قضايا وآراء

فلسفة الهوية العراقية (2-3) / ميثم الجنابي

لاسيما وأنهما كلاهما يصبان في مصب واحد ألا وهو البرهنة على أن كل فعل بلا تاريخ، لا تاريخ له، أي فعل محكوم عليه بالعدم والاندثار. والاستبداد فعل بلا تاريخ لأنه يتعكز على كل ما هو مناف للعقل والضمير، وبالتالي فانه لا يؤدي إلا إلى خراب! وفي أفضل الأحوال فانه لا يصنع إلا صحراء قاحلة لا حياة فيها. وهو الدرس الأول الذي قدمه العراق لنفسه بعد أربعين عاما من الاستبداد الشامل. غير أن تحويل هذا الدرس إلى حكمة فعليه لها أسسها في ميادين الدولة والمجتمع تفترض إعادة تأسيس الهوية العراقية وجعلها "حقيقة الحقائق" بالنسبة للعراق ككل. بمعنى البرهنة على أن العراق هو أولا وقبل كل شيئ هوية ثقافية سياسية لها معناها الخاص ومذاقها المتميز في التاريخ والمعاصرة. وهي هوية غير معقولة ولا مقبولة خارج تراثها العراقي والعربي والإسلامي. فهي المكونات التي ينبغي على الدوام توليفها العقلاني والإنساني في سبيكة جديدة تتجاوز العهد الملكي والحكم الجمهوري والدكتاتورية الصدامية إلى آفاق تجعل من الانتماء لهذه الهوية والعمل من اجلها معيار الحق والحقيقة.

وليس المقصود بعبارة "حقيقة الحقائق" هنا سوى الحكمة المتراكمة من إدراك الدروس الكبرى للتاريخ العراقي القديم والمعاصر فيما يتعلق بصيرورته الثقافية والسياسية والقومية. فالكينونة العراقية هي تاريخه العريق، الذي صهرت الثقافة الإسلامية مكوناته المتنوعة في بوتقة الخلافة لتصنع منه كيانا متميزا لا تخطأ العين في رؤيته ولا السمع في الإنصات إليه ولا البصيرة في إدراك مقوماته ولا الحدس في التعبير عن أصالته.

وليس مصادفة أن تتوصل الثقافة الإسلامية في مختلف علومها وما تضمنته من تصورات وأحكام عن المهن والعلوم والأعلام والأديان والفلسفات والأمم والحضارات إلى أن تعتبر أهل العراق "أصحاب هوى" و"أهل لسان". فقد قال الشيخ الجنيد مرة في أحد أحواله الصوفية قائلا، بان "الفتوة في الشام واللسان في العراق والصدق في خراسان". واللسان هو العقل والمنطق والمواجهة وما قد يقابله من مضادات. وهو أمر طبيعي بالنسبة لعراق قد يكون اشتقاقه من العراقة. وسواء كان الاشتقاق ضرورة أو تأويلا مفتعلا، فإنهما يعبران عن حقيقة كون العراق هو مصدر اللسان التاريخي للحضارة الإنسانية وصاحب نزواتها الكبرى. وهي الميزة التي جعلت منه على امتداد القرون لغزا محيرا للعقول ومحببا للقلوب، لأنه كان يسعى دوما للجمع بين العقل والوجدان أو بين الماء والنار. وهي المعادلة الأكثر تعقيدا للحياة، مع أنها الصيغة المثلى للاعتدال. الأمر الذي جعل من الممكن "تعايش" الحسين والحجاج، وابن حنبل والحلاج بالطريقة التي لم تفتأ فيها بواعث الصراع والوحدة في البحث عن نموذج مقبول ومعقول يتسامى عن صراع القوى. وهي حالة نموذجية لكل ثقافة حرة وأصيلة. كما أنها القوة الخفية لوعي الذات العراقي المختبئة وراء تاريخه المتعرج بين الصعود والهبوط، التي جعلت منه في نفس الوقت إحدى القوى الفاعلة على امتداد التاريخ العالمي.

وفيما لو تجاوزنا الحيثيات الهائلة لهذه الظاهرة على امتداد القرون، فان المرحلة الحديثة من تاريخه، وبالأخص مرحلة الدكتاتورية الصدامية، هي الوحيدة التي أغلقت على هذا التاريخ وقواه المتصارعة والحية أبواب الرؤية الحرة والاختلاف المعقول، بحيث جعلت من وجوده لوحة قاتمة كثيرة الثقوب تنظر إليك من خلالها عيون الأمن والمراقبة والحذر والشك والريبة والظنون. اما رذيلة الدكتاتورية الصدامية بهذا الصدد، فانها تقوم في محاولاتها تغليف كل ما تقوم من رذيلة بغلاف الفضيلة. بعبارة أخرى أنها حاولت أن تعطي للتجزئة مظهر الوحدة، وللاستبداد مظهر الحرية، وللاستفراد بالثروة الوطنية مظهر الاشتراكية. وبلغت في استخفافها بالعقل والوجدان حدا جعل من الماضي والحاضر والمستقبل معاشرة بلا أنس، ولعبة بلا قواعد، وتاريخ بلا أحداث! وهي الحالة التي برهنت أحداث عام 2003 وسقوط الدكتاتورية المريع عن الحقيقة القائلة، بان رذيلة المغامرة تظهر لتغيب بينما الحكمة تظهر لتتكامل!

فقد حولت الصدامية المنطق إلى خرافة، وقلبت الموازين والمعايير رأسا على عقب، وبرهنت على أن الرذيلة لا حدود لها لأنها بلا أوزان ومعايير داخلية. بل وجعلت من "البعث" شعارا وأسلوبا لبعث الأموات! وهي العقوبة التاريخية للعراق على عدم تمثله الحقيقة القائلة، بان المعيار الأوحد في الوجود هو الحق. وان أي خروج عنه يؤدي بالضرورة إلى إحلال فكرة الموت وتحويل البديهة إلى مشكلة عصية على الفهم. لهذا السبب أصبح العراق الغني بأهله وهواءه ومائه وأرضه وما تحتها وبتاريخه وثقافته وتنوع طوائفه وأقوامه فقيرا بصدام!

إلا أن هذه الحالة العابرة لن تغير من حقيقة الحقائق القائمة في طبيعة وآفاق الهوية العراقية القائمة والذائبة في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية. فتاريخ العراق عريق شأنه في كل شيء! ففي جنوبه ظهرت سومر وفي وسطه بابل وفي شماله نينوى. وهي ثلاثية ارتكز عليها بناء وادي الرافدين. وقد كان شأنه بهذا الصدد شأن أماكن التاريخ الحضاري الكبرى، مرتعا للحياة والموت بمختلف أشكالهما. فقد أنهى الكسندر المقدوني  فتوحاته الكبرى في بابل والى الشمال قليلا منها ظهرت بغداد – دار السلام وحاضرة الدنيا لتعيد أمجاد تاريخ عريق. وإذا كان التكرار صفة للزمن، فان البدائل التاريخية تفترض البحث عن مشاريع واقعية وعقلانية وإنسانية تأخذ بقدر واحد الماضي والحاضر والمستقبل، الوطني والقومي العالمي. وفيما يخص إشكالية الهوية العراقية، فان ذلك يفترض إعادة تأسيسها من خلال الرجوع إلى النفس.

فالتاريخ لا يعرف قانونا صارما ولكنه قادر على البرهنة الدائمة على أن الخروج على الحكمة السياسية يؤدي بالضرورة إلى الجحيم. وليس هناك من جحيم بالمعنى التاريخي والسياسي والأخلاقي أقسى من جحيم الانحطاط والتفكك الوطني مع ما يترتب عليه من حتمية مختلف أشكال الصراع والحروب غير العقلانية. وهي نتيجة يؤدي إليها بالضرورة كل الأشكال والمستويات المتنوعة والمختلفة للبنية التقليدية مثل الطائفية السياسية والقومية العرقية والجهوية والفئوية وما شابه ذلك. وذلك لعجزهم الذاتي عن صنع الثبات والديمومة على أسس عقلانية عاملة بمعايير المستقبل. مما يجعل من هذه الأشكال بالضرورة قوة مغلقة ومنغلقة ومتعصبة وعدائية وقابلة للانحدار صوب التدمير الذاتي. وهي الرؤية التي تعطي لنا إمكانية التفاؤل العقلاني والواقعي، انطلاقا من إدراك خصوصية العراق وقابليته الذاتية، على هزيمة المشروع الطائفي والقومي العرقي. وهي الحالة التي يمكن رؤية معالمها الأولية في فشل المشروع الأمريكي في العراق. وهو فشل محكوم أولا وقبل كل شيء بالحقيقة القائلة، بان مشاريع البدائل الكبرى تفترض المعاناة الذاتية من اجلها. وأنها مشاريع وطنية أولا وقبل كل شيء من حيث القوى والرؤية والأساليب والإمكانيات والغاية.

ذلك يعني، أن فشل المشروع الأمريكي للديمقراطية ليس نتاجا لنية سيئة أو سوء فهم وتقدير أو عدم دراية وجهل وغيرها، بقدر ما انه الخاتمة الطبيعية لكل مشروع خارجي. إن حقيقة البدائل المستقبلية الكبرى ينبغي استمدادها من المستقبل. وهو أفق لا علاقة للقوى الأجنبية به إلا بالقدر الذي يستجيب لمصالحها الآنية والبعيدة المدى. بمعنى أن الحوافز الدفينة محكومة بتاريخ خاص. والمشروع الأمريكي محكوم بالتاريخ الأمريكي ومصالحه ومرجعياته. والشيء نفسه عن المشروع العراقي. وفشل المشروع الأمريكي في العراق هو النتاج الطبيعي لهذا الاختلاف والتباين. كما انه يبرهن على جملة حقائق كبرى، وهي:

1.   إن نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة

2.   إن نجاح أي مشروع كبير مرهون باستشراف المستقبل الذاتي للأمة

3.   إن نجاح أي مشروع يفترض المعاناة من اجله

4.   إن أجمل وأفضل المشاريع الأجنبية تبقى غريبة من حيث المقدمات والنتائج

5.   إن المشاريع الأجنبية لا يمكنها التوفيق بين رؤيتها الخاصة ورؤية الآخرين، وبالأخص في ظل اختلافات جوهرية في التاريخ الثقافي والسياسي والتطور العام.

6.   إن المشاريع الأجنبية هي إما أملاءات وهو الأتعس، وإما سياسة المصالح الضيقة وهي الأكثر تخريبا

7.   وأخيرا، إن المشاريع الأجنبية هي مؤشر على خراب ذاتي، ودليل على اختلال في توازن القوى. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها.

فقد كان صعود المشروع الأمريكي وهبوطه في العراق دليلا على صعود وسقوط التوتاليتارية والراديكالية، ومؤشرا على خلل القوى السياسية جميعا. وبالتالي، فإن إدراك هذه الحقائق الكبرى يفترض تحويلها إلى بديهيات سياسية عند القوى السياسية من اجل أن تتكامل فعليا بمعايير الرؤية الوطنية وتحقيق مصالحها من خلال مصالح العراق بوصفه صراعا من اجل المستقبل. وهو الأمر الذي يفترض المساهمة العقلانية والواقعية من اجل إفشال المشروع الأمريكي في العراق، بشرط أن يكون البديل ليس رجوعا إلى الوراء وليس ممالأة للقوى السلفية ولا انسياقا وراء مختلف أشكال التجزئة المتخلفة من طائفية وعرقية وجهوية، بل بديلا واقعيا وعقلانيا ومستقبليا. وذلك لان حقيقة المستقبل بالنسبة للعراق مقرونة بالإجماع المتنامي في كل مكونات ومنظومات وجوده على فكرة الاحتمال في البدائل، بمعنى الانهماك في التخطيط المتنوع والمختلف لهوية المستقبل. ويفترض هذا المشروع بدوره مهمة الاجتهاد والجهاد الدائم من اجل تحقيق إستراتيجية بناء الهوية العراقية، والدولة العراقية، والثقافة العراقية، والمجتمع العراقي. وهو مشروع لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. لاسيما وأنه ليس جزء من تصورات الأحزاب وإيديولوجياتها، بل هو المكون التاريخي لتطور المجتمع والبنية الاقتصادية ونظام الدولة السياسي والثقافة العامة والخاصة. وبالتالي، فهو المشروع الأكبر للعملية التاريخية المعقدة التي يتوقف مسارها وسرعتها على طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية وقواها المحركة والفاعلة.

إن مفارقة ومأساة الحياة السياسية الملازمة لمرحلة وحالة الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية في العراق تقوم في توسع وتعمق وترسخ ظاهرة الانتقال من الشكوك العقلانية بالبدائل واحتمالاتها إلى اليقين الطائفي عند اغلب الحركات والأحزاب السياسية. وهي ظاهرة مروعة بالمعنى السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي والوطني. كما أنها تعكس وتعبر عن حالة الانحطاط الشاملة التي يمر بها العراق حاليا. وهي حالة ليست معزولة عما يمكن دعوته بالانفجار الصريح والمخزي لذخائر التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في "مآثرها" الاجتماعية الخربة والاقتصادية المتخلفة والعلمية المعدومة والسياسية المشوهة. وهو تشوه أخذت ملامحه تتضح على خلفية البروز الناتئ لطبيعة المعارضة السياسية السابقة حالما "ارتقت" إلى سدة الحكم. وهو "ارتقاء" كان من ابرز ملامحه انتشار الفساد الوطني والسياسي والأخلاقي والإداري.

إننا نكتشف في هذه الظاهرة عن الحالة الطبيعية للفساد السريع المميز "للمعلبات". فالمعلبات تحتوي على حوافظ يمكنها البقاء لفترة معينة سالمة سليمة، ولكنها حالما تصبح جاهزة للاستعمال، أي بعد تعرضها للهواء، فإنها لا تحتمل البقاء طويلا محتفظة بصفاتها المعلبة. وهي ظاهرة ميزت طبيعة ومكونات المعارضة السياسية العراقية التي اجبرها النظام الدكتاتوري، كما اجبر المجتمع عموما، على البقاء في حافظات متنوعة المظاهر والأشكال، ولكنها تشترك في الابتعاد عن الهواء الطلق للحرية والنشاط السياسي الحر والديمقراطي. وهو ثمن لابد للعراق وقواه السياسية من تقديمه لكي تتم عملية الانتقال الواقعي والطبيعي والفعلي من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. من هنا الفساد السريع لأغلب القوى السياسية العراقية المعارضة للسلطة الصدامية حالما خرجت إلى نار العراق من نور المنافي، والى هواءه الساخن من برودة أوربا وأمريكا الحافظة.

غير أن هذا التأويل الموضوعي والمنطقي لا يبرر بأي شكل أو قدر لا منطقية الحركات والأحزاب السياسية ونزوعها الضيق في عراق ما بعد الصدامية بصدد الموقف من القضايا الجوهرية الكبرى للعراق ومصالحه الوطنية والقومية الأساسية. فلكل مرحلة قواها وقيودها وقيمها ومسئوليتها. وذلك لان وعي وإدراك المقدمات التاريخية للفساد القائم في العراق الحالي لا ينفي مسئولية الأحزاب السياسية المعاصرة عنه. على العكس انه يضعها أمام مسئولية اكبر مما مضى. وذلك لان مهمة المعارضة تقوم في تقديم البدائل الأكثر واقعية وعقلانية وإنسانية. بينما يكشف زمن ما بعد سقوط الدكتاتورية عن واقع مرير ومخزي في الوقت نفسه بهذا الصدد. بمعنى إننا نقف أمام انحطاط مادي ومعنوي هائل سواء بمعايير الرؤية النقدية للماضي أو بمعايير الرؤية المستقبلية، أي البدائل. إذ لا شيء يرغم المرء على السقوط إلى الحضيض غير ما فيه، بمعنى استعداده على المضي قدما في دهاليز الرذيلة. والشيء نفسه يمكن قوله عن الحركات والأحزاب السياسية. فالفساد الوطني والسياسي والأخلاقي والإداري الذي يميز اغلب القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في "القرار السياسي" هو نتاج "إرادتها"، أي نتاج ما تريده لا ما ترغم عليه. وإلا لافترض ذلك غياب أو اضمحلال أو تلاشي كل إرادة فيها. وهي صفة الأموات! لكننا نقف أمام قوى "حية" أو تدعي الحياة والحيوية بينما لا تشكل أفعالها بالمعنى الوطني والسياسي والأخلاقي والإداري سوى التجسيد الأكثر فضاضة للفساد والانحطاط. فإرادتها الإدارية لا تتعدى الوصولية الفجة والتخلف وفقدان الاحتراف والنزاهة. وهي صفات لا يمكنها أن تصنع أخلاقا سياسية سليمة، بمعنى أخلاقا قادرة على بناء مجتمع حر وديمقراطي ومتمسك بمفهوم الشرعية وحكم القانون. أما النتيجة المعنوية لذلك فهي اضمحلال أخلاق الدولة مع ما يترتب عليه من فساد في الفكرة الوطنية، أو الشعور الوطني، كما نراه بصورة جلية في استفحال الطائفية بمختلف مظاهرها والسياسية منها بالأخص.

فالطائفية السياسية هي النتيجة "المنطقية" للفساد الإداري والأخلاقي والسياسي والوطني. كما انه الاستمرار الطبيعي لنفي فكرة الاحتمال العقلانية والاستخفاف الشامل بها، أي النفي الشامل لفكرة الدولة الشرعية والتعددية الاجتماعية والسياسية الفعلية التي تستمد مقوماتها وفاعليتها من إدراك قيمة البدائل المتنوعة واحتمالاتها غير المتناهية في الإبداع الإنساني. بينما تحصر الطائفية مضمون الإرادة البشرية وأفعالها بغريزة الاستعادة الفجة لقيم وقواعد الانغلاق المتجدد!

فمن الناحية التاريخية لم يجرب العراق مشروعا ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد عانى من اجله طويلا، وتحول من حيث كونه قيمة وغاية إلى جزء جوهري في وعيه السياسي، لكنه لم يتغلغل في وعي الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية إلى ما يمكنه أن يكون مرجعية فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية.

بعبارة أخرى، إن الديمقراطية من حيث كونها مبدأ وقاعدة وفكرة لم تتحول إلى جزء من تاريخ الدولة. على العكس لقد كانت الدولة في صراع عنيف مع الفكرة الديمقراطية. الأمر الذي جعل منها محل تخوين وتجريم افقدها القدرة على النمو الطبيعي في العراق كما افقد القوى السياسية قدرة استيعاب مضمون الفكرة الديمقراطية بالشكل الذي يجعلها معقولة ومقبولة بالنسبة لمعاصرة المستقبل فيه. وفي هذا يكمن احد الأسباب التاريخية والسياسية والأيديولوجية الكبرى لهزيمة المشروع الديمقراطي في العراق، كما تكمن فيه أيضا مقدمات المعاناة والتعقيد الهائل للانتقال إليها من ضغط الإرث الهائل لتقاليد الخروج على الدولة الشرعية والحق. وليس مصادفة أن تكون قوة التحول من التوتاليتارية إلى الديمقراطية في العراق هي قوة الاحتلال والتدخل الخارجي. فهو المؤشر الدقيق على انحسار القوى الديمقراطية في العراق، وعلى شراسة التخلف الاجتماعي والسياسي والحقوقي الذي لف زمن العراق بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 واستكماله المتكرر في الانقلابات العسكرية وتتويجها بالتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.

إننا نعثر في ارتباط التحول من التوتاليتارية والدكتاتورية إلى الديمقراطية بقوى خارجية على حالة معبرة بصورة نموذجية عن مهزلة التاريخ العراقي المعاصر ومأساته في الوقت نفسه. إنها مأساة الدولة والمجتمع والأحزاب السياسية والنخب والفكر والتفكير. فهي مأساة للمجتمع من حيث تجريده من كل معنى لوجوده بوصفه اجتماعا بشريا، ومن ثم اغترابه عن ذاته بوصفه مصدرا شرعيا للسلطة. وفي هذا تكمن حلقة المأساة المكملة في الدولة، التي لم تعد أكثر من أداة للقمع السافر والابتزاز غير المتناهي ضد ابسط مقومات الوجود الاجتماعي للبشر. مع ما ترتب على ذلك من انحسار للحياة السياسية والحزبية بحيث جعل من الاثنين مجرد دمى بيد القدر والمكر والخبث والغريزة. من هنا تخريب الدور الروحي والمعنوي للنخب الفكرية في توجيه الدولة والمجتمع والأحزاب، مع ما ترتب عليه من انحسار لحقيقة الفكر والتفكير. بحيث تحولت أجهزة القمع المتلفعة باسم الدولة، والمجتمع المجرد من كل تحصين حقوقي، والقوى السياسية المتهرئة بحزبيتها الضيقة، إلى كتلة متراصة في مواقفها الصلبة من حرية الإبداع المطلقة. أما النتيجة فهي شموخ متعجرف للرذيلة الأخلاقية والمكر السياسي والعقائدية الفجة، أي لكل ما يواجه حقيقة الفكرة الديمقراطية من حيث كونها نظاما شاملا للدولة والمجتمع والثقافة. وفي هذا تكمن مأساة العراق المعاصرة ومهزلة صعود القوى السياسية التي لا نشم من زفيرها غير رائحة الطائفية العفنة.

وفيما لو وضعنا هذه الصيغة الأدبية بمعايير الرؤية السياسية الواقعية، فإنها تعني أولا وقبل كل شيء، أن العراق وقواه السياسية يعانيان فيما يتعلق بالمشروع الوطني من حالة انحطاط شامل. وهو انحطاط مرتبط أساسا بسيطرة الراديكالية السياسية والحزبية وتقاليدها المتخلفة على العمل الاجتماعي وفكرة الدولة والنظام السياسي. وفي هذا يكمن سر هزيمة المشروع الوطني واستحالة تحقيقه في ظل سيادة القوى السياسية الحالية. فهي قوى لا تشكل الديمقراطية بالنسبة لها أكثر من لفظة قابلة للتأويل المتحزب والانصياع إلى نزوات وعقائد تتعارض من حيث الجوهر مع حقيقة الديمقراطية.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2001 السبت 14 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم