قضايا وآراء

ودخل "دين السلام" منيب

منيب فهد الحاج، ليتلائم التاريخ برمزيته مع المولود برمزه، ليعايش النكبه مذ ولادتها.

ولد الشاعر في كنف عائلة ارتبطت الارض بمعاشها وحياتها، ليفجر من ذرات ترابها المغتصب حمماً من شعر، ولظىً من نثر في وجه مالكها الجديد.

إكتسب مذ صغره حب المطالعه من ابيه ومهارات تأمل وتدبر.. وتفكيراً صامتاً ذا أفق رحب أملاه عليه الوضع القائم (الحكم العسكري)، الامر الذي عكس شخصية مباشره تحترف المواجهه.. تلعن الصمت والمداهنه.. تتمرد على الخنوع والرضا، كذلك صَقل الإباء في جل كتاباته.

الوضع القاتم داخل الخط الاخضر في تلك المرحله الزمنيه التي شكلت برزخاً بين الامل والرجاء وبين القدر والقضاء و حالة الخنوع واللاحول واللا قوه في طفولته كانت الحافز للتعليم والدراسه والاطلاع، وهي ذاتها الوازع للكتابه وكسر حاجز الصمت. فبدأ يكتب للصحف في سن 16، ليحترف الكتابة بشتى ضروبها في ذلك الجيل بعد ان حاز على الجائزة الاولى في مسابقه ادبيه إنشائيه أجراها صندوق العمال والفلاحين للطلبه الثانويين.

تخرج من ثانوية ينّي بكفرياسيف عاقداً عزمه على تعلم اللغة العربيه في جامعة حيفا عشقا للّغة وجهادا في سبيلها، اذ رأى انه في تلك الفتره توجب عليه وجيله الحفاظ على التراث الفلسطيني تحت المد اليهودي، والتصدي لبزوغ عمليات الأسرله والتهويد بدءاً من الارض لأسماء المواقع للمأكل والمشرب. وقد كتب في تلك الفتره المقال التربوي، الخاطره، المقال الادبي والنقدي باللغتين العربيه والعبريه.

بعد تخرجه من الجامعه 1971عمل في سلك التعليم. في عكا والمزرعه وشعب.. ليضيئ هناك مشكاة العلم والتنوير مواجها التعتيم والتجهيل الذي انتهجته السياسه الاسرائيليه، الا ان مشكاته قد أ ُخفت نورها وأ ُهمدت نارها بعد فصله من السلك التعليمي1976، فما لبث خمس سنين الا وتم بتره من جسم المعارف الاسرائيليه لاسباب سياسيه كان آخرها قصيدة كتبها في ياسر عرفات وعبدالحليم خدام -وزير خارجية سوريه آنذاك-، وبناء على قرار اللجنه المكوّنه من فرد واحد تم منعه من مزاولة أي عمل في اي دائره حكوميه وبهذا تم اقصاؤه عن الحياه العمليه في اسرائيل لتمارس الاله الاسرائيليه على مفكري عرب الداخل سياسة التجويع بعد سياسة التجهيل. وقد شكّلت تلك الفتره الحبكه الحياتيه عنده اذ إعتزل الدنيا وتزهد فيها إنفرادا بقرطاسه ومداده. . الامر الذي رمى الى شلّه إجتماعيا في منزله متوحداً وافكاره. ورغم القرار المُجحف الذي كان ليكسر قلمه ويبتر لسانه إلا أنه ما فتئ يكتب وينشر ويصُفُّ كتباً ودواويناً ابتداءً من المشاركه الابداعيه في الصحف المحليه ومساهمته اسبوعيا في كل جريده وحتى "بيادر العشق والغضب" –الاسوار عكا 1978- الذي أبدع فيه برسم روائع من الصور الشعريه.."عن شعبي الباحث عن زهرة الياسمين".."لاتلوّح بالرايه القديمه".. "علّموني الفاتحه".."في ظلمة الغريزه".."صار مهر الارض أغلى". ومن أروع ما أبدع أبو نَيزَك وأعذب ما زقزق قرطاسه على فُنن أراض ٍ صودرت وأجمل ما سطر مداده من زيت أشجار جُرفت: لا تجرحوها أرض شعبي..من غضبة الشعب الابي حذارِ- فزارع الرياح لا يلقى سوى الاعصارِ.

ثم ديوان "في انتظار النهار" –الاسوار عكا 1989- والذي لخّص فيه الحاله الشعبيه لاربعين عام تحت الاحتلال، وولادة جيل سلاحه الحجاره من خلال استجوابات شعريه وخطابات مقفّاه للحاكم والمحكوم. فكان خير من عبر عن عرب الداخل بنوائبهم وآمالهم..مصائبهم ورجائهم..فهذا الديوان يمثل صفحة تأريخيه وتجسيديه لوجدان عرب الداخل وكمائن ضميرهم المستتر في غطاء التهويد.. ومن القصائد المعبره "حال الوطن".."هل انتمو حقا عرب؟".."المجد للثائر والذل للجائر".."اطمئن يا وطني".. "صمود".."المأساه والمدن المخموره".. وصية الشهيد".."حب بلادي"... "حتى اذا شاب الزمان".

ثم ديوان "هل يزهر بستان الاحلام؟!"- دائرة الثقافه 1995- وفيه يعلق آمال الفلسطينين على اتفاقيات السلام المبرمه حديثا في تلك الآونه..الا انه يترك المجال مفتوحا للجديد بإستفهامه وسؤاله حول إمكانية تحقيق الاحلام والتعويل بذلك على اتفاقيات وتنازلات (اوسلو). لاسيما بعد تضخم الجرح وبلوغه الثـُنـُن بإضافة بغداد الى الوجع العربي. ومن القصائد التى عبرت عن موازنة الجراح بالاتفاقيات " اه من جرح بلادي"..  " الفرات ما عاد عذبا".."يالجديد العُهر الدولي". "اه يا بغداد المفجوعه".."حصّن ميناء صمودك".. "عروبتي".

واخيرا وليس بالخاتم "لم تصبح الريح حمامه"- 1999- والذي يتنبأ فيه عن خسران مبين في كامب ديفيد الثانيه ويبين فيه أن ريحاً تلفظ وابلاً من الدمار لن تصبح حمامة تحمل غصن زيتون..

استقرأ الشاعر كعادته الجو السياسي وشحناته وتنبأ بما ستتمخض الاوضاع العالميه وملامح حملها اذ قال:" لم أصدق ان تلك الريح قد صارت حمامه- وستأتي من بلاد الدم والطوفان- في منقارها خير علامه- لم أصدق أن بحراً هادراً- قد صار خلا وصديقا للبواخرْ- لم أصدق أن ذئباً كاسرا..يرعى المصائرْ- لم أصدق ان ذاك الذئب بالسلم يجاهرْ- فإبقَ يا شعبي ساهرْ- كذبوا لم تصبح الريح حمامه" كما ونشر في هذا الديوان قصائد وجدانيه يعزف بها مشاعراً حميميه وينشد ألحانا ً تخصه شخصا منفردا بها.." عزف على وتر الذات".. "عزف على وتر القلب" وهما بابين احتضنا شعر الحب والحنين الى شباب لم يشأِ القدر أن يعِشه الشاعر.

جغرافّية أشعاره: يشكل الاصرار.. الصمود والاباء العامل الاساسي في شعر منيب الحاج، وذلك لحتمية نبوءة شعره وواقعية فكره، كينونته ونموه..."اُصرُّ أن يُظلني علم- كسائر الامم- يزين الوطن- هل تسمعون يابشر- أم أن في آذانكم صمم؟!". يتمتع شعر الحاج بمباشرة الخطابه دون إبهام اوغموضٍ يُغمِدُ فيهما نواياه وذلك إيمانا منه بعدالة قضيته ولعدم إمتلاكه نوايا دفينه او ضمائركامنه فضميره كان طلقا لا يخاف ولا يخجل، يفتخر به كحق يؤخد علانية.

"سوف تنمو دولتي حتما ستكبر- مثل الشمس سوف تطلع- من زنود الكادحين- من عيون المعدمين- مثلما تجري دماء في الوتين"، نراه شاعراً يوسفياً يجمّل شعره بصراحته وتصديقه لرؤيته، دافعاً القارئ للايمان بحتمية وقوع الحلم. فالوضوح والمباشره والمصداقيه تلخص سمات ابيات منيب فهد الحاج. ورغم كونه شاعرا حالما الا انه واقعي الوصف متصالح مع ظروف شعبه وامكانياته.."بمسرى النبي ومهد المسيح- وفي كل زاوية من بلادي يهب المنونْ- وفي كل بيت وفي كل درب بهيج يكونْ- يطوف بكل المدائنْ- يطوف بكل زقاق وشارع -فيعصف حزن بكل القلوب- وتغلي الدموع بكل العيونْ"..

تَغُصُّ أشعار منيب فهد الحاج بالقصائد التي تُعنونها أسئلة إستنكاريه توحي بحالة سوداويه ووضع قاتم، إلا أن الشاعر يداوم على ترصيع القصيده بأبيات تشحذ التفاؤل وتطعّمها بكلمات تسن الهمم.. كقصائده: "كيف صار العشق؟".."متى يعود لعشه طير الحمام؟!".. "هل نحن غير اُمة اَمه؟".. "ياسادتي اين السلام؟".. "هل تعود ؟".. "من؟"..

كما وتعج قصائده بالاستجوابات المباشره بالفكره الواضحه والعبره الصريحه، فتركيبة أبياته تركيبة تسلسليه جريانيه من حيث صهر المعاني وصبّها شعراً، نتحسس في قصائده جرياناً منطقياً وكأن القصيدة معادلةٌ رقميةٌ تنم عن عقليةٍ "لوجيكيه".

تميز منيب الحاج بكونه شاعرا دائم التوجه الى الضمير المخاطَب :.. "الى الذين يحلمون الاحلام الخبيثه".. "الى هاجره".. "الى اتباع نيرون".. "خطاب الى العراه في ضوء الضمير".."خطاب الثائر الى السيد الجائر".. "يا امريكا".. "بيان".. رساله الى معاويه وشاعر ويسوع".. "الى الصامتين عن أعمال القمع والتنكيل".. "يا هذا العالم".." لا تخنقوا الضوء الاخير".

كانت السبعينات عقدا مفصليا في حياة آل الحاج أثَّرت على حساسية الشاعر وتركت ندباتاً في نفسيته، إلا أنه أبداً لم يفقد الامل.. أبداً لم يُضجره ملل، من هطول النوائب لم يُصبه كلل، او يُتعب جسمه النحيل ثِقل..آثر التفاؤل والاستبشار:.."ما دام لم يزحف على قلوبكم ملل- ما دام لم يطح بها ذعر ولا وجل- بشراكم يا اخوتي- لم يبق الا موجة او موجتان امام مركبكم ليبلغ مرفأهْ- لم يبق الا ليلة او ليلتان من السهرْ- ان انتفاضتكم لمفتاح لفوز منتظرْ".. فقد كان الشاعر يخاطب اطفال الانتفاضه طفلاً طفلا وكأنه يناديهم باسمائهم فرداً فردا:" واَصهر بحرارة ايمانك اغلال القهْر- واِغزل بالعزم عباءة نصرْ".

ورغم إصراره على شرعية المقاومه وحقه في دعمها معنويا وادبيا الا انه كان شاعرا ً متوازنا ً عقلانيا ً لا ينفخ بأبواق المقاومه على حساب الابرياء ولا ينعق في ميدان الحرب ليصير من الاغنياء على حساب أراض ٍ جُرفت وبيوت هُدّمت، فقد دعى للسلم اذ دعت له الامم (مباحثات سوريه):

يكفينا دمعا وأنينا     فالقلب يفيض بأحزانِ

يكفينا آلام نزيف     قد عانى منه الشعبان ِ

اجنح للسلم فقد جنحوا  ولتهجر سيف العدوانِ

وهنا نرى عدالة أحكامه ورجاحة عقله في وصف السلم بالحل الأمثل لكلا الشعبين، لانه آمن دوما بحق الجميع في الحياة والوطن، اذ هاب بالجميع لرَي برعم السلم الغَض:.. "تعالوا نذيب صقيع العداء- بشمس المحبه- تعالوا لنهجر دربا محاطا بشوك وشر- كفانا انزلاقا على طريق الحقد والهم- تعالوا لنحمي أولادنا من وخزة اليُتم."

لم يكن منيب فهد الحاج مجرد دارس ٍ ومحب ٍ للّغة العربيه بل باحثا ً في الألسن، عرفناه بقريحته المتـَّـقده وبصيرته النيّرة المتأجِّجةِ باحثا ً لجذور وأصول الكلمات العربيه والعبريه في العرف الاجتماعي والسلوك المجتمعي، اذ كان يتأمل ويتدبّر في الكلمات ومعانيها وضروب إستعمالها، يربط بين جذر الكلمه وأصلها في الوعي الجماعي لدى متحدثيها، ككلمة شحاذ (سائل الصدقه) إستنبط أنها اُطلقت على السائل لانه يشحذ (يسن=يحفز) المروءة ويستفز الكرم، فعزلة الشاعر وترفعه عن الاضواء والناسِ طوعا وكرها في آن معا ً جعله دائم التأمل والتفكر في الوعي الجماعي في مجتمعنا.

في العقد المنصرم إشتغل الشاعر بالخواطر والتي كانت تنشر في صحيفة الاتحاد.. ربما شهدت حالة الخواطر نضج فلسفته الشخصيه فارتأى صياغة الفلسفه نثرا ً بعد أن إرتقى بها في الماضي شعرا ً.

صباح الخامس من ايلول دخل منيب فهد الحاج دين السلام وأسلم روحه لبارئها عن عمر ناهز الواحد والستين، توفي الشاعر ويشده حنينُ النيب الى عالم آخر لقوله: يشدني الحنينْ- لعالم مافيه سَوط أو أنين- لعالم هنيئ مافيه حاكم لعين".

فنجد في اشعار الفقيد انه كان توّاقا ً ليَقطُن يوما المدينه الفاضله في هذا العالم، فربطه بالماده وجدانٌ أفلاطونيٌّ لا سيما وهو الذي تزهّد في الدنيا واعتزلها مُذ فصله من سلك التدريس. رأيناه في حياته هائما ً يشده الحنين، حالما ً بعودة المنفي الشريد..بعالم ٍلا يقاد بالنار والحديد.. بعالم ٍ ما فيه مَسْغَبه ولا يَغُصُّ بمَتربه.. بعالمٍ يتعطر بالود والمحبّه، فما اِنفك الشاعرُ حتى آخر آنفاسه يطارد "غزال السلم الوسيم" فما خارت قواه وما فترت عزائمه وهو يشدو حقنا بالوطن والسلام " لن أستريح حتى يحل السلام في وطن المسيح- حتى يسود العدل في وطني الذبيح- حتى يعود النوم للجفن القريح"..وظل الشاعر يلهث خلف غزال السلم من الجليل الى بيروت الى بغداد الى غزةَ حتى إرتطم بجدار المنون دون أن يزهر بستان احلامه.

رحمه الله أتانا من جرح الجليل بالبينات فما أنصفناه ولا أكرمناه، ربما لأنه لم يبحث عن أضواء أو راتبٍ شهري من السلطه الفلسطينيه أو منصب رسمي في إحدى الدول العربيه..أعطانا واجبه ولم نعطه حقه إلا عندما احتضنه التراب لانه "صار مهر الارض اغلى".

- خرس لسان الرثاء من وَطْئ ِ مصابنا فيك، يا أبا نـَيْزَك لا نملك أن نبكيك وأنت القائل: ماشيمة الرجال أن تبكي إذا مال الزمان. مالنا إلا أن ندوّي صرختك في وادي الصبر :

"عيوننا ستائر سوداء.. يتيمة الضياء.. قد كنت الضياء.. عيوننا مشدودة نحو السماء.. تستمطر الرجاء.. والعيد جاء.. يلفه البكاء.. ياليتنا كنا الفداء".

 

خالد وليد كامل

30-9-09 الاربعاء

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1185 الخميس 01/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم