قضايا وآراء

رسم الصورة (2) الرجل العقلاني

 كليشيه بسيطة لمحرري الصحف وللكتاب الذين حاولوا أن يجدوا معنى أعمق وراء مقتل الرئيس : كان كينيدي، وهو الراعي للعقل في الحياة العامة، ضحية للبغضاء والتطرف. هذه الفكرة كانت أقرب، خصوصا، للليبراليين الذين أيدوا مقولة مقتل الرئيس على يد صعلوك معزول . ولقد تعاطف اليساريون بأسلوب سطحي مع الموضوع، غير أن هذا الاتجاه لم ينتشر ولم يكن له معنى. وإن إلقاء اللوم، في جريمة مقتل كينيدي، على طوفان الجماهير غير العاقلة، كان له معنى أبعد فيما يتعلق بالمسائل الفنية التي أحاطت بالاغتيال. وفي إحدى وجهات النظر المعروفة، إن موت كينيدي نجم من " مناخ للكراهية " انتشر في عموم دالاس، حيث تحمّل الجناح اليميني المتطرف في المدينة المسؤولية الأولى. وفي رأي آخر، كان الاغتيال نتيجة للعواطف العنيفة التي يرعاها المتطرفون من كلا الطرفين: اليمين واليسار اللذين أعلنا الثورة والعصيان على الغموض والتعقيد الأخلاقي في المجتمعات المعاصرة. وفي مقام آخر، اعتبر لي هارفي أوزوالد رجلا شعبيا مهمشا يعاني من الاغتراب. وهكذا ترجم اغترابه إلى تطرف إيديولوجي وأفعال عنيفة.   وكيفما تم تطوير الأطروحة الخاصة بالمسألة  كانت الساحة التي تدور فيها هي ذاتها. إن الاغتيال ليس مجرد أداء رجل محدد يضغط باتجاه أهداف معينة (و ربما هي مقروءة عقلانيا)، إنه كما يقول جون كوغلي: " تعبير لقوى غير عاقلة تشق طريقها نحو صلب الحياة الأمريكية ".

و استدعى مفهوم الاغتيال، بما أنه أداء غير عاقل، إلى الذهن معنى إضافيا له روابط متينة مع خصال كينيدي ذاته. فهدوء كينيدي وتماسكه و" أسلوبه " غير العاطفي كان حصيلة رغبته في تخليص الحياة الأمريكية من عواطف التطرف الإيديولوجي الذي اعتدى على حياته. أضف لذلك، إن تعلق " ج ف ك "  بالكتب وبمؤسسة الأنتلجنسيا، وإلحاق عدد كبير من جماعة البرج العاجي وحملة شهادات الدكتوراة بالمكتب الفيدرالي، ينظر إليه على أنه برهان على اهتمامه بنشر النشاط العقلي على نطاق واسع في الأمة. ولعب تقبله للأفكار والثقافة دورا معاكسا لما يفترض أنه عداء للثقافوية في فترة 1950 (الخمسينيات)، عندما تم استبعاد المثقفين بضراوة من واشطن. وقد صب عليهم الرئيس دوايت د. إيزنهاور وأعضاء حكومته جام غضبهم. وعلى هذا الأساس نعت جوزيف كرافت " مهمة "  كينيدي بأنها " عقار  ضد الإيزنهاورية، وفيها يتم تشخيص المشاكل التي تقاوم الحنان العاطفي والعقل الضروري من أجل وضع حل لها".

و امتدح هانز مور جينتهاو، على نحو مماثل، كينيدي لأنه " وضع المثقفين والثقافة أيضا في موقع محترم أمام عيون الجماهير ". وأحيانا إن مثل هذه الأقوال كانت تنظر إلى اهتمامات الثقافويين كنشاط طبقي على أنها تطوير للمثقف ذاته، وهذا هو رأي شليسينغير : فهو يعتقد أن كينيدي مسؤول عن إيقاظ " نزعة احترام الأفكار " في الولايات المتحدة. في نفس الوقت كان المديح ينصب على كينيدي لقدرته على استيعاب حياة أساسها التعقل، وكانت جوقة المؤيدين متحمسة لفصله عن الثقافوية المجردة غير القابلة للتطبيق.  بهذا الخصوص، كرروا ببساطة ادعاءات كان لها رصيد سابق قبل حادثة الاغتيال. إن المعادلة غير المحظوظة التي تساوي بين المثقف والنشاط غير الفعّال قد أرسى دعائمها أدلاي ستيفينسون، وأكدت واحدة من وجهات النظر الأساسية التي شرحت معنى الثقافويين بالنيابة عن كينيدي في فترة 1960  أنه كان يعزو الاغتراب لعالم السلطة وعالم المثل.  وكما قال جوزيف ألسوب برطانته كان ج ف ك " عبارة عن ستيفينسون متهور " . ولكن رئاسة كينيدي ذاتها كانت مبررة لأنها تعزو لعدم القطيعة بين المثقف والمسؤولية (كما في رأي ستيفينسون) صفة التسامي.

و في أعقاب موت كينيدي ألح كتّاب سيرته على الموضوع التالي : هل يجب أن ننعته بصفة " مثقف "، غير أنهم أكدوا جميعا أن هذه الصفة لا يمكن تطبيقها لو أنها تعود إلى شخص له علاقة بالمثل والأفكار المجردة. إن الاهتمامات الثقافية لـ " كينيدي " لم تكن تتخطى حدود القيم، والتي يمكن تحويلها مباشرة إلى اقتراحات وبرامج ملموسة. ومع أن كينيدي كان " تهكميا " تجاه الحساسيات التي تفرضها عقدة المثقفين خلال السيرورة التاريخية  " لم يسمح للتهكم أن يقطع عصب النشاط الفعال ".  

و أحيانا إن عدم الثقة المبطنة، إن لم نقل الإزدراء، ضد الثقافة النظرية (وهي بعكس الذكاء " العملي") كانت واضحة من وراء المديح الذي استحقه كينيدي كرجل عقلاني. على سبيل المثال، أشار جون كوغي إلى أن ج ف ك "يوظف" أفكارا هو "لا يقع تحت تأثرها".

و فوق ذلك، أشار كوغلي إلى أن كينيدي اصطدم مرارا مع المثقفين لعدائيتهم الموجهة إلى أساليب " عامة " تفيدنا في ترجمة الأقوال إلى أفعال. ولكنه قبل العرض الأفضل " بينماهو يعتقد أن الثقافوية ذاتها لا تكفي لصناعة قيادة سياسية ".

مثل هذا التقريظ جعل كينيدي رجلا يتمتع بذكاء "عملي" يرتبط دائما بميزات تعود إلى " براغماتيته ". وقد حاول شليسنغير توضيح هذه الفكرة البسيطة نسبيا عن طريق ربطها بفلسفة جون ديوي وويليام جيمس. ولكن في الحياة كانت اهتمامات كينيدي بعالم القيم تعترف بالعواقب العملية، وكانت له مقاربة باتجاه التجريد والإيديولوجيات والميتافيزياء وكانت لديه رغبة بالتجريب والإبداع وكذلك انحاز إلى حل المشاكل عن طريق الدراسات النظرية. وبهذا المعنى، قد تكون " براغماتية " كينيدي تعبيرا عن ليبرالية حديثة " تقدمية "، وقد اعتز مؤيدوه بمقاربتهم لقيم راسخة ورغبوا أن تتبنى الدولة حقائق اجتماعية متبدلة. ويمكن النظر كذلك إلى النمو الذي أعقب الحرب العالمية 2، وفترة ما بعد أوهام مكارثي تجاه الإيديولوجيات على أنها " موضة "  انتشرت بين مثقفي أمريكا في أواخر 1950 وبواكير 1960 . وكان تصور كينيدي كرجل عقلاني " براغماتي " مرتبطا أيضا برؤية مؤيديه لمصير الليبرالية بعد الميثاق الجديد. برأيه، لقد تفكك ذلك إلى إيديولوجيا رسمية، أو " دوغما " بمصطلحات تيودر وايت، وكانت تعوزها الأصالة والحيوية. ولهذا السبب أصبحت عائقا في وجه التطور، ومن هنا نجمت الحاجة لرجل من نوع كينيدي، رجل ليست لديه " خطط " جاهزة عن المستقبل وهو غير متأثر بالإيديولوجيات والمعتقدات الثابتة، ولكنه متقبل لتيار التبديل الذي يجتاح البلاد. وبنفس الطريقة، قرظ جون روش وشليسنغير " سياسة كينيدي في الحداثة "، والتي قامت على التجزئة التقليدية بين الليبراليين  والمحافظين، وفتحت الطريق لتبني " قيم جديدة " ثورية في الحكم. لقد أعلن روش ذلك لأننا بسبب كينيدي " نحن نقف على عتبة مرحلة جديدة، مرحلة تتساوى فيها  طبقات " ليبرالية " و" محافظة " من ناحية المعنى مع " ويغ " و" توري " (1).

و بناء على ما سلف يبدو أن أعداء كينيدي ليسوا مخطئين أو مخدوعين، وإنما هم غير عقلانيين. في التعريف بكينيدي وبرامجه على أساس أنهما مذهب في العقل كان مؤيدو " ج ف ك " أحيانا يخونون التوجه المقلق الذي يساوي بين المختلف وغير المتعقل. وهنا، كما هي الحال في زوايا أخرى متعددة، قدم شليسينغير أفضل برهان. برأيه إن أعداء كينيدي تقاسموا السقوط المشترك والذي لم يتمكن من مقاومة ما يمليه " العقل " لأن رؤاهم كانت مشوهة بأساطير ودوغمائيات وإيديولوجيات واهمة.  حسب شليسنغير كان بينهم من يمثل الجناح اليميني ويرتعد من العالم الحديث،  ومن هو مقترن بصيغ تعبر عن الاقتصاديات الكلاسيكية والتي هي في خاتمة المطاف عرضة لآراء ملحمية (قيامية) عن الحرب الباردة . وهناك ليبراليون بعيدون عن " الاهتمامات " العديدة (غير المحدودة)، ويميلون لتبني إشارات ورموز تسكنها تصورات " يوتوبية " عن التحول الاجتماعي الكلي، وبيروقراطيون منتشرون في مكاتب الدولة ولا يشتركون مع رغبات كينيدي في استجابة واضحة ومختصرة ورفيعة تجاه المشاكل العالمية. ثم عنصريون من الجنوب وسفسطائيون يرفضون الاعترف بلا - عقلانية نظام الفصل والتمييز العنصري.

و خلف هذه الصورة المرسومة لأعداء كينيدي ليس من الصعب أن تلمس الميل الخاص لتحقيق مصالح" المثقفين الفاعلين " والتكنوقراط الذين أتى بهم كينيدي إلى واشنطن. وهذا، حتى، أشد وضوحا في صورة كينيدي نفسه باعتبار أنه رجل براغماتي وعقلاني تحرر من الدوغمائيات والأساطير والإيديولوجيات، الأمر الذي سمح له بتحقيق مهارة عملية في مضمار " الواقع ". وبهذا السياق أن تعزو موت كينيدي للتطرف الجماهيري العام واللاعقلانية (التهور) أمر له رصيد ذو معنى. فهو لم يعمل على التحذير فقط من أخطار العاطفة الإيديولوجية الشعبية، ولكنه أيضا قطع الفكرة القائلة: على الشعب أن يختلف عن النخبة القيادية التي تمثل فعلا سلطة " العقل".

 

.................

هوامش المترجم:

1 -  ويغ وتوري : مصطلحات قديمة استبدلت منذ القرن التاسع عشر لتدل في البرلمان على عضو عمالي أو محافظ على التوالي.

 

المصدر:

The Image Created – Man Of Reason, By : Thomas Brown . In : J F K , History Of An Image. I. B. Tauris and Co Ltd publishers, London. 1988 . p.p. 8 – 12.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1185 الخميس 01/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم