قضايا وآراء

فلسفة الهوية العراقية (3-3) / ميثم الجنابي

من هنا لم يكن المشروع العملي "لديمقراطية" المحاصصة السياسية سوى الوجه المحسن للطائفية السياسية. وهو مشروع لا يعمل من حيث مقدماته ووسائله وغاياته إلا على إفشال المشروع الوطني الجديد في العراق وتأسيس التاريخ الفعلي للدولة الشرعية.

وضمن هذا السياق لا تفعل هذه القوى إلا على إفشال المشروع الوطني العراقي. بمعنى إنها تسير ضمن نفس المسار العام للخروج على حقيقة الهوية الوطنية العراقية. أما النتيجة فهي مجرد تأجيل المشروع الوطني لا إلغائه، وذلك بسبب طبيعة التحول التاريخي الهائل الذي جرى في العراق على مستوى الدولة والسياسة والفكر والروح.

وليس المقصود بتأجيله هنا سوى تعرجه في مسارات البحث عن مخرج أكثر واقعية وعقلانية تكفل تخفيف كمية ونوعية الدماء المهدورة وحجم التضحيات والمآسي التي قدمها العراقيون على مدار نصف قرن من سيطرة مختلف أشكال الهمجيات. ومن ثم لا يعني تداخل المثلثات الهمجية السنية والشيعية والكردية وغيرها في ظروف العراق الحالية سوى الذروة التي بلغها الانحطاط من اجل اندثارها الحتمي. فهي مثلثات لا تفعل في الواقع إلا على "تراكم" التخلف وتفعيله بالشكل الذي يجعل زوالها أمرا ضروريا، كما فعلت الصدامية التي عملت في كل زمنها المرير على صنع تاريخ الوعي الدفين القائل بضرورة زوالها واندثارها التام بوصفها رذيلة مطلقة.

من هنا أهمية وقيمة المشروع الحقيقي البديل في العراق، أي المشروع المبني على أسس الرؤية الوطنية العراقية والشرعية والدنيوية (العلمانية) والواقعية العقلانية. وهو أمر يفترض بلورة أسس التقاليد السياسية القادرة على تذليل مختلف أصناف الطائفية السياسية من سنية وشيعية وقومية ضيقة وعرقية وشيوعية مزيفة (شيوعية الأقليات القومية والدينية). وهو بديل ممكن على أسس الفلسفة الثقافية للهوية الوطنية العراقية.

فالتجربة التاريخية للعراق تبرهن على أن التفريط بحقيقة الهوية الوطنية، كما تجسد بصورة نموذجية في العقود الأربعة الأخيرة للقرن العشرين، هو تفريط بكافة الحقوق، بما فيها حق الحياة. الأمر الذي يجعل من صياغة رؤية واقعية وعقلانية عن وحدة وتجانس القومي والوطني فيه إحدى المهمات الأساسية من اجل تكامل الجميع في بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهو الثالوث القادر على احتواء صراع الجميع واختلافهم، والإبقاء قي نفس الوقت على تراكم الثروات المادية والروحية للمجتمع والدولة. كما انه ضمانة إعادة اللحمة الاجتماعية والوطنية عبر تذليل مختلف أصناف البنية التقليدية، التي لا تحمي في نهاية المطاف أيا كان. وذلك لان البنية التقليدية مهما كان شكلها ومضمونها، لا تعمل في نهاية المطاف إلا على تعميق الهوة الفعلية في الفرد والجماعة والمجتمع والثقافة والدولة، أي في كل مكونات الروح والجسد الفردي والاجتماعي لمكونات العراق الحالية. كما أنها حالة تتعارض من حيث الجوهر مع حقيقة العراق المتراكمة تاريخيا، باعتباره كينونة ثقافية سياسية.

فمن بديهيات الفكر الفلسفي العقلاني القول، بان لكل ظاهرة حدودها الخاصة بها! وهي حقيقة أقرب إلى البديهة، لكن تعقيدها الأكبر يقوم في كيفية ومستوى إدراكها الفعلي. فالعاقل يمكنه أن يدرك قيم الخير والجمال، أما تحقيقها وتجسيدها العملي فهو أمر أشد تعقيدا. وهي معضلة وقف ويقف أمامها العقل النظري والعملي، ليس فقط باعتبارها إحدى إشكالاته الفعلية الكبرى، بل ولكونها المحك الذي تقاس به حقيقة النوايا والأفعال والنتائج.

وإذا كان الفكر النظري القديم، قد حاول حل هذه الإشكالية من خلال استعمال مختلف الوسائل بما في ذلك الأخلاقية والدينية، فإن التجربة التاريخية تبرهن على أن الأسلوب الأمثل لحلها يقوم في وضعها ضمن معايير الرؤية العقلانية المحتكمة إلى القانون والمرهونة بفعله. وهو وضع يتحدد مضمونه وفاعليته وقيمته أيضا بمستوى التطور الاجتماعي والسياسي للأمم وقواها الاجتماعية والسياسية. مما يفترض بدوره تربية الرؤية العقلانية بالشكل الذي يحرر الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية من مخاطر الوقوع في تجاهل مضمون الفكرة الفلسفية القائلة، بان لكل ظاهرة حدودها الخاصة، وبالتالي، فإن تجاوز هذه الحدود يؤدي إلى خرابها. وهي فكرة سبق وان بلورتها الثقافة الإسلامية بعبارة "كل ما تجاوز حده انقلب إلى ضده". وهي حقيقة ثابتة وشاملة. وحتى حالما أجاب أحد الحكماء عندما سألوه مرة عن "حد الغباء"، قائلا "انك سألتني عما لا حد له"، فانه كان يدرك أيضا، بان "اللامحدود في الغباء" هو مضمون التجاوز فيه. أما في ميدان العمل، فانه يؤدي دون شك إلى الخراب والهاوية. ولعل تجربة الاستبداد الشامل في العراق وغبائه غير المحدود في تجاوز الحدود جميعا، أدى إلى انهياره السريع والمخجل!

وهو انهيار فتح الأبواب على مصراعيها أمام الاحتمالات المتنوعة والإمكانيات الهائلة بالنسبة لشروط التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. كما أنها إمكانيات واحتمالات وثيقة الارتباط في الظرف الراهن بإقرار الحد الأدنى الضروري والعام من الوحدة الوطنية. دون أن ينفي ذلك إمكانية الاختلاف السياسي حول آفاق وسبل التطور المقبلة للدولة والمجتمع والثقافة.

فقد وضع الانقلاب التاريخي الكبير الذي رافق زوال الدكتاتورية الصدامية مهمة تحديد ماهية الهوية الوطنية العراقية، باعتبارها إحدى أهم القضايا الفكرية والسياسية بالنسبة لبناء الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي وثقافتها اللاحقة. كما أنها إحدى أهم قضايا الفلسفة السياسية بالنسبة لمستقبل العراق واتجاه تطوره اللاحق. إذ تتوقف عليها أيضا مواد الدستور، ومنها يمكن توقع المسار اللاحق لبنية الدولة ومؤسساتها، وعليها يمكن وضع مبادئ التربية والتعليم. باختصار أنها تمس جميع المكونات الأساسية لبنية الدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة. وهو أمر طبيعي، وذلك لان "الهوية" هي "الأنا". ومعرفة النفس هي مقدمة المعرفة الحقيقية والفعل بموجبها. وليس مصادفة أن تتوصل الفلسفة منذ زمن سحيق إلى فكرة "اعرف نفسك"! وهي حقيقة كبرى كشفت عنها أحداث العراق الأخيرة عندما "انهارت" قواه بين ليلة وضحاها! وهو أمر يشير ببساطة إلى واقع افتقاد العراق إلى ذاته الأصلية أو هويته الخاصة، بسبب الانتهاك السافر لمكوناتها من جانب التوتاليتارية والدكتاتورية.

وليس المقصود بالذات الأصلية والهوية الخاصة كيانا مستقلا قائما بذاته، بقدر ما هي الكينونة المتراكمة تلقائيا من مجرى معاناة الأمم حل إشكاليات وجودها الطبيعي (الاجتماعي والسياسي والاقتصادي) والماوراطبيعي (الروحي). وبالتالي، ليست الذات الأصلية والهوية الذاتية سوى التاريخ المتجسد في صيغ معقولة وعملية لوعي الذات التاريخي والثقافي للأمم في الدولة والثقافة. وهي صيغ وثيقة الارتباط بكيفية تجسيد المكونات الجوهرية لوعي الذات التاريخي عند الأقوام والأمم. وليس مصادفة أن تسعى الأنظمة التوتاليتارية والدكتاتورية على الدوام إلى عزل الأمة عن تاريخها عبر صنع "تاريخ مقدس" للاستبداد والإرهاب، هو تاريخ مزيف بحد ذاته سرعان ما يتهدم ويندثر مع أول خرق لجدران سجونها ومعتقلاتها. وسبب ذلك يقوم في أن إبعاد الأقوام والأمم عن تاريخهم الذاتي هو الأسلوب "الثقافي" الوحيد لإعطاء السلطة "شرعية" استحكامها على الماضي والحاضر ومصادرة المستقبل. غير أن التجارب التاريخية في كل مكان تبرهن على أن هذه السياسة هي مجرد أفعال بلا مستقبل، ومصيرها المحتوم هو الزوال والاندثار بصورة مخجلة وفاضحة.

يفترض الاستنتاج المذكور أعلاه مهمة تدقيقه الملموس فيما يتعلق بفكرة الهوية العراقية، بوصفها الموضوع الجوهري لفلسفة المجتمع العراقي، إلى جانب فلسفة الاعتدال العقلاني وفلسفة المرجعية الثقافية، اللتين يتوقف عليهن آفاق ومسار التطور اللاحق للدولة والمجتمع والثقافة. ولعل الصيغة المعقولة والواقعية بالنسبة للعراق في الظرف الراهن تقوم في تأسيس رؤية بديلة يمكن أن نطلق عليها اسم "حكمة الاستعراق" . والمقصود بها الفلسفة التي تستمد مقوماتها من التاريخ الذاتي للأقوام والأمم العراقية، من خلال جعل العراقية أسلوبا للارتقاء من مختلف الأشكال والصيغ التقليدية (العرقية والطائفية وأمثالها) إلى مصاف العراقية. من هنا، فإن مضمون أو حقيقة "حكمة الاستعراق" هو أسلوب تمثل الحكمة النظرية والعملية المتعلقة بإعادة بناء الدولة والمجتمع والثقافة استنادا إلى رؤية فلسفية متكاملة تأخذ بصورة منظومة مكونات العراق التاريخية والثقافية والقومية. بمعنى ضرورة التوليف العقلاني والإنساني لهذه المكونات في سبيكة جديدة ترتقي في الوعي النظري والعملي للحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية إلى مصاف "حقيقة الحقائق". بمعنى ارتقاءها إلى مصاف المنظومة العلمية والعملية للمجتمع وحركاته السياسية. ومن ثم تحولها إلى مرجعية متسامية في الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي للفرد والجماعة والدولة. وذلك لما في هذا التحول الضروري من قيمة علمية وعملية بالنسبة لتأسيس دينامكية التطور الاجتماعي بمعايير الرؤية الواقعية والإصلاح العقلاني الدائم الذي يقطع دابر الراديكالية بمختلف أشكالها وصيغها، والاهم من كل ذلك هو قطعها الطريق أمام إمكانية انتقال الأطراف إلى المركز، وصعود الهامشية إلى هرم السلطة، واستحواذ الأقلية على مقاليد الأمور.

فقد كانت وما تزال اغلب المشاكل والعقد المتوترة في العراق نتاجا لانتقال الأطراف إلى المركز واستحواذ الأقلية على مقاليد الأمور وصعود الهامشية إلى هرم السلطة، مما أدى إلى تجزئة الكينونة الاجتماعية والسياسية والروحية للهوية العراقية. ومن ثم تخريب الشخصية العراقية. الأمر الذي يجعل من مهمة إعادة بناء الشخصية العراقية وهويتها الوطنية القضية الأكثر تعقيدا. كما أنها المهمة الإستراتيجية الكبرى في البناء الديمقراطي للمجتمع والدولة والثقافة.

وبما انه يستحيل تحقيق هذه المهمة دون ثلاثية الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية البديلة، من هنا فان المضمون السياسي المباشر لفكرة الاستعراق يقوم في تأسيس هذه الوحدة في ظروف العراق الخاصة بوصفها منظومة وجوده الموحد. وهي منظومة لا ترمي إلى تصنيع عقيدة أو أيديولوجية صارمة، بقدر ما تسعى إلى تأسيس المبادئ العامة للرؤية الثقافية للفكرة الوطنية بشكل عام والعراقية بشكل خاص. واهم المبادئ المكونة لفكرة الاستعراق هي:

1.   العراق ليس تجمع أعراق،

2.   العراق هوية ثقافية سياسية،

3.   العراق غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافدينية العربية الإسلامية،

4.   العربية – الإسلامية هي جوهر ثقافي،

5.   الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية هي الاستعراق،

6.   الاستعراق هو الحد الأقصى للقومية في العراق،

7.   الاستعراق هو البيت الذي تتعايش فيه جميع القوميات في العراق بصورة متساوية ومنسجمة،

8.   الاستعراق هو ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية الذاتية له،

9.   الخروج على الاستعراق هو رجوع إلى العرقية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية،

10. الخروج على الاستعراق هو خروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، ومن ثم فهو خروج على القانون أيضا.

وهي مبادئ مهمتها تأسيس الوحدة النموذجية أو الوحدة المفترضة بوصفها وحدة المرجعية المتسامية. ومن ثم لا إلزام فيها لغير قدرتها على توحيد الهموم الوطنية بمعايير الرؤية الثقافية، بوصفه الأسلوب الضروري والأمثل لتذليل الرؤية التقليدية أو الحزبية الضيقة. وذلك لان من الصعب في ظروف العراق الحالية توقع "اشتراك" و"تطابق" الرؤية السياسية والحزبية بصدد أية قضية بما في ذلك تجاه الفكرة الوطنية، مع أنها الحاضنة الكبرى والضرورية للتوافق والاختلاف أيضا. بمعنى أنها الإطار الضروري للصراع الديناميكي، ولكن فقط في الحالة التي تتحول إلى ما أسميته بحقيقة الحقائق في الوعي السياسي، أي فقط عندما تصبح مرجعية متسامية في الوعي الاجتماعي العام. بعبارة أخرى، إن الاختلاف الممكن والمحتمل والضروري بين القوى السياسية والاجتماعية حول مضمون الهوية العراقية ينبغي أن يجري ضمن إطار الاستعراق بوصفه الحد الأقصى للرؤية الوطنية والقومية والدينية والدنيوية والاجتماعية والطبقية.

وليس المقصود بان العراق ليس تجمع أعراق، نفي التمايز العرقي والقومي فيه، بقدر ما يعني الإشارة إلى خصوصية تكون الأقوام والأمم فيه. فالعراق هو موطن التاريخ المدني العريق، وصاحب التراث الحضاري الهائل. ومن ثم فهو قادر على صهر مختلف الأقوام في بوتقة كينونته الثقافية. فقد استطاع أن يبدع في مجرى بناء مدنياته المتنوعة وحضاراته العديدة مرجعيات متسامية كانت تعيد إنتاج نفسها مع كل انعطاف كبير في حياته. وهي ظاهرة لها جذورها الأولية في ما يمكن دعوته بالأبعاد الثقافية للقومية في العراق. وهو مبدأ يمتلك في ظروف العراق الحالية قيمة وجودية وروحية وسياسية بسبب طبيعة الخراب الذي تعرضت له الهوية الوطنية العراقية في مجرى النص الثاني من القرن العشرين. الأمر الذي يجعل من الضروري تحويل الوحدة الثقافية لتاريخ العراق الذاتي إلى مرجعية سياسية لجميع أقوامه. لاسيما وأنها وحدة لها مقوماتها في نفس الهوية العراقية، بوصفها هوية ثقافية سياسية.

أما مضمون الهوية الثقافية للعراق، فإنه تراكم تاريخي من حضارات سومرية وبابلية وآشورية وعربية، إضافة إلى مكونات جزئية عديدة شارك فيها مختلف الأقوام والشعوب قديما ومعاصرة من عبرانيين وإيرانيين وتركمان وأكراد، وكذلك مساهمات تنوعت من حيث مداها ونوعيتها من جانب أقوام وأمم وثقافات اضمحلت مكوناتها المباشرة كما هو الحال بالنسبة للحيثيين والإغريق والتتر المغول والأتراك العثمانيين وكثير غيرهم. كل ذلك يشير إلى تنوع وتداخل مختلف المكونات في نسيج وعيه الذاتي. مما أدى إلى أن تتبلور في مزاجه الاجتماعي وعقائده الكبرى نظرة ثقافية إلى جميع مكوناته، باعتبارها أجزاء منه، وفي نفس الوقت لكل منها قيمته التاريخية والوجدانية.

إلا أن الحلقة الرابطة لسلسلة تصيره التاريخي بوصفه كينونة ثقافية هي الحلقة العربية الإسلامية. وهي حلقة استطاعت أن تتمثل تقاليد العراق القديمة عن أولوية وجوهرية المكون الثقافي على المكونات الأخرى أيا كان نوعها. وهو مضمون المبدأ المشار إليه أعلاه من انه من غير المعقول ومن غير المقبول إدراك ماهيته وحقيقته خارج أو بدون وحدة مكوناته الرافدينية العربية الإسلامية. فهي هو وهو هي! وذلك لأنها المكونات التي صنعت خصوصية العراق الجوهرية، بحيث جعلت من العربية الإسلامية جوهرا ثقافيا. ونعثر على أثر هذا الجوهر في كل مكونات الدولة والمجتمع والثقافة.

إذ لم يكن تعاقب الأمم على الخلافة وتمثيلها السياسي فعلا قوميا أو عرقيا بحتا، بل تركيبة متتالية لإنتاج وتوسيع المدى الثقافي للعربية الإسلامية. مما طبع بدوره حقائق العراق الجوهرية، بحيث جعلت منه كيانا واحدا لا يمكن عزل مكوناته المتنوعة. وهو واقع يفرض على الفكر السياسي العراقي المعاصر تمثل هذه الحقيقة من خلال تحقيق المبدأ القائل بان الهوية الثقافية المفترضة للعراق هي الاستعراق. بمعنى الانطلاق من ضرورة تمثل الهوية الثقافية للعراق. وهي هوية ليست عرقية أو قومية ضيقة، بل ثقافية من حيث مرجعياتها وغاياتها، تراكمت تاريخيا وتكاملت ثقافيا من مكونات عدة يصعب حصرها، إلا أنها تصب في الإطار العام ضمن ما ادعوه بالمكونات الرافدينية العربية الإسلامية. وهي هوية تحتوي بهذا المعنى على مختلف المكونات الحضارية والثقافية للأقوام والأعراق المنتشرة في تاريخه، كما أنها كينونة واحدة غير مجزئة من حيث محتواها.

من هنا أهمية الاستعراق بالنسبة لتأسيس الهوية، بمعنى مهمة استعادة المضمون الحقيقي والفعلي للهوية العراقية. وهي مهمة افتراضية لأنها بديلة، كما أنها واقعية لأنها ذات مقدمات ونماذج مثلى في التاريخ العراقي نفسه. وينبع الطابع الافتراضي لتأسيس الهوية الوطنية الجديدة من كونها مهمة ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وقومية لها أثرها المهم والخطير بالنسبة لمعاصرة المستقبل فيه. وهو السبب الذي يجعل منها إحدى الفرضيات الكبرى التي تطالب الجميع بالعمل من اجل إثباتها. بمعنى أن الفرضية فيها تقترب من معنى الفريضة. ومن ثم فإن تحقيقها العملي هي المهمة الكبرى لجميع القوى السياسية والاجتماعية من اجل إثبات هويتها الوطنية. الأمر الذي يحدد أيضا قدرتها على تقديم البدائل، بمعنى قدرتها على تجاوز وتذليل التجزئة بمختلف مستوياتها. وفي هذا تكمن واقعيتها، بمعنى إمكانيتها الفعلية. ويفترض تحقيق مهمة إثبات الهوية الوطنية للقوى الاجتماعية والسياسية أولا وقبل كل شيء، الاتفاق على عقد اجتماعي جديد يتجاوز ويذلل ذهنية التجزئة ونفسية الغنيمة السائدة عند اغلبها.

لاسيما وأن التجربة العراقية في كل مجرى النصف الثاني للقرن العشرين تبرهن بشكل قاطع على أن الخروج عن هذه المرجعية التاريخية الثقافية يؤدي بالضرورة إلى الخراب والموت الفاضح. وفي هذا تكمن حقيقة وقيمة المرجعية الثقافية المشار إليها أعلاه. وفيها أيضا تكمن مقدمة ما ادعوه بضرورة أن يكون الاستعراق الحد الأقصى للقومية. وليس المقصود بالحد الأقصى هنا سوى حد التلقائية الضرورية للتطور الاجتماعي في الرؤية القومية للقوى الاجتماعية والحركات الفكرية والأحزاب السياسية، وليس حصرها في إطار عرقي أو قومي ضيق أو طائفي. وذلك لان تلقائية التطور الفعلي للمجتمع المدني وتقاليد الشرعية والديمقراطية السياسية سوف تؤدي بالضرورة إلى إعلاء مرجعية الرؤية الثقافية. وهي الحصيلة التي تتمثلها فلسفة الاستعراق بمعناها الوطني والقومي والديني والاجتماعي. بمعنى تأسيس الأبعاد الثقافية للاستعراق في مجال الوطنية والقومية والدين والاجتماع. وذلك لان لكل من هذه المجالات بعدا ثقافيا يمكن تحقيقه من خلال غرس الفكرة القائلة، بان القومية والعرق هما عوارض جزئية ومكونات نسبية في العراق. غير أن ذلك لا يعني الدعوة لتعارض مفتعل مع الامتداد القومي لمن يعيش فيه، العرب للعروبة والكلداآشوريون للسريانية، والأكراد للكردية، والتركمان للتركية وما شابه ذلك. وهي فكرة ينبغي أن تنبع من إدراك ثقافي لا من منطلق السياسة العابرة ومصالح الاحتراب فيها. وضمن هذا السياق ينبغي فهم مضمون المبدأ القائل، بان الاستعراق هو فلسفة الحد الأدنى الضروري والعام للوحدة الوطنية. والمقصود بذلك الفكرة القادرة على توفير الشروط الضرورية لوحدة الدولة والمجتمع. مما يعطي لها على الدوام أهمية وفاعلية سياسية آنية ومستقبلية أيضا. انطلاقا من أن كل شيء وفعل فيه ينبغي أن يخدم ديناميكية تكامله الداخلي من اجل تجاوز الخلل البنيوي القائم في تاريخ وآلية الدولة العراقية الحديثة. وبالتالي فإن أي نشاط يتعارض مع مضمون واتجاه الاستعراق سوف يؤدي بالضرورة إلى الاندثار الفعلي من واقع العراق وتاريخه.

إن إدراك هذه الحقيقة يؤدي إلى الانفتاح على النفس، ومن خلالها على الآخرين. وهو الأسلوب الوحيد القادر على بناء مؤسسات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. كما انه أسلوب تحرير النفس من أسر العرقية والطائفية عبر الانتقال بهما إلى مصاف الرؤية الثقافية للنفس والآخرين. الأمر الذي يشير إلى أهمية إدراك الأبعاد العملية للاستعراق، أي النظر إليه، باعتباره فكرة الوحدة الوطنية العامة التي تؤسس للبيت العراقي وتعايش جميع مكوناته بصورة متساوية ومنسجمة. بمعنى الوطنية التي تذلل الأبعاد العرقية والقومية الضيقة والطائفية عند الجميع دون إلغاء المقومات الخاصة بوصفها مكونات مهمة للثراء الثقافي العام.

وهي فكرة ينبغي إعادة تفعيلها ضمن ما أسميته بالمرجعية الثقافية للوطنية الكبرى في العراق أو الاستعراق. وذلك من خلال التأسيس للفكرة القائلة، بان حقائق "الأرض" هي حقائق الثقافة فقط وليس وقائع الانتشار السكاني. أي أن "الحفريات" الوحيدة الممكنة هنا هي حفريات الذاكرة التاريخية المدونة في العمارة والفن والمدن والأنهار والسدود والمزارع والكتابة والفن والنقوش، وليس بقايا العظام والجماجم ومدى انتشارها. فهي الرؤية التي تحرر الجميع من حق الملكية القومية والعرقية للأرض في العراق وتنفي إمكانية ظهور مشكلة "الأرض المتنازع عليها" أو "تدويلها" وما شابه ذلك من نماذج الانتهاك الفض للقانون والحقائق التاريخية والثقافية والوطنية. كما أنها الفكرة التي يمكنها إرساء أسس الرؤية العقلانية والأخلاقية، وبالتالي إدراك قيمة الحق والحقوق في نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والقومية. حينذاك يصبح الاستعراق نمطا عاما للحياة وضمانة للبقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق مع الاحتفاظ الجميل بالأصول القومية الذاتية له. أما الخروج عليه من حيث كونه فلسفة وفكرة ونمط حياة فهو رجوع إلى مختلف نماذج وأشكال البنية التقليدية والبدائية من عرقية وطائفية وجهوية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق وعلى مكونات وجوده الجوهرية. مما يؤدي بالضرورة إلى السقوط في مستنقع التعصب القومي والانغلاق العرقي والتخندق الطائفي والعصبية التقليدية والجهوية، مع ما يترتب عليه من رذائل عديدة.

كل ذلك يجعل من الضروري النظر إلى التاريخ العراقي العام والحديث بشكل خاص على انه ليس مجرد فكرة وعبرة، بل وشرط معاصرة المستقبل أيضا، بفعل المأساة الشاملة التي لحقت به جراء الخروج على مضمون الحكمة التاريخية السياسية المتراكمة فيه. الأمر الذي فسح المجال أمام صعود الهامشية الاجتماعية والراديكالية السياسية والأقلية الطائفية إلى السلطة والعمل بمقاييسها الضيقة. أما النتيجة الجلية لذلك فهو خروج تام على القانون. وهي نتيجة لم تتصف بها التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية فقط، بل ومرشح لها كل من يتجاهل أو يجهل نتائجها في حال الخروج عما أسميته بالحكمة الثقافية السياسية في العراق. وبالتالي، فان التحصن الفكري والسياسي منها يفترض تأسيس ما ادعوه بمرجعية الإصلاح الثقافي بوصفها المكون الباطني لفلسفة الهوية العراقية البديلة.

***

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2003 الأثنين 16 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم