قضايا وآراء

قراء في قصة: بيت من لحم للأديب الراحل يوسف إدريس / دينا نبيل

 تجري أحداثها في بيت من لحم أو كما قدم الكاتب بذكر أنه حجرة ضيقة لأربع نساء – أرملة وبناتها الثلاث، واللافت للانتباه فعلا استخدام هذا العنوان فهو بيت من لحم وليس من طوب وأخشاب .. بيت ممتلئ باللحم وقانون " اللحم الدافئ " هو من يحكمه !

ولعل المقدمة التي قدم بها الكاتب قصته الرائعة تعد بمثابة رابطا لخيوط تتشابك مع جميع عناصر القصة ؛ المكان والزمان والأحداث والأبطال والقضية الرئيسة بالقصة. كما تكمن أهميتها في أنها مليئة بالايحاءات التي تفسر جوانب كثيرة من النص

 

مقدمة عن المثلث الحسي:

"الخاتم بجوار المصباح.. الصمت يحل فتعمى الآذان.. في الصمت يتسلل الأصبع، يضع الخاتم..

في صمت أيضًا يطفأ المصباح، والظلام يعم.

في الظلام أيضا تعمى العيون .. الأم وبناتها الثلاث . والبيت حجرة . والبداية صمت" 

يلاحظ المتلقي هنا أن الكاتب قد ركز على مثلث حسي من ثلاثة أضلاع في هذه المقدمة --- (الخاتم – المصباح – الصمت) وهذه أول ثلاث كلمات بالنص هذا المثلث يمسك بأطرافه الأبطال ليكون لنا شكل البيت – بيت من لحم

***لكل كلمة من الثلاث، مدلولات كثيرة عند المتلقي وبالتالي لها علاقة كبيرة بالنص  فمثلا:

في العام: الخاتم: خاتم زواج – حلقة – دائرة – حركة الدائرة – التناوب – الدوران في دائرة مفرغة – الوصول لاللاشيء (التيه)– إغراء – حب تملك – الختم: الوصم – الشيء الملتصق لا ينفك عن صاحبه – الوصول إلى غاية لأنه يختم الإصبع

في النص:  دوره في السرد: خاتم زواج الأرملة من زوجها الشاب الأعمى – تسرقه الابنة الوسطى لتقضي وطرها مع زوج أمها –  تعجب به الابنة الكبرى وتأخذه وكذلك الصغرى– الأم تعطيه إياهن طواعية – تتناوب عليه الأم وبناتها الثلاثة في النهاية .

فدوره عامل مساعد في الحدث الرئيس بالنص، فمن تمتلكه تتمكن من التمتع باللذة مع الشاب الأعمى فكأنما صارت زوجته بارتدائها الخاتم.

في العام: المصباح: نور / ظلام – الرؤية / العمى – اليقين / الشك – نور الأمل / عتمة اليأس – النهار / الليل – الثوب الكاسي الأسود

 

في النص: دوره في السرد: (إنارة): أعين البنات كالكشافات المصوبة للمسافة بين أمهن وزوجها – الزوج الشاب هو لمبة الكهرباء التي أضاءت حياة الام بعد يأس " فانوس الأم الذي عشش عليه العنكبوت " – (عتمة): يطفأ المصباح عند الاقتراب من موعد المتعة بين الزوج الشاب وإحدى النساء الأربع

 فهو عامل مساعد على ممارسة الحدث الرئيس في القصة، حيث مع انطفائه وسيادة الظلام  يستمر الحدث (حركة الخاتم) .

في العام: الصمت: عمى الآذان – حزن – يأس - انتظار- ملل - اختفاء - حيلة - مكر  -  سرقة موت – إحساس بالذنب – فقدان التواصل – قطع التواصل عن عمد  

في النص: دوره في السرد:  الصمت تكرر ذكره أكثر من مرة في وسط تطور الأحداث – في بادئ الأمر كان الصمت متأصلا ثم اختفى فجائيا .. ورويدا بدأ الرجوع ...

1-   صمت الحزن: بعد موت الزوج الأول  إثر المعاناة من مرض طويل

2-   صمت يقطعه الصمت: وقت التلاوة الروتينية التي صارت كأنما لا تسمع – انتظار الفرج والزوج

3-  صمت منفي: بعد زواج الأم وقضاء وطرها معه في الليلة الأولى انقطع الصمت إلى غير رجعة كما ظننّ وقتها وكان الصخب والضحك والغناء – والذي قطعه صوت الزوج الجديد

4-   صوت تسلل: مع بداية الخطيئة ووقوع الابنة الوسطى فيها

5-  صمت مطبق: إرادي – متفق عليه – يخشى خدشه وإلا انهار كل بناء الصمت – والويل إن انهار ---- هو اقوى أنواع الصمت قاطبة

---- عكس الصمت كان دائما هو صوت الشاب (قوي عميق رنان حلو الصوت – عالي الضحكات)

 الصمت عامل مساعد على جريان الحدث الرئيس في القصة، ويسود هذا العامل منذ بداية الأحداث حتى نهايتها

الربط:

يبدأ الكاتب منذ أول سطر في القصة بإظهار العلاقة بين أضلاع المثلث الثلاثة لأن لا يوجد واحد منهم يعمل في القصة منفصلا المصباح يطفأ (عمى العيون) في وقت تصمت وتخرس فيه الأصوات (عمى الآذان) ولما يجتمع العَمَيَان " يتسلل الإصبع للخاتم " ؛ هذه صورة فنية رائعة بجملها القصيرة توضح الحركة المترقبة المدروسة لما يتم في هذا الموقف والذي سيتكرر كثيرا فيما بعد لذا استخدم الكاتب زمن المُضارعة فكان في غاية التوفيق ليدل على استمرارية الحدث واستحضار المشهد أمام عين المتلقي.

 يقول الكاتب " والبداية صمت " وتكون هذه بداية القصة .. والضلع الأول من المثلث

الصمت كان له نصيب الأسد من القصة فيتصدر كل مقطع بها ويهيمن على جوها حتى صار كأنه شخصية تؤاكل وتشارب الأبطال !!..

فقد كان الصمت هو البداية  بعد أن توفي الزوج بعد صراع طويل مع المرض مخلفا وراءه بنات في عمر الزواج  وزوجة شابة جميلة تزوجت مبكرا وترملت مبكرا وتنتظر هي الأخرى زوجا كبناتها...

يكون اول اختراق لهذا الصمت الحزين هو ذاك الصوت الرتيب للمقرئ الكفيف الذي يمتهن ما يعمل فتصير تلاوته أشبه بالصمت الذي يقطع الصمت .. و يبقى السؤال للمتلقي أين هذا من تلاوته لكتاب ربه ولمَ تصدر منه التلاوة جوفاء كأنها الصمت رغم أن المفترض منها ان تخشع على وقعها القلوب المنكسرة .. فهذه مفارقة من قارئ للقرآن:" .. كأنها قطع الصمت بصمت .. دائم هو كالانتظار،  كالأمل .. أمل قليل ولكنه دائم ..."

ينقطع الصمت لأول مرة بصوت حقيقي يتمثل في اقتراح الزواج من المقرئ الأعمى بعدما انقطعت رجله عن بيت النسوة فكان الحنين لذلك الصوت الرجولي الصامت .

وتأتي الأم ذلك الرمز المقدس الذي عرف دوما بالعطاء وتفضيل الولد على ذاتها .. حتى أنها  " تخرج اللقمة من فمها "  في سبيل إطعام ولدها لسد جوعه  

 في هذه القصة يقدم الكاتب أما عادية في البداية تظهر نموذج الأم  بكل ملامحها الطبيعية حتى التضحية المعروفة عنها عندما تزوجت من الشاب الأعمى لما رفضنه بناتها .. لكنها تغفل حاجة بناتها أن هن الأخريات بحاجة للزواج فلم تفطن لذلك لأنها كانت في طور التعويض من حرمان الترمل وقبله مرض زوجها المتوفي ..

 **والسؤال المداهم .. أين ستنام مع زوجها ؟

فكانت الليلة الأولى لتكشف الصدمة الواقعية .. إنها الحجرة الضيقة ذاتها زادت فيها نفس قلبت سائر الأنفاس لأنفاس محترقة .. وهنا يصور الكاتب الوضع المأسوي لهذه الطبقة المعدمة والتي تمثل حالا واقعا في كثير من الأماكن بمصر . فالعائلة كلها تنام في حجرة واحدة حيث لا مكان لمراعاة الحرمات والعورات فالكل مكشوف وإن كان في البداية هناك الحدود لكن مع الوقت ستتلاشى كما تلاشت المسافة بين الأم وزوجها بعد عدة ليال .. وصارت أعين البنات التي كانت كالكشافات مصوبة في البداية .. تعتاد الأمر

فهذا مجتمع مدمر .. ينهار فيه البنيان الديني والاخلاقي ويُخرج أناسا مشوهين يفترسهم العوز والقهر ويبحثون عمّا يسد عوزهم حتى ولو  " لقمة "  يقتسمونها ولو بالحرام .. ومن هنا بدأت المشكلة

... الخاتم ... أين الخاتم ؟ .. الضلع الثاني 

هو خاتم الأم .. وهو وسيلة الأعمى الوحيدة للتيقن من أنثاه وسط هذه الكومة من اللحوم النسوية الدافئة .. لكن في إحدى المرات غاب الخاتم عن أنثاه .. لم يكن يشك بالأمر لكن الأم:" كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة كان ممكنا أن تجنّ . كان ممكنا أن يقتله أحد فليس لما يقوله إلا معنى واحد ما أغربه وما أبشعه من معنى ! .. لكن غصّة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها  .. سكتت "

وهكذا بدأ الصمت يتسرب إلى البيت من جديد هي وابنتها الوسطى تصمتان على العشاء ثم تعجب الكبرى بالخاتم وتطلب ارتداءه ليوم واحد ولحقت هي الأخرى ببناء الصمت " ولكن الصغرى تصبح بالصبر والهم وقلة البخت أكبر وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم وفي صمت تنال الدور "

 

ويعود الكاتب للمقدمة من جديد ... في حلقة مفرغة تشبه حركة الخاتم في لبسه وخلعه

فتعطيهن الأم " اللقمة من فمها " ... الخاتم، فتخلعه وتضعه بجوار المصباح وعندها ينهار البيت على أعتاب ذلك الخاتم. إنه إيثار لأم من نوع غريب تحدي لصورة المرأة المعهودة عند المتلقي إنها أم ترى بناتها الجياع لكنه جوع من نوع آخر.. جوع فرضه الفقر، القبح واليتم ليزج بهن لتقاسم اللقمة الواحدة ولو بالحرام .. فتبقى الأم بين نارين نار الحرام ونار جوع البنات الذي لن يبرد .. إنه زلزلة للمتلقي من أعماقه رؤيته لهذه الصورة القبيحة لأم وبناتها قتلهن العوز والانتظار الذي سريعا ما تبدل إلى اليأس .. وهنا المفارقة أن تكون الفتيات  في مثل هذه السن الصغيرة بهذا القدر من اليأس مع الانتظار، إنه ليس مجرد انتظار بل يحيط به أسلاك شائكة من القبح واليتم والفقر تبعد نظر أي شاب عن التفكير فيهن، انه انتظار مستعر عند رؤيتهن أمهن في أحضان رجل يرضيها فيتطلعن هن اليائسات إلى مثل هذا الرضا

وهاهو المصباح يأخذ دوره في هذا المثلث .. فالصمت قابع والخاتم موجود .. لكن المصباح يطفأ ويضاء ليوحي بالحركة واقتراب موعد المتعة مع الأنثى صاحبة الدور

وهنا سؤال يتبادر إن الأعمى أعمى بطبعه فما فائدة غلق النور ؟

والاجابة المؤلمة فيما قد يظهر للمتلقي ان كل أنثى منهن تطفئ النور كي تظل هي ملكة ليلتها فلا تنصب نحوها الكشافات حتى تنال حظها

ويعم الصمت " ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا إلا الكفيف الشاب، فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا .. إنه هو الآخر يريد أن يعرف عن يقين يعرف  " 

وهنا تاتي الجملة الفارقة في النص ورسالته معا:" الخاتم دائم وموجود صحيح ولكن الإصبع الذي يطبق عليه كل مرة إصبع . إنه يكاد يعرف وهن بالتأكيد كلهن يعرفن فلماذا لا يتكلم الصمت ؟ لماذا لا ينطق ؟"

 ادرك هنا الاعمى الأمر ومن حينها  لاذ هو ايضا بالصمت  ... لقد صار الصمت الأخير هذا قويا شديد الإحكام حتى صار كشخصية بذاتها بناء منيع يخشى خدشه حتى لا ينهار البناء كله " إنما هو أعمق أنواع الصمت فهو الصمت المتفق عليه أقوى انواع الاتفاق ذلك الذي يتم بلا أي اتفاق " 

وهكذا يظهر كيف ان الأدب  ليس نشاطا فرديا خالصا فهو جزء من الحياة الاجتماعية يعكس مشاكل المجتمع دون ان يؤثر ذلك على فنية العمل الأدبي ..  فالكاتب يضع يده على المشكلة يصورها بدقة وأمانة من غير تدخل، فيترك للقارئ حريته، فهو لايوجه القارئ الى الرفض لهذه الحال او قبولها، مجرد ان نقل لنا الصورة الواقعية بادق تفاصيلها .

 فكما يوضح النص كيف كان يتربع الصمت على أنقاض البيت فهو ذاته يتربع على أنقاض الضمير بالمجتمع فصمت (يعمي أذنيه)عن السماع بالمشكلة... إنه الصمت المتفق عليه من سائر القوى المجتمعية، وظلام (يعمي العينين) عن النظر إلى المشكلة بعين الاعتبار لذا فأخذ المجتمع يلف في حلقة مفرغة تشبه (حركة الخاتم) لا يصل إلى حل وإنما يلف مع المشكلة وتلف حوله المشكلة حتى تكاد تدمر كيانه والمشاهد للقنابل الموقوتة التي تلف حول الأحياء الراقية كسياج خانق يوشك ان ينفجر .... بل تلوذ بالصمت فكم يعرف المجتمع عن العشوائيات وكيف تخرج للبلاد مسخ بشري يأكل باقي المجتمع !، كتبت هذه القصة في الستينات على ما أعتقد  وكانت المشكلة لا تزال في بدايتها ....والناظر الآن يدرك مدى الصمم والعمى الذي يصر عليه المجتمع .. فلا تحل المشكلة وتظل قائمة بعدما لفت إليها النظر أحد الكتاب الكبار منذ ما يقرب على اربعين سنة .. وها هي لا تزال مستفحلة وفي تدهور مستمر !!

**ويبقى السؤال الأخير " أم على الأعمى حرج ؟!"

 في هذه القصة يقفل الكاتب الأحداث على سؤال مفتوح للمتلقي يتركه بلا إجابة في حرفية أدبية تجعل القارئ يفكر ويعيد النظر في ملابسات الأحداث ويغوص في الشخصيات وتاويلها بعمق ليجد الاجابة من النص التي ربما تخالف ما علق بذهنه وبهذا السؤال يمثل مفارقة كبيرة لدى القارئ .. فالأعمى ليس عليه حرج لكن هذا الأعمى له شأن مختلف.

يفكر القارئ في حال هذا العمى هل يعذر في معاشرته الأم وبناتها بسبب فقدانه البصر وكما كان يقول الفاقد للبصر فاقد لليقين فلن يعرف أبدا ..

لقد كان  للمثلث الحسي دور كبير  في تكشف هذه الحقيقة فقد كانت كل شخصية لما تقع في الرذيلة تأخذ تلتحف بالصمت ؛ لأن كل عمل رذيلة يحتاج الى صمت من الاخر حتى يتمها، ويحتاج الى ظلام حتى تشهره الإضاءة وتفضحة، ويحتاج الى عامل ثالث هو وسيلة توصله الى هذه الرذيلة كما الخاتم في النص ... حتى صار هناك بنيان للصمت داخل بيت اللحم .. لكن وجد أن هناك حائطا فولاذيا من الصمت يريد أن يهوي عليه تحطيما وتكسيرا

 

لكن لما تبادر إلى ذهنه مجرد السؤال عن حليلته غص باللقمة ومن وقتها لاذ هو الآخر بالصمت .. لقد دخل معهن في نفس البناء الصامت داخل بيت من اللحم .. لكنه كان يعلل نفسه بفقدانه البصر وأنه ليس على يقين .. " واليقين لا يزول بالشك " .. وهو يشك لأنه اعمى ولا سبيل لليقين إلا بالإبصار .. وهذا مستحيل لديه.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1998 الأربعاء 11 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم