قضايا وآراء
التداخل الزمني في الخطاب الروائي .. قراءة في "أعمدة الغبار الروائية" لإلياس فركوح / زيد الشهيد
ما كان قد خفي وطمر تحت ركام تعاقبات الأعوام فيعود بمجرد توفر عامل شرطي يعيد لحدثٍ ما أو موقف وجوده على سطح الذاكرة الآنية ليكون حافزاً ومتمماً للسلوكية الانفعالية التي تمارسها الشخصية كردة فعل إزاء الماثل من الأحداث أو الأفعال . وكان أن استفاد الكتّاب من آراء فرويد في تحليله لسلوكيات الإنسانية التي أوعز الكثير منها في الكبر، لأعوام خلت في الصغر . ففي الخطاب السردي أو النص القصصي راح الكتاب يدخلون تعدد الأصوات داخل العمل الواحد متنقلين بحرية على هذه التعددية فأثمرت جهودهم عن بنيات سردية ساهمت في نجاحية أعمالهم ووصولها إلى قلب المتلقي ووعيه بانبهار وفتنة ؛ فتولد تيارٌ من الأعمال الإبداعية سواء على مستوى الأدب أو الفن ومنه الفن التشكيلي الذي استثمره كبار مبدعيه ومنهم سلفادور دالي في خطه السريالي أحسن استثمار .
وفي روايته " أعمدة الغبار " سعى إلياس فركوح إلى استخدام تيار الوعي انتقالاً بالزمان، واستثارة للذاكرة ؛ فجعل من خطابه هذا انموذجاً يمكن التعامل معه على أنه من المجيدين في استخدام هذه التقنية التي تحتاج إلى دراية وانتباه وإلا تسربت خيوط مجرى الأحداث من بين أصابعه وتداخلت الأزمنة بفوضوية لا تحسب لصالح الخطاب .
يوارب الخطاب الروائي لأعمدة الغبار أبوابه بحالة استرجاع " نصري " الرجل الأربعيني لذكرياته مع " صبا " إبنة الخالة التي صرف زمناً من العشق معها فكانا شابين يتبادلان الحوارات وكلّ منهما له رؤيته للحياة بكل إرهاصاتها وتفاصيلها وجموحها ، وما يحدث فيها من معقول ولا معقول . يلتقيا فيتركا للمكان فسحةً تصويرهما و الاحتفاظ بحزمة من انفاسهما وهما يخطوان في حديقة تكون أشجارها ومساراتها والأعواد المتكسرة شهوداً على الدواخل وما يعتورهما . أما الآن وهي ليست بعيدة . فالفراغ يملؤه والفضاء : " في كثير من الصباحات الأخيرة كان يستيقظ على خواء شامل . لا شيء في البيت يتحرك سواه .. خواء . ليس من نفَس يجاوره، وثمة فجيعة . متروك في بياض لا سقف له ولا أرض . الخواء في داخله هو ايضاً . " ص12 ..
والرجل الأربعيني يمارس عمله الصحفي ويعيش حياته اليومية بين الشخوص السياسية وهموم الناس والتجارب الاقتصادية الفاشلة الآيلة إلى النكبة وكلها محبطات تفاقم لديه تجاربه المتهالكة وخصوصاً في الحب الذي سقط صريعاً في تجربته الأكثر ارهاصاً وانفعاله مع " صبا " وهما يعيشان في بناية واحدة يشغل هو الطابق الثاني في حين تشغل هي وأمها الطابق الأول في عمَّان العاصمة التي تأخذ أسماء أماكنها وجوداً واضحاً في الخطاب فترسم كثير من الأسماء مواقع للقاءاتهما شاهدة على حواراتهما واحاسيسهما وتوادِّهما ونفورهما .
ثمة الشخصيات الأخرى المكملة لجملة العملية السردية الطويلة التي تتجاوز الثلثمائة صفحة تمارس فعلها على واقع غير مستكين ؛ وانفعالات وهواجس تمور في الدواخل :
زكريا الوالغ في نضاله الهادف لبناء مجتمع تسوده الاشتراكية ويحدوه النضال العالمي الإنساني الكوني . كان شيوعياً يستدل على ذلك تأثره بأفكار ماركس لكنه ينسحب احياناً في ساعات محنه إلى المثالية فيعود ذلك المخلوق الذي تتلاعب به الأفكار وتقض هدوءه الهواجس :" في عمقه دائماً حقٌّ وباطل، رغم اعتقاده بالجدلية وتعقيداته، وبذاك الأحمر الملحد صاحب الرأس الكبير واللحية الهائلة نصف المترمدة، إلا أنّ مثاليته غلاّبة في آخر المطاف . " ص91 . وهو في الأخير يعيش معاناة التخفي والهروب، وتفتيش الشقّة، وحالة الفراق مع دالية الزوجة وابناهما الصغير إبراهيم بعدما ترك بيروت وقدم إلى عمّان وقد كست نظرته غشاوة فشل التجربة وساوره يقين الإحساس بالضياع القادم من توالي المؤامرات، وخلط الاوراق، والصراعات المنتقلة من المحلية إلى الإقليمية والعالمية .. وثمّة سلطان القادم من بطون البادية المحمَّل بإرث بدوي يصطدم مع تطلعاته المدينية في أن يكون مخرجاً سينمائياً فتتلقفه عمّان ويضيع قبل أن يصل مدارك حلمه المُرتجى " بيروت "، حيث الهامش الفني الواسع الذي على أرضه وفنه وموهبته يستطيع البزوغ ليكون نجماً عالياً برّاقاً وهاجاً في سماء السينما .
يأخذ الفعل السياسي حيّزاً واسعاً في فضاء الخطاب، ويحصد المتلقي وهو يخوض غمار القص حيوات شخوص شغلتهم السياسة فتداخلوا بها وماجوا في أوارها، وتلظوا بلظاها فرمتهم في أتون خيبات أمل رغم الصمود الذي تميزوا به والصلابة التي تحلوا بها . إنها السياسة اللعوب - التي وصمها رئيس الوزراء البريطاني تشرشل يوماً بالعاهرة – في ماخور عربي يطيح بهيبة الطموحات الكبيرة فيسقط أصحابها مضرجين بوحل الفشل دائماً . زكريا الهارب وراسم العلواني الخارج من السجن متماسكاً فينهار خارجاً مفكَّكاً ؛ ونصري الكاتب السارد المغمور في جيشان القص من اجل بناء حياة تنتفي عنها الضراوة والقسوة . لكن ما يكتب يواجه بهوّة وسيعة تفصله عن التحقيق والنجازة الظاهرة وحالة المقاومة الفلسطينية التي تأخذ من الجنوب اللبناني جبهة لمقاتلة سالبي أرضهم وممزقي ذكرياتهم وترهل هذه المقاومة بجبهات وجهات أيدلوجية غير متآلفة دخلا في بناء العديد منها الأنظمة فأثقلت هذه المقاومة ورهلّتها بحيث أصبحت جبهة القتال لا تطيق تحمل هذه الثقل ما ولد مبررات التدخل الصهيوني واجتياح لبنان في العام 1982 ؛ حيث يترك صانع الخطاب يعود بذاكرته إلى تلك الغرفة التي تطل بنافذتها على ميناء بيروت وهو يشاهد العاصمة المغناج الزاهية تحترق أمام أنظاره، وهو العاجز عن فعل شيء ؛ وهو الرائي كذلك لمستقبل عتيم وماضي لا يستحق النظر إليه . أنها محنة المثقف، وخيبة المقاتل، وانهزامية الأنظمة . ففي المشهد الذي يؤرخه بـ 6 حزيران 1982 المشابه لهزيمة العرب في 6حزيران 1967 . كلاهما يمثلان الانتصار السهل للعدو والهزيمة الفاضحة للنظام العربي العليل .
وهو الشبيه بزمن سقوط غرناطة وانتصار الملك القشتالي فرديناند واندحار أبي عبد الله الصغير حاكم غرناطة .
تنتهي احتدامات دواخل نصري وبوحها المنفتح على التقهقر السقوطي وخيبة الأمل في محاولة انفراج للحال وضعت لمساته وراء الكواليس وفي داخل أقبية السياسة الدهماء حيث الترتيب الأمثل يُقر بانتصار العدو ونهشيم المقاومة الفلسطينية ولكن بوقع ديبلوماسي يحفظ ماء الوجه للأنظمة التي وقفت ذليلة خنوعة عبر مبادرة دولية أو مشروع أممي يرفع لافتة الحيادية، يقودها فيليب حبيب المبعوث الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط . المبادرة التي تقر بخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت بحراً تحملهم سفن يونانية وفرنسية محميةً من قبل البوارج الأمريكية بعد تجربة تحرير فاشلة! .. تجربة ترخ حقبة عربية سوداء وفلسطينية حمراء .
الرومانس .. قصيدة الحالمين الطويلة
يدخل السرد حقل الرومانس ممتزجاً بالهم السياسي الذي يمور في مبتدأ ثمانينات القرن الماضي فيتيه فيه العاشقان ( نصري وصبا ) في أوار بوحهما العاطفي . يتحاوران بالمفردات التي تقطر عذوبةً صادقة تضمخها همسات قلبيهما حيث يجيد صانع الخطاب لغة التحاور والإفضاء فيخلق فضاءً يحيل المتلقي إلى مشارك في تتبع حركتهما وحوارهما ويتماهى في تشابك عاطفتيهما . أن المشهد المعبر عن الصدق الفني والتعبيري يعبر في الوقت نفسه عن تعالق المتلقي به والرضا عنه حيث تغدو أبجدية المشهد نوابض تحفيز لمتابعته من قبل المتلقي . " شدّتني إليها بالطريقة التي تترجم بها قوة عاتية . تقاربنا حتى كدنا نتحاضن في شارع عمّاني عام . معجزة السبعينات.. أواخرها . حافة العالم ونهايته . ثم سألت ببرود :
- " ماذا قلتَ ؟ "
- " سرقَ ألوانَكِ . ألم تحسّس ؟ "
- " من سرق ألواني ؟ "
- " الضوء هناك " أشرتُ إلى الأعمدة فوقنا . " وهنا " . ص140
وتنتقل الأصوات، وتتبادل الأدوار . صوتٌ يأتي منه ليتحدث عنه وعن صبا في استرجاع لزمن العشق . " خرجنا من عتمة القاعة ذات الرؤوس الشبحية الساكنة . لم نقُل . صدم الضوء ألفة الظلام في عيوننا وأربكتني للحظات . مسحتُ على وجهي مستشعراً برودة يدي. ثمة ما كان قادراً على لجم اللغة في فمي وشنقها على لساني . لم أقل . هي أيضاً لم تقل إلى أن اجتزنا سائرين اكثر من شارع . " 139
ثم بنفس الاسترجاع يأتي صوت " صبا " لتتحدث عنه . " نقلتها إلى فمي . قبَّلتُ يدكَ يا باشا آخر زمن وعضضتُ جانبها الطري . ولا آخ واحدة . جثة أنتَ جثة فقلتُ لعلَّ وعسى وتناولت إصبعك، عضضتها قليلاً لكنك هناك . " ص141
تشكل هذه الانتقالات داخل إطار الزمن ألاسترجاعي بنيات سردية داخلية تتبادل أنساق القص داخله ضمن تماهيات تقصدها صانع الخطاب سعياً لتجاوز المألوف الذي يعتمد الحوار الظاهر ( الدايلوج ) مفضِّلاً الحوار الذاتي / التداعي ( المونولوج )
المكان :
يشكل المكان احد البنى والأنساق المهمة في الخطاب السردي . وهو بتداخله مع الزمان يغدو بنية أساسية لتعميق وجود الأحداث والنحو بها صوب الصدقية في العمل بعيداً عن التحليق الهلامي الكاذب ؛ إذْ تعمّق صورها في الذاكرة القرائية وتحفر أريجها في فضاء روح المتلقي وهو يسوح في تفصيلات المكان ويلتقط بمخيلته المتحفزة الأسماء والصفات للشوارع والعطفات، والمحلات، ومقاهي الجلوس، وحدائق النزهة، وحركة الناس، وانطلاق العربات، وتحليق الطيور، وتشابك الأصوات، وطيران الملامح من الوجوه في الطرقات المزدحمة، واقتناص الرؤى من العيون السائحة أو الهائمة .
يغدو المكان لدى السارد من مكونات بعده السردي الذي يمنحه ويمنح المتلقي في آنٍ مدىً من التعلُّق بما حوله وما ترسمه المخيلة في داخله، فتعمق لديه الحنين وتكرس عنده رغبة التشبث بالمكان حتى وهو يهرب لزمنٍ قد لا يجده بين يديه واقعاً . زمن التغيير نحو الأفضل ؛ زمن تحقيق الأماني وإن كانت تتطلب الجسام من التضحيات والصبر والتحمل . ومن هنا نلمس حنين الراوي نصري في خطاب ( أعمدة الغبار ) للمكان حتى عندما يكون الزمن غير متطابق والرغبة الذي يتمنى، والهدف الذي يسعى لتحقيقه . انه يرحل كما يرحل شخوص الخطاب الروائي الآخرون إلى أماكن ذكراهم في وقت يتحفزون للقفز نحو زمان قادم يدخل في عداد أمنية تحقيق الأفضل ؛ الذي في الواقع لن يكون، لما للواقع من محبطات لا عد لها .
وإذ نرى إلى المكان فان رحيل الخطاب يتأرجح بين مكانين مهمين هما " عمّان " العاصمة الأردنية و" بيروت " العاصمة اللبنانية . وحيث أن الأولى احتلت الحاضر فتناثرت على أديمها الأمكنة المتعددة والتي تطلبت الجلسات واللقاءات وأماكن العيش الأخرى فإنَّ الثانية مثلت صورة النضال والمقاومة وعرضت حالات التأجج الثقافي والفكري ومن ثم تزاحم الأحداث ومنها المأساوية التي ستغير مجرى التاريخ النضالي العربي وتسوقه من النهوض إلى التعثر والانكفاء .
الشعرية .. احد أوجه الخطاب
حفل الخطاب الروائي الحديث بالتحول نحو التخوم الشعرية ليتأرج بها ويتعطر فيترك أثرة النافذ في الفضاء الذوقي للمتلقي، فيغدو هذا الأريج من اكسسوارات تألق الخطاب وتأثيره في الذائقة ؛ فتصبح الشعرية من متممات آلية الخطاب اعتماداً على خيال خالقه وإثارة مجسات هذا الخيال لتنتج ما هو مؤثر وفاعل ليكون قوة خفية يصنع سطوته المؤججة بالتفاعل مع هيكلية ومجرى الخطاب . ولقد امتاز منتج خطاب أعمدة الغبار بهذه الخاصية واستخدمها كنمط أسلوبي في عملية الإنتاج وصناعة الخطاب ؛ بل هي الشعرية من مميزاته . تشي بذلك نصوصه وخطاباته الأخرى .
إن الشواهد على الاستخدامات الجديدة للجملة في هذا الخطاب لا تحصى، وهي قادمة من مستجدات المواقف وارهاصات الشخوص ومعاناتهم او انفعالاتهم . فللرومانس المتواجد في الخطاب صيغه وشعريته الخاصة به . وللحزن المتوالي وهو يطوف ويسري ويتشعب في قلوب ومشاعر الشخصيات مسببات شعرية متوالدة . وللهم اليومي الناجم عن تواليات الفشل وضياع الآمال نمطه الشعري .
إذاً هي المواقف تفرض على تسلسلها المتوارث حضور الشعرية لتعمق الفحوى وتبوح بالصادق من الأحاسيس ؛ يضاف إلى ذلك حسن استخدام صانع الخطاب لهذه الشعرية وتوظيفها بحيث تبدو من جسد الخطاب وناقلة له من خانة التقليدية المألوفة المتداولة إلى خانة التميز والتمايز عن الخطابات الأخرى سيما التي تناولت مثل هكذا أحداث وهاتيك نتائج من عداد المآسى والفشل الحتيم .
لقد ترك صانع الخطاب عملاً روائياً أرخَّ لحقبة الثمانينات من القرن الماضي التي شهدت كارثة خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت وانتقال قادتها إلى تونس، وخيبة أمل الشرائح المثقفة وقوى التحرر التي راهنت على ورقة الكفاح المسلح كطريق وحيد لإعادة فلسطين والبدء الحقيقي بتغيير مسار التاريخ من الهيمنة الأمريكية والاستعمار الغربي إلى مسار مسك الشعوب بقراراتها وتوجهاتها ومصائرها مثلما أرخ لأحداث جسام لعل منها مقتل " بشير الجميل " وطعن الستراتيجية الأمريكية بمقتله بضربة خنجر في الشرق الأوسط لم تتوقعها، وانتصار إسرائيل بجولة حضور " شارون " إلى " بكفيا" قرية بشير الجميل، المصطلح الجغرافي للكرامة اللبنانية التي كانت تمثلها الجبهة اللبنانية المسيحية الانتماء .
إذاً هي رواية تأرخة زمن حققت من خلال هذه التأرخة خصوصية أن تكون مصدراً توصيفياً حمل بين طياته حشود المشاعر واحتدامات الصدور وعكست ما يعتمل في الأعماق إزاء ما يحدث فلم يكن كاتبها مؤرخاً بل محللاً وراصداً نفسياً واجتماعياً، مثلما هي رواية عرض أفكار قالت أن الساحة السياسية إبان حقبة الثمانينات من القرن الماضي هي ساحة وأد الأفكار وطمر منابت النور بمقابل انتصار القتلة وبقاء عروش المتخاذلين .
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2000 الجمعة 13 / 01 /