية. (11).

?   أما في أستراليا وهي التي لا يختلف على علمانيتها فتوجد العبارة التالية في بداية دستورها:

"بتواضع، نعتمد على نعمة الله المتعالي" - (Humble reliance on the blessing of Almighty God). بالإضافة إلى أن الحكومة الأسترالية تقوم بدعم الصلاة المسيحية في المدارس الحكومية وتمول المدارس الدينية التي تعد القسس الجدد وكذلك رجال الدين. (12).

?   وفي أمريكا فمن المعلوم أن للدين أهميته غير الخافية رغم صراحة علمانية الدولة. وما النص على الدولار "بالرب نثق" الا مثال بسيط.

?   يضاف على أن الدستور اليوناني ينص على أن للدولة دين.

 

    سياسيا:

 

?   في أكثر من دولة علمانية ديمقراطية غربية توجد أحزاب دينية عاملة على الساحة السياسية. على سبيل المثال لا الحصر الحزب "الديمقراطي المسيحي" الألماني الحاكم، بزعامة المستشارة انجليكا ميركل. وشقيقه الحزب "الديمقراطي المسيحي" الدانماركي الذي كان ممثلا في الدورة البرلمانية السابقة وخسر تمثيله في الدورة الحالية.

?   ناهيك عن وجود رجال دين أعضاء في البرلمان الدانماركي "كمثال" وهم يجمعون بين العمل الديني والسياسي، دون مزاولتهما في آن واحد.

?   توجد في الدانمارك وزارة لشؤون الكنيسة تعنى بها. (13)

?   للكنيسة في الدانمارك حق الحصول على ضريبة طوعية و83% من أفراد الشغب الدانماركي يدفعونها على الرغم من أن أغلبهم لا يؤمن بالدين أو لا يمارس شعائره.

 

    رمزيا:

 

?   هناك العديد من الأمور الرمزية ذات الدلالات الدينية غير الخافية في الدول العلماني الديمقراطية الغربية، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ أن أغلب الإعلام لتلك البلدان هي أعلام برموز دينية مسيحية واضحة - الصليب. كعلم بريطانيا العظمى - المملكة المتحدة، الدانمارك، السويد، النرويج، فيلندا، أيسلندا، اليونان، وسويسرا..

?   شعارات بعض البلدان فيها رموز دينية. بالإضافة إلى أن شعارات أغلب العوائل الحاكمة حاملة هي الأخرى لرموز دينية.

?   وأغلب جداول العطل الرسمية مأخوذة من الاعياد المسيحية. وأجراس الكنائس تدق بينما يطالب البعض بحجب الصوت عن المأذن في الشرق بأسم العلمانية !

 

بأختصار؛ فأنه لا توجد مسطرة لقياس العلمانية. تحدد طولها وعرضها. لكن، توجد أراء تتفق هنا وتختلف هناك حول كيفية أطلاق هذه الصفة على أي نظام حكم سواء أكان ديمقراطيا أم ديكتاتوريا؛ يفصل بين الدين والدولة. وأحد أهم هذه الأراء هو اعتماد الديمقراطية معيارا ضمن معايير التحديد. لأنه مع عدم أدخال الديمقراطية كشرط مسبق مع فصل الدين عن الدولة، سيكون من المنطقي حينها أطلاق صفة العلمانية على أنظمة ديكتاتورية مثل نظام  هيتلر، وحقبة ستالين وأنظمة القذافي ومبارك وبن علي. كلها كانت تفصل بين الدين والدولة بنسبة ولا تتخذ من الشريعة مصدرا للتشريع كما هو الحال مع الأنظمة الحاكمة بها والأحزاب التي تدعي ذلك.

 

كما أن في الدول الغربية الأكثر رسوخا في الديمقراطية والعلمانية، نجد أنها ابقت على "شعرة لمعاوية" بينها وبين الدين رغم علمانيتها وديمقراطيتها وفصلها للدين عن الدولة. فرأينا أن للدين حضوره في الدستور. العرش. السياسة/احزاب. العلم. نظام الضرائب والميزانية، ناهيك عن الروزنامة، والثقافة والموروث الشعبيين.

وهو ما اسميه اتفاق "جينتلمان"؛ بين كل من الدولة والدين على أن يحترم كل منهما مساحة وحقوق وواجبات الأخر المكفولة دستوريا وقانونيا. فلا يتعدى أحدهما على مناطق نفوذ الأخر ولا يستغل احدهما نفوذه السلطوي أو الروحي لتسقيط الأخر.

 

مصطفى الأدهم

22.12.2011

[email protected]

ملاحظة: كتبت هذه القراءة بتاريخ 22.12.2011 ولم يتم نشرها في حينه لتدافع الأحداث على المشهد العراقي.

 

........................................

1.   الدكتور عبدالخالق حسين: "حول مفهوم العلمانية"

http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=501

2.   ثلاثية الأستاذ عبدالقادر أنيس

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=286503

3.   الدكتور عبدالخالق حسين: "فوز الإسلاميين نعمة أم نقمة"

http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=498

4.   المصدر الأول.

5.   النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، كارين آرمسترونغ، دار الكلمة، دمشق 2005، ص.90.

6.   دار المعارف البريطانية

http://www.britannica.com/EBchecked/topic/532006/secularism

7.   المصدر الأول.

8.   الدستور الوطني الدانماركي

https://www.retsinformation.dk/Forms/R0710.aspx?id=45902

9.   المصدر السابق.

10. المصدر السابق.

11. http://www.jstor.org/pss/1188531

12. http://www.aph.gov.au/senate/general/constitution/preamble.htm

13. وزارة الكنيسة  الدانماركية

http://www.km.dk/

 

 

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1997 الثلاثاء 10 / 01 / 2012)

 

العودة الى الصفحة الأولى

في المثقف اليوم