قضايا وآراء

قصص نسوية أفريقية: الأدب الأفريقي ما زال يبحث عن هوية / زيد الحلي

وحال آخر هو هدية الزميلة القديمة، الجديدة مها محمد حسن عبر ترجمتها لقصص نسوية افريقية حيث كانت هذه الهدية خير دواء لداء الأنفلونزا، فاستطاعت تلك القصص بأجوائها الرائعة ان تلوي ذراع المرض وتجعلني أعيش أجواء حالمة مع تسع  قصص من ترجمتها البديعة التي جمعت حلاوة اللغة وسبك المعنى ممزوجة بأسلوبية صحفية جميلة ..

ومعرفتي بالزميلة المها تمتد لعقود من الزمن، لكننا افترقنا، غير إن  أنفاسها ظلت  تطوف عليّ بين فترة وأخرها، حتى جمعتنا  العزيزة جريدة الزمان سوية على صفحاتها، ولعل من المناسب التذكير بأن مها محمد منذ ان ولجت عالم الكتابة والترجمة قبل نحو ثلاثين عاما، آمنت بأن الحياة أكبر من أن يحتويها عقل وأن الحقيقة ليست مجرد أدراك عقلي بحث، وقد دفعها حبها للحياة الى السفر في خيالات الكتابة، فكتبت للطفل وعنه، وللحب وعنه، وللعشق وعنه، وهذه المرة حزمت حقائبها نحو القارة السوداء عبر مجموعة من القصص النسوية الأفريقية، ولم تحتفظ بقراءتها الذاتية لتلك القصص، فعزمت على ترجمتها وهي المتمكنة من سبر أغوار لغتين أجنبيتين هما الفرنسية والانكليزية ..

وبالرغم من ان قصصها الأفريقية بأقلام كاتبات من أفريقيا كانت  قصيرة جدا، إلاّ إنها حوت في طياتها وفي طريقة تركيبها أفكارا إنسانية وعاطفية بالغة المعاني ..  وأنني أعتبرها من القصص التي تهتم بنقد الحياة أكثر من اهتمامها بتصويرها  ومعظم شخوصها من الصنف الإنساني الذي همه الخير، فتراها تقع في متاهات عديدة، لاسيما في موضوعة الحب الذي أتلمسه في هذه القصص بأنه  يضعف مرات  ويقوى مرة، وكذلك الخيانة فأجدها تضعف مرة  وتقوى مرات، لكن كل ذلك يتم  بانتقالات غير محسوسة، سوى ان الشكل الوجداني لهذا الحب يزول ويحل معه الشكل المتقلب للحب،  غير ان أجمل ما في أسلوب مها  هي تذكيرنا على الدوام  بان أحلى ما في الحب هو ألامساك عن الكلام  فيه، وترك التعبير عنه لأسطر في رسالة الكترونية او ومضة بانت من تحت نظارة تخفي  زرقة عينين هي والحلم صنوان : واحدة تكمل الآخرى !

وكان مفيدا، ان تكتب الكاتبة مهما محمد حسن مقدمة لترجمتها أضاءت بعض الجوانب غير المعروفة عن الأدب النسوي الأفريقي، فأعطت بذلك ملمحاً كان غائبا في مسيرة الأدب الأفريقي حيث ظلت القارة الأفريقية دهورا طويلة يُنظر إليها بوصفها أرض الغابات المظلمة التي تعج بالحيوانات الضارية والزواحف المُخيفة والبعوض والذباب القاتل، والسكان السود المُعدمين الذين يتكرم عليهم البيض الذين يقتحمون هذه الأرض المليئة بالأسرار، فيجعلوهم أدلاء لهم في الغابات، وحمالين ينقلون أدواتهم ومؤنهم. والغابة المليئة بكل مخلوقات الله ومن بينهم البشر، يشع فيها نور مُغامر يبحث عن الماس، أو مبشر يدعو إلى دينه جهراً أو طرزان الأبيض الوحيد الذي يملك الغابة!

وأبناء هذه القارة كانوا على مدى حقب طويلة من الزمان بضاعة يتم اصطيادها وانتزاعها من أهلها وموطنها وتصديرها إلى سوق النخاسة والعبودية الغربية بكل ما فيها من ظلم واعتداء ووحشية! إلاّ أن هؤلاء الأبناء بشر برغم أنف كل من أراد أن يعدهم غير ذلك، وقد بدأوا بتلمس طرق إثبات انتمائهم إلى الجنس البشري من خلال الكثير من النجاحات التي حققوها في أراضي العبودية ووصلوا بها إلى مستويات عالية من الانجاز الإنساني في الفن والعلم والأدب!

وأفريقيا أرض تزخر بالثروات التي تمتد بين الماس وبين الموز، وتزخر أيضاً بالفقر والمرض والجهل والعديد من صنوف المعاناة الإنسانية التي يأتي في مقدمتها الايدز الذي استوطن القارة وأتى على الملايين من أبنائها! ومن بين كل ما في أفريقيا مما يرسم خطوط الإبداع الإنساني، وما يرسم خطوط المعاناة الإنسانية، كتبت عدة مبدعات هذه القصص التي أردن لنا من خلالها أن ندخل هذه الغابة المُرعبة لنرى ما فيها من كل ما هو مخيف وغريب في بلاد السحر الحلال والسحر الأسود وملايين المُعتقدات والخرافات!

ان هذه الاضمامة من نتاج الأديبات الأفريقيات تسهم في استكمال معرفتنا بعالمنا من خلال دخول هذا النفق الجديد الذي ينفتح على ثقافتنا ليرقدها بمصدر جديد من مصادر التواصل مع البشر المبدعين أياً كانت ألوانهم وطرائق تفكيرهم.

إنها إعادة اتصال لنا بأخوات في الإنسانية فشلت إدعاءات تفوق البيض في إبعادهن عنا، وإبعادنا عن التنقيب في أفكارهن والسياحة في فضاءات إبداعهن، ونرجو أن يكون ذلك بداية رحلة استكشاف إنسانية تعد بالنجاح!

 

عالم عجيب

 وعند انتهائي من قراءة  قصص مهما محمد، أدركت كم ان الأديب السوداني د. جمال محجوب كان على صواب في دراسته عن الأدب الأفريقي حين قال ان من الصعب تحديد جوهر العوالم الأدبية وأثارها في الأدب الإفريقي بفعل الضغوطات الداخلية الممارسة على المبدع حيث أن أغلب الكتاب الأفارقة يعيشون خارج أوطانهم أو يتم تبنيهم في الغرب عن طريق النشر والتوزيع والترويج لأعمالهم الإبداعية، واعتبر مصطلح "الرحالة" نافذة لاستكشاف الشكل الإفريقي المقترح إبداعيا•

 

وعن تجربته الشخصية باعتباره ثمرة زواج مختلط بين اب سوداني وأم بريطانية أوضح جمال محجوب أنه لم يعان من التمزق أو التمزق الداخلي بسبب نهله من حضارتين مختلفتين ولم يعان من الشرخ، وأشارالى أن همّ الكتاب الأفارقة في الـ  60 من القرن الماضي أنصب على ألتوق للاستقلال والحرية لكن بعد تجربة الدولة الوطنية وفشل المشروع أجبر الأدباء الأفارقة (الحالمين) إلى اختيار المنافي والهجرة بنصوصهم إلى الآخر، واعترف الدكتور جمال محجوب أن الأدب الإفريقي ممزق ومتشرذم بسبب حالة الحروب الدائمة وعدم الاستقرار وغياب هامش الحريات حيث انفجر الأدب الإفريقي خارج فنائه الإفريقي وتعددت الاختلافات لأننا لا نستطيع الوصول إلى مصطلح "الأدب الإفريقي" بحكم أنه ينظر للأدب الإفريقي على أنه قدم من بلد وليس من قارة، فثمة قطيعة بين الكتاب سواء كانوا باللغة الفرنسية أو الإنجليزية كما أن الأدب الإفريقي المكتوب باللغة العربية ما زال حبيس الإيديولوجيات والتاريخ ويعتقد محجوب أننا بحاجة إلى عقلية للتغيير مثمنا دور البعض على ورشات الكتابة على المستوى الإفريقي لتشجيع الكتاب الجدد ..

 

معلومات أوسع ..

 وكنت أتمنى على الزميلة مها محمد ان تتوسع في مقدمتها لهذه الترجمات، فتضيف معلومات لقارئها عن تاريخ الأدب الأفريقي ومنعطفاته ولا تكتفي بملمحها في الكتابة عن الأدب النسوي الافربقي  ... صحيح إنها كتبت مقدمة حاولت فيها ان تشير الى بعض الملامح  لكنها بقيت دون الطموح، وأظن ان السبب في ذلك هو النمط الذي عُرفت به الكاتبة في أسلوبها المتسم برشاقة الكلمة وقصرها ..

وهو أسلوب لا بد لي ان أسجله باحترام  للكاتبة مها، فهي بارعة في خفة  أسلوب ترجمتها وتركيزها على إيحائية تركيب الحوار، وفي اعتقادي  بأن مترجمة  من هذا النمط ما دامت تمتلك الإحاطة  والقدرة الدقيقة وموهبة حسن اختيار اللمسة الفنية المعبرة فأنها  من الممكن ان تنتقل بيسر من ترجمة الأعمال القصيرة الى الروايات الكبيرة المركبة . وأظن ان من المفيد القول ان مصطلح الأدب الإفريقي حسب الطرح الموضوعي لهذا المصطلح هو الأدب الذي كتبه ونطقه كافة أبناء القارة الفريقية الناطقين بالعربية وغير الناطقين بها  كما أكد على ذلك  د. محمد سالم ولد الطلبه في دراسته القيمة  عن الأدب الإفريقي، لذا فإننا ينبغي أن نكون دقيقين في مفاهيمنا ومصطلحاتنا فنقسم الأدب الأفريقي مبدئيا إلى قسمين : أدب إفريقي عربي وأدب إفريقي غير عربي . ولكل من الفرعين أقسامه وفروعه الخاصة، سواء منها الشفوية أو المكتوبة، وسواء من هذه الأخيرة ما كتب باللغات المحلية أو الأجنبية  ..  والأدب الإفريقي غير العربي يضم آدابا كثيرة ومتنوعة، وبلغات مختلفة، لكن الدارسين يرجعون اللغات الإفريقية غير العربية كلها إلى الأسرة " الكونغولية الكردوفانية " .

وكما تطرح في الأدب العربي قضية هذا الأدب المكتوب بلغات أجنبية كالفرنسية، فإن نفس القضية تطرح أيضا وبحدة في الأدب الأفريقي غير العربي  .

إن الأدب الإفريقي غير العربي يطرح إشكالات عدة منها ثنائية الشفوية والكتابية، وثنائية لغة الكتابة والاستجابة لشروط التواصل ؛ لكن قبل التطرق إلى هذه الثنائية الأخيرة نشير إلى أن قضية " الشفاهية " بخصائصها وفطرها وأسلوبها تسري في هذا الأدب حتى منه ذلك المكتوب بلغات أوروبية ؛ إذ اللغة فكر، والفكر لا يعبر إلا عما هو مؤسس عليه .

يضاف إلى ذلك تنوع هذا الأدب غير العربي، وذلك تبعا للغات واللهجات الأفريقية الكثيرة، والتي  يشير الدكتور ولد الطلبة الى صعوبة دراسة الأدب الإفريقي دراسة موضوعية ربما بسب تعقيدات اللغة فهو يقول (يكفي أن نعرف أنه قد أحصيت " أكثر من 600 لغة بتحدثها سكان القارة) فضلا عن آلاف اللهجات التي لا يتكلمها أحيانا إلا مجموعات قليلة تحسب بالمئات . ولنشر على سبيل المثال إلى 350 لغة في زائير، بينها 4 لغات فقط بتحدثها عدد كبير من سكان البلد هي : السواحلية – لينغالا – الكيكونغو – تشيليبا . وفي غانا تم إحصاء ما بين 47 و 62 لغة وأكثر من 800 لهجة . وهناك 150 لغة صغير في نيجيريا، و 72 لغة في ساحل العاج، و 62 لغة في الكاميرون "

إن كل تلك اللغات وما تحتضنه من ثقافات وأساطير ورموز وروايات وأشعار وحكايات شعبية و أمثال وحكم ...... تؤلف مجتمعة نسيج هذا الأدب الإفريقي غير العربي ووحدته الكلية الكبرى ؛ وهذا ما أحسن التعبير عنه الروائي النيجيري (نشينوا إتشيبي) في قوله " ... لا يمكن أن تحشر الأدب الإفريقي في تعريف صغير محكم ... فأنا لا أرى الأدب الإفريقي كوحدة واحدة وإنما أراه كمجموعة من الوحدات المرتبطة تعني في الحقيقة المجموع الكلي للآداب "القومية" و "العرقية" في إفريقيا "

ويطرح هذا الأدب الإفريقي غير العربي قضايا عدة منها  أن معظم الأدباء الأفارقة الذين ينتمون إلى مجموعات لغوية ودول مختلفة لا يكتبون بهذه اللغات – رغم أن لبعضها أبجدية من نوع معين – ولكن نراهم يهرعون إلى اللغة الأجنبية، وتحديدا لغة المستعمر الذي كان بالبلاد ؛ وبالتالي نرى هؤلاء يتبنون هذه اللغات الأوروبية خطا فكريا في الكتابة وفي مختلف الأنشطة الثقافية خارج الإبداع. وهذا ما يطرح قضية مهمة تتعلق بكيفية تواصل هؤلاء الكتاب مع جمهورهم المعني بفحوى الرسالة الفنية  وهو جمهور في معظمه، كما نعلم، مخترقا  بالأمية والجهل والتخلف والفقر المدقع.

ثم إن هؤلاء المبدعين لا يكتبون لأنفسهم و لا لمن هم خارج حدود " تغطيتهم " التواصلية، فإبداعهم ينبع أساسا ممن هم معنيون بالخطاب، لأن أوضاع أولئك وظروفهم تعمل فعل المحفز و المثير الإبداعيين لدى هؤلاء الكتاب .

وإذا نظرنا إلى خارطة الكتاب الأفارقة غير العرب باللغات الأجنبية ألفيناها في تزايد مستمر، وهذا ما يجعل من خطاباتهم الفنية التوجيهية الإصلاحية مقتصرة على إدراك النخبة القليلة ؛ وهذا بدوره يمثل تناقضا منهجيا ساخرا من حيث كونه أدبا حداثيا يتبع مناهج طبقية كلاسيكية إقطاعية، يحجب فضاؤها عن المعنيين الفعليين بها ..

ان مشكلات " التواصل " هذه، تتفاقم يوما بعد يوم ؛ لأن المجتمعات الإفريقية حديثة العهد عموما بالاستقلال، وتعاني كلها تقريبا من مشاكل بنيوية على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والبيئية ...... فضلا عن مشاكل العنصر البشري المزمنة ؛ وبالتالي فالفرد الإفريقي ينظر إلى كتابه وأدبائه أملا في أن يقتبس من نورهم كي يضيء دياجير دروبه، لكن خيبته تكون عظيمة عندما لا يرى من نورهم إلا الشفق المغرِّب ؛ فكتابه يشرقون في آفاق غربية، ليست في الحقيقة معنية بطلوعهم ولا حتى بغروبهم .

المشكلة التي يطرحها هذا الأدب الإفريقي غير العربي المكتوب باللغات الأوروبية الثلاث المذكورة، يطرح تساؤلا ملحا : هل هذا الأدب هو أدب للتصدير فقط ؟؟؟ ....

يجيب على هذا التساؤل الأديب الإفريقي  (داثورني)  قائلا " ... إن الكتاب الإفريقيين في القرن العشرين " مغتصبون بلا شك " . فقد تعلموا في عالم جديد وامتصوا قيما جديدة، وأطلقوا أسماء جديدة على الموضوعات القديمة، واكتسبوا ارتباطا غريبا بالكلمة، ومن المحزن أن يكون الأديب الإفريقي في القرن العشرين مقاولا ثقافيا  لأنه يكتب ولا يتكلم، ويتكلم لغة لا يسمعها أحد، ولا يسمعه أحد، لأنه نصب نفسه ولم ينصبه أحد . إنه إذا يصنع ثقافته للتصدير "

لكن لا بد أيضا أن نكون موضوعيين نوعا ما، فهذه اللغات الإفريقية ذات الطبيعة الشفوية، والتقاليد الكتابية البسيطة، والبدائية أحيانا، لا توفر – في نظر هؤلاء الكتاب – إطارا موضوعيا ملائما لاحتضان تلك الأفكار والتصورات ذات الطبيعة الحداثية، وبالتالي يكون اللجوء إلى اللغة الأجنبية هو لأجل توصيل أصوات تلك الأمم ومعاناتها وقضاياها المصيرية، حتى تُسمع و يُحس بها دوليا  و يَشعر الآخرون بمدى الانهيار والتردي اللذين تركها المستعمر فيهما  وعلى شتى الأصعدة .

والحق أن الأستاذ (هـ يان) قد خلص في النهاية إلى أن تصنيف الأدب حسب الجغرافيا أو الطبقة أو لون البشرة لا يعد معيارا موضوعيا حاسما في التصنيف، فالأدب  عامة والإفريقي خاصة، هو كما  يقول " لا يمكن أن يصنف إلا على أساس الأسلوب و المواقف التي يعرضها وبدقة أكثر أقول : على أساس دراسة الأعمال المفردة وتحليل أساليبها وتصنيفها بعد ذلك ثم مطابقتها مع تقاليد الأساليب و المواقف المشابهة ؛ ولا يمكن أن تأمل في وضع الأعمال الأدبية في " أسرها " الصحيحة ما لم تفحص هذه السمات، وما لم تحلل عملا محددا فلن تستطيع أن تحدد الأدب الذي ينتمي إليه ذلك العمل  هذا التصور الأسلوبي إذا أضفنا إليه فكرة : أن تعبير المرء بلغته الأم لا يمكن أن يدانيه أي تعبير آخر بأي لغة مهما بلغ المعبِّر من حذق اللغة الثانية ؛ إن نحن أدركنا هذا الأمر كان بإمكاننا فيما يتعلق بالأدب الإفريقي غير العربي أن نطرح قضية " الحرف التعبيري " الملائم لكتابة تلك الآداب غير المتوفرة على أبجدية، على أن تكون الكتابة باللغة الأم .

وقد يثير هذا الطرح جدلا كبيرا  لأن الخيارات المتاحة محدودة، فالكتابة في هذه الحالة إما أن تكون بالحرف العربي أو الأوروبي الغربي تحديدا .

وهنا يبرز كل فريق ليدافع عن طرحه، فالمبشرون المسيحيون والمستشرقون سيدعمون خطهم، على أساس ميراثه التاريخي والحضاري، وما يحمل ويوفر من قيم براغماتية نفعية، كما أنهم لا يتورعون في سبيل دعم حججهم بالهجوم غير الموضوعي على الخط العربي .

أما المسلون الأفارقة فيدعمون خطهم العربي لما له من صلة بثقافتهم و انتمائهم، وبما لهم به من ألفة ؛ هذا فضلا عن كون العربية المدخل الضروري الأول للإسلام .

وبغض النظر عن حجج أي من الفريقين، لم لا ننظر إلى هذه اللغات الإفريقية المطلوب كتابتها، من حيث الأصوات والمخارج و الحروف والخصائص الصوتية والأدائية، ثم ننظر بعد ذلك إلى الخطوط الملائمة لاستيعاب ذلك .

والحق أن دراسات من هذا النوع ما تزال قليلة نادرة، لكن بوصفي (يقول الدكتور ابو طبلة) باحثا محتكا – بفعل الجوار والمساكنة – ببعض نماذج هذا الأدب في ثلاث لغات هي من أكثر اللغات تداولا في القارة الإفريقية هي (البولارية – الولفية – السونينكية : بفرعيها) ؛ بوصفي كذلك أستطيع القول إنني اطلعت على نماذج من هذه المحاولات الكتابية بالحرفين العربي واللاتيني  (الفرنسي تحديا)  وتبين لي – مثلما تبين لمن قابلت من أبناء هذه اللغات - بعد المقارنة أن ما يتيحه الخط العربي من إمكانات التعبير عن مختلف الأصوات و الحركات أكبر مما أتاحه الخط الأوروبي الفرنسي، الذي كان يستعين في إبراز بعض الأصوات بتنقيطات ومضاعفات ودمج لبعض الحروف كي تعطي الصوت المطلوب .

وربما تعود مرونة الصوت العربي إلى طبيعته الشفوية الراسخة المتجذرة فيه كالصوت الإفريقي ذاته . ولا أدل على ذلك من  المكانة التي حظي بها الخط العربي في إفريقيا الغربية و الشرقية والوسطى، من مكانة عفوية على مر التاريخ.

 

لنقرأ سوية ..

تضمنت ترجمة مهما محمد 9 أعمال أدبية من قصار القصص حملت عناوين : همسات الجدران  وشجرة القابوق والحادثة والسقف ويانغانتيو والعصاة والى الجانب الآخر من الحدود والمعسكر وأميو زاناكو وأنني منها.. .

ولقناعتي بأن الأدب الأفريقي، ولا سيما النسوي منه  لم يحظى بتسليط الضوء المناسب عليه، أجد من الضروري مشاركة الإخوة القراء في الإطلاع على النماذج التالية وقد اخترتها عشوائيا من ترجمات الأديبة المها محمد ..

 

 

     همسات الجدران

 

تأليف: جيسلين ساثو

(ولدت في 8 نيسان 1969 في بوانت-نواغ (الكونغو). كان أبوها وزيراً وعمدة مدينة دوليسي. نالت الماجستير في العلوم السياسية من جامعة كيبك في مونتريال في كندا. قارئة نهمة منذ صغرها، وشغفت بالمسرح خلال مراهقتها ومثلت مع (جماعة ماريغو) و(بوانت نواغ) في نهاية الثمانينات. تعيش في كندا منذ عام 1996)

 

بسبب أمر لا قيمة له، نجح (كيني) في إقناعي بالاعتراف بأن علاقتي به كانت تتخذ منحى آخر.

فما زلت أتذكر صوته وهو يدوي في أذني: "تعلمين، لم يعد ما يقرب الناس بعضهم إلى بعض، سوى الرؤية المشتركة لبعض الأشياء في الحياة... فمع الاختلاط يتأكد شيء ما دون أن نتمكن من معرفته... ولكنه، بالتأكيد شيء ما!".

ثمة الكثير من نقاط التلاقِي بيننا. ولكن يبدو أن شيئاً واحداً يجعل ارتباطنا مستحيلاً... فلقد كان الاختلاف العرقي بيننا هو العقبة الكأداء. فهل تعتقد أنه لأجل أن يحب المرء أو يعيش سعيداً، عليه التحدث باللغة نفسها، والقدوم من المنطقة والمدينة ذاتها؟ ولكن لِمَ لا نستفيد من ثراء الاختلاف؟

أجدني منقسمة بين حبي العنيف لهذا الرجل، والأحكام المسبقة التي تحول دون إتمام زواجنا. فكلما جابه هذا الحب العوائق، أجدني أكثر تعلقا به، وأكثر رغبة في القول أنني لا أكترث لما يُقال، وفي التسلح بالشجاعة لمجابهة كل هذه الثرثرة لأعيش بسلام، وأتفادى الإحساس غير المجدي بالألم أو بالكذب على نفسي أيضا...

اجتاحني هذا الحب مثل إعصار. حاولت مقاومته لفترة، ولكن، عبثاً. فكيف لي أن أخوض غمار تجربة حب عنيفة دون أن أقدر على تفسيرها؟ وكيف لي أن أبوح بحبٍ محكوم عليه بالفشل؟ ولم لا يسعى إله الحب لحمايتي؟ كيف أقدر على الخروج من هذه المتاهة؟ أعني كيف سأخرج منها وأواصل الحياة؟ كم بي حاجة لامتلاك عصا سحرية والتحكم بالزمن والعودة تماماً إلى ما قبل الزمن الذي التقيت فيه بـ(كيني)، لأتوقف هناك، وأجنب نفسي رعب عاطفة تعذبني.

ماذا أفعل لأتفادى الإصابة بالحب؟ كلا، كلا، رجاءً لا تقل لي أن ذلك أبسط شيء في العالم. وأنا أدرك أن لي بعض المناصرين.. أناساً يدركون أن الحب يمكن

أن يمضي بعيداً عن الحواجز 

 

القبلية والعنصرية.

ولكن كيف لي الإعلان عن هذا الحب على الملأ في وضح النهار، مع يقيني بأن زواجي سيرفضه الطرفان؟

حاولت أن أحيط نفسي بحماية جدتي (ماميني)، إلا أن ردة فعلها زادت من اضطرابي، حيث قالت: "ما الذي تقولينه؟". ثم أردفت: "من هو سعيد الحظ؟ ومن هما أبواه؟ وما هو أصله؟ وهل ثمة تعارف بين أسرتينا؟".

لم يُثر دهشتي هذا الوابل من الأسئلة لأنني كنت أتوقعها نوعا ما. لكنها أثارت حيرتي، وعندما سألتها: "أتعتقدين حقا أن لهذه الأسئلة علاقة مع ما أبوح به لك؟". أجابتني بلهجة مستاءة:

- "كيف تجرؤين على طرح مثل هذا السؤال؟ بالتأكيد، عليك أن تأخذي تساؤلاتي على محمل الجد لأنها مهمة ومسوغة، وأكثر أهمية مما تتوقعين يا حفيدتي".

ثم تنحنحت قليلاً، وأشارت بيدها لأقترب..

كنت أعرف أن الأمر مهم، فصوتها كان يخبرني بذلك. كما أن لجدتي طريقة متميزة في التعبير، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالحديث عن موضوع مهم بالنسبة لها...

وفي مثل هذه الحالة فإن صوتها كان يوحي بخطورة ما ينبغي أن تقوله، وكذلك حركة يدها التي كانت تطلب مني الاقتراب، وكلا الأمرين يؤكدان الأهمية التي توليها لحديثنا. لقد كانت جدتي إحدى الشخصيات النادرة، إن لم تكن الوحيدة، التي يمكنها إقناع أبي. وكان عمرها المتقدم يؤكد الأهمية التي تتمتع بها... إضافة إلى أنها، على نقيض المسنين أقرانها، كانت متفهمة ومتسامحة. وكانت موضع اهتمام الناس، وذات كلمة مسموعة أيضاً.

قالت لي: "اسمعي، وأدركي ما علي قوله لك. قلت لي أن حبيبك يكنُّ لك حباً حقيقياً يخلو من المصلحة، وقد أخبرك هو بذلك، والرجال جميعاً يقولون الأمر ذاته.. إنه منحدر من المنطقة التي كانت تسكنها جارتنا ولكن، ألا تعلمين أن الناس هناك يولون الآخرين احتقاراً كبيراً؟ وأنهم لا يتزوجون إلا في ما بينهم.. كما أن أباك لن يتقبل هذا الزواج البتة.. وهذا لمصلحتك".

وأنا أتساءل: أهو أمر صحيح أن يختار الآباء أزواجاً لبناتهم مثلما كان يحدث من قبل؟ أجد أن الكبت يكمن داخل كل امرأة متمردة، وأتساءل أيضاً: كيف لي ألاّ أتمرد في مثل هذه الظروف؟ لا بد من وجود أسباب للتمرد، أليس كذلك؟ وأجد أن أسبابي تنبثق من اليقين بإمكانية دوام الحب بعيداً عن الاختلافات. أجل! يمكن أن يحدث ذلك في هذا العالم حيث يكون فيه الاختلاف أصل عدد من المآسي.

إن خوض غمار الحب مع عدم إيلاء أية أهمية للاعتبارات العنصرية والمحلية وغيرها... يمكن أن يحدث. ولم لا؟ أن نحب ونهمل الفوارق! أجل! أجل! بالطبع يمكن ذلك!

لم لا نستعين بالفوارق لتحقيق الإثراء المتبادل؟ وكيف يمكننا الحيلولة دون نمو الحب باسم المعتقدات الباطلة والغريبة؟ ألا ينبغي جمع الفوارق لتحقيق القوة؟ وهل بالإمكان الحيلولة دون أن يقع شخصان في سَوْرة الحب؟

صدقوني، يمكن أن ينمو الحب بعيداً عن الفوارق! وآمنوا بأن الحب يمكن أن ينمو بعيداً عن الفوارق! واعلموا أن الحب يمكن أن ينمو بعيداً عن الفوارق!

بالطبع، يمكن أن يكبر الحب بعيداً عن الفوارق، ذلك لأننا جميعاً، بشر، كأن التخلي عن الآخرين بسبب الاختلافات لا يلحق الأذى بالإنسان، وكأن نجاح الزواج ينبغي أن يرتبط بتنفيذ تلك الاعتبارات! كلا، كلا، لندع الحب يُزهر...

لا يمكنني أن أفعل شيئاً لذلك! لقد سقطت كل تلك الحواجز، وأنا رهينة حُبي.. بلا مقاومة.. رهينة وبلا مقاومة...

من خلال جدران منزلي، راودني إحساس برؤية شكل هذا الرجل الذي كان ينتظرني. بدا لي أنني أستمع لصدى صوته يرن في أذني.. كانت الجدران تهمس وتتغنى بحبنا. كانت الجدران تشدو بانتصار حبنا. كانت الجدران تترنم بصلوات الحب. وتظل تهمس... تهمس.. على الدوم

 

شجـرة القابـوق

تأليف: ميشيل أساموا

(تعمل ميشيل أساموا مستشارة تربوية. ولدت في فرنسا في العام 1941. وفي عام 1962 قامت بأول سفرة لها إلى ساحل العاج (وهو موطن زوجها)، ثم استقرت الأسرة هناك كلياً منذ 1977، وهي أم لأربعة أولاد. وفيما عدا الكتابة، فإنها تمارس اليوغا والرسم بالزيت. عادت إلى فرنسا مع زوجها الذي توفي عام (2001) بسن التقاعد وهي تعيش الآن في مدينة "بوش دو رون". )

 

كان السياح يغتنمون فرصة التمتع بمشاهدة شجرة القابوق التي تنتصب عند مخرج المدينة الصغيرة.

إنها شجرة ضخمة، مهيبة، كانت يومئذ تبسط أغصانها الجُرد فوق قرص الشمس البرتقالي ساعة الغسق. وكانت جذورها الظاهرة والملتوية تمتد من جذع ضخم مغطى بأشواك كبيرة. أما أغصانها، فكانت تجتمع في القمة.

منذ سنين، والبائعات في مدينة بانغوي اعتدن الجلوس تحت ظلها عند الرابعة عصراً، وهن يبسطن قنانيهن الكبيرة ويبعن ما فيها من عصائر.

وكان صبية الحي يتجمعون حولهن وهم يفتشون في جيوبهم عن قطعة نقدية تمكنهم من شرب قدح أو اثنين من خمر النخيل، بعد أن ينضم إليهم العمال والمستخدمون عند خروجهم من العمل.

اعتاد (لامين) ساعة الغسق بعد مغادرة النساء، الجلوس هناك على مقعد مهمل...

كان لامين صبياً غريباً، منطوياً على نفسه، يفضل التعامل مع الطبيعة أو الحيوانات، على الكلام مع أقرانه.. ولذلك اختار مهنة البستنة. كان يعيش وحيداً في منزل صغير وسط الأدغال بين نباتاته وحيواناته. وكان بارعاً في تدجين الحيوانات بشكل يثير الحيرة والتساؤل.

في ذلك المساء كان يحلم وهو يجلس تحت الشجرة... وفجأة، وكأنما انبثقت من لا مكان، تقدمت نحوه فتاة شابة، حافية القدمين تتشح بإزار. كانت تسير برشاقة وهدوء وقد طوّقت جيدها بقلادة من اللؤلؤ المذهب.

قالت هامسة:

- "طاب يومك".

ثم جلست قرب لامين وابتسمت له. لم يتبادلا أطراف الحديث، فلا أهمية لذلك لأن لامين كان يعرف أنها هي، فتاة أحلامه التي انتظرها طويلاً.

وأخيراً نهضت وقالت:

- "سأعود غداً في الساعة نفسها. اسمي إيلوا".

وهكذا كانا يلتقيان يومياً ولبضعة أسابيع قبل أن يفلح لامين، في الإمساك بيدها وتقبيلها.

قالت له:

- "عليَّ أن أخبرك شيئاً، فأنا مختلفة".

قال لها:

- "بالطبع، أنت كذلك، أنت فريدة".

فهمست قائلة:

- "ذات يوم ستفهم ما أقول".

***

منذ مدة طويلة ونائب المدينة يطمع في الحصول على هذه الأرض الرائعة التي تقابل السوق، فقدم طلب حيازة لها، وربح القضية بسبب منصبه. واتخذ قراره بتشييد سوق تجارية عليها. وبما أن شجرة القابوق يمكن أن تمثل، بجذورها الضخمة، عائقاً لإتمام المشروع، فقد اتخذ قراره بقطعها، واستدعى حطّابين لهذا الغرض. وسرعان ما وصل هؤلاء في الثامنة من صبيحة أحد الأيام والسوق مكتظة بالمتبضعين.

تجمع الناس تعلوهم الدهشة، وتساءل لامين باستياء:

- "أتُقطع الشجرة؟".

قالت سيدة:

- "إنها فضيحة! أتُقطع هذه الشجرة الأجمل في المنطقة!؟".

قال أحد الشيوخ:

- "إن ثمة جنياً يختبئ في هذه الشجرة، وسيستاء من ذلك".

وأضاف أحد الباعة:

- "كان علينا أن نقدم قرباناً لها".

بيد أن الحطابين كانوا ماضين في عملهم وهم يقطعون نتوءات الجذور، ويصنعون فيها حفراً خشبية مثلثة الشكل ليصلوا إلى الجذع.

وكان نائب المدينة يراقب العمل قبل أن يصيح أحد الحطابين:

- "انتبهوا! ليتراجع الجميع!".

تمايل الجذع الضخم لحظات، ثم هوى على الأرض محدثا صوتاً مخيفاً.

كان الناس يتطلعون باستياء إلى نائب المدينة الذي لم يكن يفكر بسوى النقود التي سيجنيها، ويسخر من المعتقدات الباطلة التي يؤمنون بها. فتقدم من الجذع ووضع يده على أحد الجذور، وفجأة، تسمّر في مكانه وتملكه الرعب في الوقت الذي علت فيه صرخة من بين حشد من المتجمعين. فأمامه، كانت ثمة أفعى كوبرا ضخمة تترنح يميناً ويساراً، ثم يساراً ويميناً.

بدا النائب كأن الشلل أصابه.

أمسك أحد الرجال عصا وصاح:

- "لنقتل الأفعى، لنقتلها!".

صاحت إحدى النساء:

- "كلا، أنظروا إلى الأفعى. إنها ترتدي قلادة!".

- "إنها ليست أفعى، بل جنية شجرة القابوق".

تراجع الحشد.. فيما تقدم لامين خطوة. كان يعرف جيداً هذه القلادة من اللؤلؤ المذهّب...

زادت الأفعى من ترنحها، وأوشكت أن تهجم على الحشد.

فصاح لامين:

- "إيلوا!".

استدارت الأفعى شطر لامين، وبدت مترددة، قبل أن تتوارى.

تساءل بعض الحضور:

- "أين مضت؟".

- "لقد اختفت، ولن نراها بعد الآن. إنها جنية".

- "غداً سنطلب من الكاهن أن يقدم قرباناً للشجرة، وإلا ستنتقم الجنّية".

دخل النائب في سيارته مذعوراً، وانطلقت المرسيدس كالإعصار. عندئذ، لمح لامين ايلوا التي انبثقت قربه كأنما ظهرت بفعل معجزة.

قالت له:

- "لامين، لم يعد لي منزل، هل ترضى أن تقبلني في بيتك؟".

راح قلب لامين يزداد خفقاناً، فأمسك بيد إيلوا، وقادها صوب منزلهما.

في اليوم التالي، أعلنت الصحف موت نائب المدينة، على إثر إصابته بأزمة قلبية خلال قيادته لسيارته

 

        الحادثـــة

تأليف: ميريام وارنر فييرا

(ولدت ميريام وارنر فييرا في Pointe-a-Pitre في مستعمرة غوادلوبيه الفرنسية في عام 1939، وهناك أمضت حقبة طويلة من طفولتها مع جدتها. وبعد سفرها إلى فرنسا أكملت دراستها الثانوية ثم عادت إلى دكار حيث نالت شهادة الدبلوم في المكتبات. تزوجت من كاتب السيناريو بولين فييرا Paulin Vieyra وهي تعيش في السنغال منذ أكثر من ثلاثين عاماً. لها روايات: "الجائزة الأولى"، "خطيب روزيتا"، "جواز سفر للجنة"، "الظلال القادم من الجسر").

 

منذ كم ليلة وكم أسبوع وأنا جاثمة في هذا السرير؟ لا أدري. لكن قبل قليل، امتدت يد ناعمة وطرية لتلمس خدي وتقيس ضغطي.

أحسست أن ثمة تياراً يسري في جسدي ويشلُّه مع رئتيّ، إضافة إلى تيبس في حلقي، حتى أنني لم أعد قادرة على التنفس. وبعد ذلك، غطت عينيّ ضبابة، واستقبلني بحر الكاريبي الحار، لتحتضنني موجاته وتأخذني إلى القاع، حيث مملكة المرجان القرمزي، في رقصة بحرية مفعمة بالفرح.

ها أنا الآن خارج المادة السائلة التي تثير في نفسي الاطمئنان. أين أنا؟ بدأ قلبي ينبض بإيقاع متسارع، وبت أشعر بوجود يد، تأخذ بيدي، وتذكرتُ دفأها فوق جسدي عندما كانت تمر من قبل. أجل، كنت أحبها، هي، من كل قلبي. ولكن، أيمكن للمرء أن لايحب من أحبَّه؟ أيمكن أبداً أن يحب من يعتقد أنه يحبه؟ إن اللامعقول الأكثر إثارة للألم هو أن يحبَّ المرء من لن يحبه أبداً.

عاد الماء، وغمرني السكون والهدوء. هناك، كان الأفق لايزال محمراً، وبعد حين، لفّهُ الظلام، فانزلقت السماء بخفة لتغرق في مياه البحر. لفّتني ضبابة خفيفة، وراحت النسيمات تداعب جسدي العاري، فيما أحالني الماء المحيط بي إلى حورية بحر، وأخذني في أعماقه اللجيّة. كان المرجان المسّنن بخفة يبتسم لي، ووجدت بصيص نور في الأعماق السحيقة.

من جديد ابتعد البحر، ولم أعد أرى شيئاً في الأفق. وأحسستُ بالثقل الذي يحيطني، وأنصتُّ لأغنية البحر الذي ينسحب بعيداً، فيما وجدني المد وحيداً على الرمل المبلل. ياللحزن!

فتحت عينيّ، ووجدت أن ثمة شعاعاً للشمس ينعكس على الجدار، وقرب السرير، ظلال شجرة مورقة. كان المكان ندياً، وثمة ورود حُمر وصُفر وبيض تجتمع في مزهرية كرستالية على طاولة يمين السرير، تضفي على المكان جواً من الفرح والانتعاش. وفي اليسار، ثمة أنابيب بلاستيكية شفافة متشابكة مع بعضها تربط جسدي بآلة مضيئة.

أخذتني غفوة ملونة، من الياقوت والزمرد إلى بحر طفولتي الذي يهدهد أحلامي، فجلستُ وقد أخفيت قدميّ في الرمل الحار، ورحت أتابع الموجات البيض المُزبدة وهي تتهاوى من حولي، وتؤرجحني، مع السرطانات الذهبية اللون التي كانت تخرج من ثقب، لتختفي بسرعة في ثقب آخر.

ابتعَد الماء الملحي، وتدفقت أفكاري، فبرزت صورة حمراء، ووصلت سيارة مسرعة، بقيت متسمرة، شاردة الفكر..

كانت الشمس تعلن عن بدء الصباح عندما وصلت هذه السيارة الحمراء المسرعة. ما الذي حدث؟ كنت أنظر إلى المشهد من فوق، كأنني مقذوفة في الفضاء، بفعل قوة غير مرئية كانت تجعلني معلقة. رأيت جسد امرأة وسط الطريق، مع بقع من الدم تغطي ثوبها الأبيض، وثمة سيارتان، إحداهما السيارة الحمراء، تصادمتا لترتمي إحداهما فوق الأخرى، كأنهما في لحظة عناق. وثمة مارّة يعلّقون على الاصطدام بضجة. كنت أسمعهم، كأنني هذه المرأة الملقاة على الطريق.

وصلت سيارة اسعاف تطلق صوتاً حاداً، ونزل منها رجلان بسرعة وأنحيا فوق جسد الضحية. أهي أنا؟ استمعت لصوتيهما من قريب، ثم لصدى تهكمهما وهما يرددان الكلمات نفسها. بعد ذلك قاما بوضع الجريحة على نقّالة وحملاها في سيارة الإسعاف... وحلَّ الصمت.

إنني أطفو مثل ريشة في مهب الريح، وأَصِلُ السحُب. ثم أشعر بالخوف من هذا الفراغ الذي يحطيني. وكان كل أملي هو العودة إلى البحر، وملامسة الموجات المزبِدة التي تكسيني طهارةً رائقة. لكن الماء انسحب، ليترك الساحل مقفراً.

ومن جديد، وصلت الأمواج وراحت تهدهدني وتثير اطمئناني. فشعرت بأنني أذوب في المادة السائلة، ولم أعد سوى موجة خفيفة. عاودتُ رؤية صباحات طفولتي الهادئة، وزهور الربيع المؤطرة بالندى في السهل الذي كنت أرتاده منذ الفجر، لأتأكد مما إذا كان يحبني قليلاً، أو كثيراً، أو بعنف؟

ومن دواخلي، كنت أسمع همس الأمواج توشوشني وتدعوني: "تعالي معنا، سنكسيكِ العدالة والحرية والوقار. وستنامين في سرير الحقيقة الذي يحرسه السلام. تعالي، سيسهر عليك حراس يقظون، حتى قدوم الزوج الذي سيأتيك من الجانب الآخر من الشاطئ، ومن وراء البحار والسهول والجبال الصغيرة، ويأخذ بيدك".

 دكار، أيلول1996

 

السقـف

تأليف: ميشلين غوليبالي

 

0ولدت عام 1950 في Xuarc-Lai في فييتنام. وأكملت دراستها الأولية والثانوية في ساحل العاج. نالت شهادة الدبلوم في العلاقات العامة في 1994 قبل أن تترك ساحل العاج لتلتحق بعائلتها في المكسيك حيث مكثت ست سنوات ثم سافرت إلى دبي لتقيم هناك. كتبت عدة كتب للأطفال ومجموعة قصص ورواية. نالت جائزة في أدب الأطفال عن روايتيها: "الأمير" و"الفأرة البيضاء)

 يتنافس القمر مع مصابيح النيون في إطلاق الضوء وإنارة الشارع الرئيس لحي بيافري دي تريشفيل، فيما تنساب الموسيقى من مكبرات الصوت، لتختلط مع الأغاني وصرخات الناس. ومن بين الراقصين المتصببين عرقاً، فتاة شابة تتململ، وتستدير حول نفسها، وتدق الأرض بقدميها، ثم يتمايل رأسها وذراعاها. ويبدو أن لاشيء يمكن أن يوقفها. فهي ترقص مغمضة العينين، مأخوذة بحمى أصوات قرع الطبول. إنها تعيش لحظتها هذه. وماذا عن الغد، أو الأمس؟ إنها كلمات بعيدة عن الواقع في معناها ومفهومها. وأي شيء أكثر روعة من الرقص والاسترسال مع الموسيقى التي تجعلها في ذروة السعادة!

ماذا؟ من يجرؤ على تعكير صفو مثل هذه اللحظة الرائعة؟ تقول كلوي لنفسها وهي تسمع همسات ووشوشات من حولها. قال أحد الأصوات:

- "المسكينة كلوي! لايمكنها رؤيتنا".

وتمتم آخر:

- "إنها لاتريد ذلك".

وتدخل صوت ثالث:

- "دعوها تَرْتَحَ".

أصوات مجهولة، وأخرى غريبة. خمنت كلوي مايحدث في غرفتها وهي ممددة على سريرها، وعيناها مسمرتان نحو السقف دون أن ترى فيه شيئاً سوى الحياة التي ترسمها عليه بعينيها المضطربتين.

كلوي شابة جميلة ترقص هناك على أنغام آلة البلافون. وقد حدث ذلك منذ مدة طويلة.. طويلة جداً.

تسعل كلوي، ويراودها الإحساس بأن ثمة مركبة بحمولة ألف طن تجثم على صدرها .. وتعاود السعال. فتضغط جيان على الجرس، لتتشبع الغرفة برائحة الأدوية. ثم تغلق كلوي عينيها لتتفادى النظر إلى الممرضة التي تغرز الإبرة في ذراعها.. فتصك أسنانها، وتترك جسدها يصعد، نحو السقف.

تعتلي كلوي المنصة، ويدوي التصفيق. فقد اختيرت ملكةً للأناقة في تريشفيل. لقد أمدتها سنواتها العشرون بهالة من السعادة والحبور لتعيش حالة لامثيل لها. تتفحص عيناها حشد الحاضرين، فينتابها الدوار. تتناثر الزهور عند قدميها، وتنعكس عليها أضواء كاميرات التصوير. غداً ستكون كلوي نجمة في جميع صحف المدينة.

فتغلق عينيها لشدة ما يغمرها من أحساس بالسعادة. ويتلألأ التاج على شعرها الأسود، فتسحبه وتلقي نظرة عليه. وتتوافد صديقاتها لتقديم التهاني.

يا له من أحساس بالسعادة، خاصة بعد أن فشلت في النجاح بامتحاناتها المدرسية. علماً أنها لم تولِ اهتماماً بذلك وكانت تردد: "ليس هذا كل شيء في الحياة!".

وتطلق ضحكة مدوية عندما تعيب عليها صديقتها "ليا" ميلها المحموم للحفلات.

- "الأمور غير المهمة تأتي في ما بعد. أريد أن أستمتع بالحياة قبل أن تُطفئ الأعوام والسنون جمالي. فلاشيء يدعو للحزن أكثر من الشيخوخة".

- "لكننا هنا من أجل الدراسة قبل كل شيء".

فتجيبها كلوي بتلك الضحكة الرنانة التي تذيب معها أكثر القلوب قساوة:

- "هذا صحيح، لكننا شابات وعلينا أن نتسلى أيضاً. لاتنسي ذلك!".

كان ذلك قبل خمس سنين.

تسمع كلوي الممرضة وهي تدفع عربتها خارج الغرفة، لكنها تمضي في إبقاء عينيها مسمّرتين تجاه السقف. وفجأة، تنتفض لسماعها صوتاً أجشَّ لأحد الرجال.

- "حالتها مستقرة. أخطريني عند حدوث أي تغيير".

من المتكلم؟ كلا، لاتريد كلوي أن تخفض عينيها على العالم الكريه الذي يحيط بها. فتتوتر، وتمد رقبتها نحو السقف، حيث ملجأها الذي تشعر فيه براحة تامة، وتعاود رؤية تاجها، ذلك التاج ذو الفصوص الماسية المزيفة. إن كل شيء مزيف في هذا العالم، أليس كذلك؟ مزيف مثل الجمال، مثل الشباب! كل شيء يمضي يوماً ما، كل شيء! مثل الحياة التي تشعر بأنها تفلت من جسدها رويداً رويداً. والدليل، ها هي هنا، ترقد على هذا السرير في مستشفى تريشفيل.

ماذا قال الطبيب؟ "حالتها مستقرة"! وماذا يعني ذلك؟ لاشيء. إنها صيغة تشيع الاطمئنان لدى الوالدين حسب!

تعاود كلوي المضي بنظرها إلى سقفها. فهناك ينتظرها أصدقاؤها. إنها جميلة وبصحة جيدة. والحياة تعني لها التسلية، وإلاّ فما فائدة العيش فيها؟

تمثل كلوي رمزاً لجيل جديد من النساء، فهي فتاة متحررة، ترفض فكرة أن تكون لعبة بيد الرجال. لأنها، هي اللاعب، وهي التي تحدد قوانين اللعب، هذا ما تعتقد به في أقل تقدير. وهي تؤمن أن الإنسان لايعيش سوى مرة واحدة، ولذلك دعنا نَعِشْ! ولا أريد أن تفلت من أي دقيقة من هذه الحياة الثمنية".

تسألها ليا:

- "ألا ترغبين في الوقوع بالحب؟".

- "أنا؟ أتهزئين بي؟ هذا لن يحدث أبداً!".

وقد حدث هذا قبل ثلاث سنوات.

طوال الليل، كانت كلوي تسمع أمها تتضرع إلى الله وهي تمسح جبينها من العرق. هذا العرق الذي لم تفلح جيان في تنشيفه. الحياة كلها تختزن هذا الجسد. وكلوي تعرف ذلك، مثلما تعلم أن أطناناً من الحياة تكمن فيها. ولا شيء يمكن أن يُنضب هذا المخزون. عليها أن تحيا؟ تحاول كلوي تحريك ساقيها، لكنها تشعر بالألم، ويبدو لها كأنهما مغلفتان بالاسمنت. ومع ذلك، تشعر كلوي بالخِفّة. فهناك، ما يتراءى لها في السقف، أليست هي التي تنزلق على حلبة الرقص بفستانها الجميل من التافتا الذي يُبدي جمال جسدها الممشوق؟ إنها ترقص، وتحيا! من قال أنها مريضة؟ ومن تحدث عن"حالتها المستقرة"؟ هذا هراء!

تتطلع ليا إلى كلوي وهي تتمايل وتنتقل من ذراع رجل إلى آخر فتسألها منتهزة فترة استراحة قصيرة:

- "ألا ترغبين في الزواج؟".

تضحك كلوي وتجيبها:

- "إن قلبي يتغير بسرعة كبيرة. فماذا أفعل له؟".

- "لا أصدق ذلك! هل تقعين في الحب بهذه السهولة؟".

- "الحب، كلمة كبيرة تخلو من المعاني. كل ما أعرفه هو أنه ينبغي ألاّ أبقى مع رجل واحد مدة طويلة، فالتعود يولد المتاعب".

- "أذن، فأنت لاتخططين للزواج!".

- "في ما بعد، ربما!".

- "قد يفوت الأوان! أخشى عليك من هذه الأمراض الفظيعة".

- "أمراض؟ إنها للفقراء حسب! وأنا لا أتردد إلا على الأشخاص ميسوري الحال، ثم إن الرفاهية تعني الصحة".

- "وقد تعني الطيش أيضاً. كما إن رجالك ذوي الشأن ليسوا بمعزل عن الأمراض".

فتجيبها كلوي.

- "كفى هراءً! يا لك من معكرة للمزاج!".

حدث ذلك قبل عامين.

يجتاح كلوي ألم واخز في معدتها فتتلوى ألماً. ثم تعتصر أحشاءها نوبة حادة أخرى من المغص الذي لم يعد يفارقها، إنه "الإسهال المزمن" كما يقول الطبيب. وماذا يعني هذا الإسهال؟ إنه ينتمي للعالم الآخر، السفلي، هذا الذي تأبى كلوي الانضمام إليه.

تحاول تحريك أصابعها. ألا يزال بمقدورها التمايل على أنغام الموسيقى؟ أجل! فكلوي تدندن الأغاني وهي تستعرض الوثائق الموضوعة فوق مكتبها. فهي تشغل وظيفة مرموقة في أحد مشاريع تصنيع البلاط الاسمنتي، وهي مسؤولة عن توحيد الطلبات وتسليمها. وهو موقع ينطوي على قدر من المسؤولية.

أكملت ليا دراستها وتعمل مدرّسة للغة الانجليزية في الثانوية الكلاسيكية لابيدجان. أما كليوي، فقد أهملت دراستها. وتفرغت لموقعها الذهبي في هذا العمل. كما إن الحياة تبتسم لها: حيث اقتنت سيارة جميلة! وشقة فاخرة! مع أعداد من الرجال طوع بنانها! فماذا هناك بعد لتحقيق السعادة لكلوي؟

تنساب المزيد من الصور، وتشعر كلوي بالدهشة.

- "ليا، لقد وقعتُ في شَرَك الحب، وأريد الزواج".

- "أيعقل هذا؟ أنت كلوي؟ من هو؟ وماذا يعمل؟".

- "شاب وسيم، في الثلاثين من العمر، طوله متر وثمانين سنتمتراً، يعمل طبيباً ولديه سيارة نوع بي. ام. دبليو".

- "إني أتحدث عن طباعه، وميوله!".

- "يحبني وأحبه".

- "لايكفي ذلك ياكلوي. خذي وقتك لمعرفته!".

- "من يمكن أن يقدم لي دروساً بشأن الرجال؟".

فبدأت ليا تشرح لها:

- "الزواج أمر مهم. ومن جهتي فقد اتخذت قراري بأن أعرف المزيد عن جوزيف قبل الارتباط به".

- "وماذا عن العفوية، وسحر الفنطازيا؟".

حدث ذلك قبل سنة تحديداً.

تبتلع كلوي بصعوبة اللقمة التي وضعتها أمها في فمها. ولكن، لمَ المحاولة في تغذيتها؟ فلا شهية لها. فالصور وحدها في السقف تكفيها. فهناك تأكل وتشرب حتى الشبع. ألا يفهمون إذن أنها لا تحتاج إلى طعامهم لتشعر بالسلام. ثم إن لكلوي خطة تسير عليها إذ تغلق عينيها عندما تقرب جيان الملعقة من فمها.

تقول جيان:

- "لقد نامت. سأتركها لترتاح".

ويقول زوجها البرت كيفي:

- "عليها أن تأكل لتستعيد قواها!".

قوى؟ راحة؟ عمّ يتحدثون؟ ينبغي أن يأتي فرانك ليأخذها إلى حفلة الأطباء. وكلوي جاهزة. فتدخل جوف سيارة البي. أم. دبليو ليغلق فرانك الباب خلفها.

تشعر كلوي بسعادة غامرة لأن فرانك هو الرجل الذي كانت تنتظره، وهو الذي ستؤسس معه بيتاً يمتلئ بالمرح.

- "إنني أُحب وأُحَب ياليا! إنني أطير من شدة السعادة".

- "آمل ذلك من كل قلبي".

- "وما رأيه بماضيك؟".

- "إنه واسع الأفق ويتقبلني على ما أنا عليه".

- "يمكن أن يكون واسع الأفق مع الأخريات، لكن قد يختلف الأمر عندما يتعلق بخطيبته. هكذا هو مجتمعنا، حيث يُغفر للرجال دون النساء".

- "فرانك يحبني وسيتزوجني".

- "آمل ذلك. أريدك أن تكوني سعيدة".

- "أنا كذلك!".

حدث ذلك قبل عشرة أشهر.

تمسد جيان جسد ابنتها الذي يتقلص وجعاً. وتتبين بشرتها الذابلة المليئة بالانتفاخات البُنيَة التي قال عنها الطبيب أنها تدعى "ساكروم دي كابوسي". تبكي جيان، بينما تلبث كلوي ساكنة، تحدق بعينيها في العالم الذي اختلقته لنفسها. هناك، هناك، في السقف، ليس ثمة التهاب للقصبات الحاد، ولا الإسهال المزمن، ولا الساكروم! أو الكلمات الفظة! فكلوي تشعر بالسعادة.

السعادة! أجل، تشعر كلوي بذلك. لأن فرانك لطيف ومحبوب حتى وإن تأخر في إعلان رغبته في الزواج منها. إنهما شابان، ولايزال لهما متسع من الوقت للحياة معاً. وكلوي تنتظر الوقت المناسب.

حَلّ موسم الإمطار، وراح المطر ينهمر ليالي كاملة. ويهبط مؤشر الترمومتر. وتصاب كلوي بالتهاب القصبات فترقد في السرير عشرة أيام. وبعد أسبوع ترقد مرة أخرى. إذ يتطور التهاب القصبات فتدخل المستشفى.. فيهدأ مرضها قليلاً، ولكن، سرعان ما تعاودها الأزمة الحادة، ويزداد ترددها على المستشفى، وتتكرر معها التحاليل. ويقولون لها، لم نجد شيئاً. فتبقى كلوي طريحة الفراش في المستشفى ترافقها جيان وزوجها، "ألبرت كيفي".

-  "عمّا قريب سأغادر هذا السرير اللعين يا ماما".

-  "أجل يا بُنيتي، سنعود إلى منزلنا قريباً".

-  "وعدني أصدقائي بتنظيم سهرة على شرفي حالما أُشفى".

-  "يالك من محظوظة ياكلوي؟ فكل أصدقائك يعودونك، وأعتقد أن فرانك يحبك كثيراً".

-  "سأبوح لك بسرٍ ياماما، أنا وفرانك سنتزوج".

كان ذلك قبل ثمانية أشهر.

منذ متى وهي هنا؟ لم تعد كلوي تعرف. منذ مدة طويلة، طويلة جداً، منذ الأزل! كانت جيان تعتني بها بمساعدة الممرضة، فيما تبقى كلوي جامدة، تأبى التحرك. ولكن، أكانت تتمتع بقدرة على الحركة؟ إنها تفضل نسيان هذا الجسد الذي لم يعد موجوداً، والذي تنهشه أمراض الأرض كلها.

فكرت جيان وهي منهمكة بالاعتناء بابنتها:

- " أيتها المسكينة! في كل يوم، تُصابين بمرض يضاف إلى الأمراض الأُخَر".

فحصها الطبيب المتخصص بالأمراض النفسية وقال لها:

- "استجيبي ياكلوي! فلجسمك حاجة إلى رأسك ليسيطر على حالتك. لم هذا الاستسلام؟ أتقرين بالهزيمة قبل أن تخوضي غمار الصراع؟".

تركته كلوي يتحدث وحده. كانت تنصت فقط، إذ كان صوته بعيداً، كأنما ينبعث من عالم آخر. ما الذي يقوله؟ أصارع؟ كيف؟ أيمكن أن أصارع هذا الشيء الفاضح؟ أيظنون جميعاً أنها تجهل المرض الذي تعانيه؟ ثم إن كلوي لاوقت لها كي تفكر بالهراء الذي يتلفظ به الطبيب. فهي منشغلة الآن في سقفها حيث ينتظرها أصدقاؤها. لقد جاءوا جميعاً لرؤيتها.

هتف من حولها لتقديم التهاني لشفائها: "برافو كلوي!" لقد عادت لتكون كلوي السابقة. (برافو) فكلوي الآن ملكة الحفل. كانت ترى كل ذلك في سقفها. وكل العالم يقبع في الغرفة الصغيرة. إنه يوم السبت، وقد تم تدشين قنينة شمبانيا.

- "لقد افتقدناك ياكلوي! أُخرجي من المستشفى بسرعة فالحفلات حزينة بدونك!".

كان ذلك قبل ستة أشهر.

وضعت كلوي تحت وسادتها أشياءها العزيزة: خاتماً من الذهب، وهو آخر هدية من فرانك، مع صورة له ورسائل عديدة منه. لكنها لم تعد تراها.

لم يعد فرانك يأتي إلى المستشفى. وندرَ وجود الأصدقاء فانطوت كلوي على يأسها. و"ليا" تزوجت.

"سأرحل في سفرة غير محددة الوقت، تماثلي للشفاء بسرعة. إلى اللقاء... فرانك".

استعادت كلوي في ذهنها كلمات فرانك التي كتبها في آخر بطاقة بعث بها إليها، مع باقة من الزهور الوردية التي تفضلها والتي لاتزال تشم عطرها الأخّاذ. ثم راحت تنظر إلى السقف ورأت نفسها تحضر زفاف ليا لكنها كانت هي العروس! ترتدي كلوي فستان عرس من الحرير بلون العاج مطعماً باللؤلؤ الصدفي، فيما يرفع الذيل الطويل عدة أطفال يرتدون ثياباً وردية وزُرْق. في الوقت الذي تصدح فيه الموسيقى على نغمات آلة الأورغ في كاتدرائية سان- بول دي بلاتو. فتتقدم كلوي وينتظرها فرانك في الطرف الآخر ببدلته الغامقة المائلة إلى اللون الفضي. تنهمر الدموع من عيني كلوي ويمد فرانك لها ذراعه، فتحبس رغبتها في الارتماء بين أحضانه، وتلتصق به، وتكاد الكنيسة تتهاوى تحت ثقل الزهور وأصوات التراتيل.

بقيت جيان جالسة قرب ابنتها التي راحت تردد الصلوات فجأة. فأجهشت الأم بالبكاء، ومضت كلوي تشدو وقد ثبتت نظرها في السقف.

كان ذلك قبل ثلاثة أشهر...

في غرفة كلوي، لم يعد أحد يزورها سوى أبويها وليا صديقتها العزيزة. وتبدو جيان كأنها قد كبرت عشرين عاماً، أما ألبرت كيفي، فلم يعد يخفي ألمه، فيبكي بلا خجل، ويقول لزوجته:

- "علينا القبول بقدرنا".

- "إنها ابنتي الوحيدة! يالتعاستي!".

تتظاهر كلوي بعدم سماعها أنين أمها، وقد اختارت السقف ليكون قدرها.

كانت ترى فيه فرانك، ذلك العاشق المتيم، الذي يملأ السقف بكامله.

- "أحبك ياشيطانتي الصغيرة!".

- "وأنا أيضاً، أحبك أيها الشيطان الكبير".

تنطلق كلوي ضاحكةً، فتسرع والدتها نحوها مذعورة:

- "كلوي! ماذا دهاك؟".

وتمضي كلوي في الضحك فتهرع والدتها لاستدعاء الطبيب. كانت كلوي تضحك لشدة إحساسها بالسعادة لأن فرانك بالقرب منها، ليضمها بين ذراعيه وتشعر هي بنبضات قلبه المتسارعة.

قالت الأم للطبيب:

- "دكتور، إن ابنتي تهذي. وهي لاتستجيب لأسئلتي".

فقال الطبيب يطمئنها:

- "حالتها على ما هي".

توسلت إليه:

- "افعل شيئاً يادكتور".

أجابها وهو يتفحص جهاز الزرق:

- "لقد فعلنا ما بوسعنا. لندع الأدوية تؤدي مفعولها".

قطبت كلوي حاجبيها، ولإحساسها بالضجر من وجود الطبيب رددت في نفسها متسائلة:

- "لِمَ يتحدثون؟ أريد أن أكون مع زوجي فرانك لوحدنا".

ترى كلوي فرانك يبتعد ويختفي في السقف. فتشعر بالانقباض وتظن أنه مضى بسببهم.

كان ذلك منذ شهرين.

ظلت كلوي تحدق مراراً في السقف، لكن فرانك لم يظهر فيه. فتستمر تتأمل لونه الأبيض وحافاته، ثم لاشيء. وفجأة رأت فيه وجه طبيبها المعالج، الدكتور جويل كوفي، وهو أحد أصدقاء فرانك. ذلك محال! فالسقف مخصص لأصدقائها، ولأولئك الذين تود رؤيتهم. ترى ما الذي يفعله الدكتور في "سقفها"؟ لايحق له ذلك! فتود أن تطرده. وترى جيان ابنتها تتحرك في سريرها فتطمئنها قائلة:

- "إهدئي يابُنيتي، كل شيء سيكون على مايرام".

تتوتر كلوي وهي تصغي، تسمعها، لكنها لاتُنصت إليها، بل ترفض ذلك. ومن جديد تراه في "سقفها". بوجهه المتّصبب عرقاً وعينيه الغائرتين في محجريهما خلف النظارتين يردد كلمات غير مفهومة، كلمات علمية بالنسبة لها، كأنما يريد أن يغلف مرضها بورق زينة ليجعلها تتقبل حالتها بسهولة أكبر. كانت ترى فمه يكبر ويغدو مهدداً، بينما تبدو أسنانه كأنها تريد الخروج لتعضّها وتأكلها. وقد آلمها ذلك الفم المكشّر.

قبل أن تلتقي الدكتور، كانت تعاني من نزلة صدرية عادية. لكنها الآن تعلم أنها مصابة بمرض رهيب. الفم هو الذي أخبرها بذلك، وهو نفسه الذي نقل إليها المرض جرّاء القبلات. وفم الطبيب هو الذي أعلن لها عن أصابتها بالمرض الرهيب.

كان ذلك قبل شهر.

بعد مغادرة الطبيب، أغلقت كلوي أُذنيها وعينيها. وكانت أحيانا تخاف النظر إلى السقف الذي لم يعد ميدانها المفضل، بعد أن بات المتطفلون يظهرون فيه، أناس لاتود رؤيتهم هناك. ترى، أيأخذ منها المرض كل شيء؟

تنظر جيان إلى هُزال ذراعي ابنتها، لم يعد ثمة شيء من جمال كلوي المتألق، ويبدو جسدها الساكن فوق السرير كجسد عجوز. فغطت جيان شعر كلوي بوشاح لتخفي خصلات شعرها المبعثرة الباقية في رأسها. ففي غضون ستة أشهر، أحدث المرض أضراراً في جسد الشابة، واستولى على جمالها وشلَّ حركتها. كانت جيان على علم بالحقيقة الرهيبة منذ البداية. وطلبت عدم البوح بها لابنتها. فالأمل يقوي الإنسان كما يقولون، وقد تحدث معجزة. ولذا حرصت على الاختباء عندما تبكي، لكنها سرعان ما كانت تستجمع شجاعتها فتعود للاعتناء بابنتها. لم تعد كلوي تتحدث معها، فراود جيان شعور بأنها تسهر على جثة ميتة.

كانت جيان تتساءل عمّا يختفي خلف جفنيها المطبقين وعينيها اللتين تفتحانها أحياناً على عالم تراه مجهولاً بالنسبة إليها. ترى بأي عالم تحتمي ابنتها؟

وفجأة، تعتدل كلوي في استلقائها على السرير وتصرخ:

- "ماما، لِمَ تبقى هذه العجوز في سريري؟ أريد أن أنام".

- "لقد طردت العجوز يا بُنيتي. لن يضايقك أحد، نامي الآن".

كان ذلك قبل ثلاثة أسابيع.

لمَ هذه الضجة؟ تشعر كلوي بأن ثمة من يلمسها ويديرها في جميع الاتجاهات. أليس بمقدورهم تركها في سلام؟ لم تطلب منهم شيئاً. تريد أن تضحك وترقص مع أصدقائها في السقف لاغير. فلَمِ هذا الحشد من الناس في غرفتها؟ أليس من حقها التمتع بقدر من الخصوصية؟

بقيت كلوي مغمضة العينين ساعات طوالاً. ولم يعد السقف ملجأها الخاص بها، إذ بات ثمة أشخاص آخرون يرتادونه الآن، أناس تحاول ألاّ تراهم. ولحسن الحظ، يبقى السقف أحياناً لها وحدها، عندئذ، تفتح عينيها على وسعهما لتستوعب كل ما يثير سعادتها.

تنظر كلوي في مرآة غرفة المعيشة، ويلحظها فرانك من فوق جريدته. كان ثوبها القطني القصير يُظهر بطنها المنتفخة قليلاً. فتداعب كلوي بطنها بحنان وتقول لفرانك:

- "طفلنا الأول. إذا كان ولداً سأسميه إيمانويل. أريده أن يشبه أباه".

- "أنا واثق في أنها بنت. وستكون جميلة مثل أمها، وسنسميها إيمانويل".

اضطربت يد كلوي تحت الشراشف وتحسست بطنها. فأمسكت جيان بيدها وداعبتها. وأرهفت السمع للكلام الذي تلفظت به ابنتها. وبكت. مسكينة كلوي! هل ستتذوق يوماً ما سعادة الإحساس بالأمومة؟

- "الله رؤوف عادل. وبقدرته أستغيث!".

كان ذلك قبل أسبوعين.

منذ بضعة أيام وكلوي لم تعد تتحرك. كان تنفسها ضعيفاً. وكانت جيان تنحني مراراً لتلتقط أي دليل على أنها مازالت حية. كانت تتضرع إلى الله وهي تُسبّح بمسبحتها القديمة. وزوجها بالقرب منها. بقيت كلوي مغمضة العينين، ولم تعد بها حاجة إلى التحديق في السقف لتراه، لأنه الآن تحت نظرها، وهو لها وحدها.

ترى كلوي مجموعة من الشباب يركضون نحوها، ويقبلونها، ويهنئونها وهي بصحبة فرانك، فتقول لهم:

- "أنتم رائعون!".

- "بل أنت رائعة لأنك تماثلت للشفاء".

ترقص كلوي، وتأخذها الموسيقى فتشعر بالتعب. وتركض لتجلس على أريكة، فيلتحق بها فرانك، فتنظر إلى عينيه. قبل أن تصيح فجأة:

- "أنا مصابة بمرض خطير! أرى ذلك في عينيك!".

تثير صرخاتها انتباه الآخرين فيركضون نحوها.

- "كلوي مريضة جداً. انظروا كيف تغيرت".

لقد تغيرت كلوي، وتساقط شعرها وهزلت، حتى باتت ثيابها تطفو فوق عظام جسدها. جاهدت لتُبقي نفسها واقفة، إلا أنها بدأت تزحف صوب فرانك الذي دفعها، فراحت تنتحب.

الجميع ينظر إليها باشمئزاز، فهم يخافونها. لم تعد واحدة منهم. وفجأة، شرع الجميع بالركض في الاتجاهات كافة هاربين من المكان اللعين.

- "كلوي مصابة بمرض معدٍ! هيا! لنبتعد من هنا!".

كانت عينا كلوي المغرورقتان بالدموع تنظران إليهم وهم يبتعدون عنها بسبب مرضها الرهيب.

كان ذلك قبل أسبوع.

تجلس ليا قرب سرير كلوي وإمارات وجهها تترجم حلماً لانهاية له. فتارة تنطلق بضحكة مدوية، وتارةً تجهش باكية من عجزها حيال مصير صديقتها. فهل من العدل الموت في الخامسة والعشرين، لا لشيء إلا لأنها تحب الحياة؟!

تشعر كلوي بالوحدة والإهمال من جانب أصدقائها الذين هجروا السقف جميعاً، فينتابها أحساس بفراغ ووهن يجتاحان قلبها. إنها تريد أن تتقبل مرضها. وكل شيء يهون لدى الإحساس بأنها موضع حب وحماية. بيد أن الشعور بالوحدة والإهمال لايطاق. وماذا بقي لها بعد أن خوى السقف؟ لاشيء سوى رخام شاحب وعادي. ولكن، من جديد، انبثق لناظريها وجه الدكتور جويل كوفي:

- "آنستي، عليك التحلي بالشجاعة".

تسمع الجملة التالية بوضوح. إن كلوي مصابة بمرض الايدز. بالكلمة المكونة من أربعة حروف. لقد سمعت حكمها بالموت حتى النهاية. ومن الطبيعي أن يتحدث لها الدكتور عن مختلف مراحل العلاج، وعن تطور المرض، لكنها أدركت أن لامستقبل لها! ولكن، لِمَ يَعُدُّون الايدز مرضاً مثيراً للخجل؟ فالأولى لها أن تكون مريضة على مجابهة الاشمئزاز والخجل. لقد كانت كلوي تعرف طبيعة مرضها منذ ثلاثة أشهر، هذا المرض الذي نجحت في الهرب منه عبر الاحتماء بسقفها.

كان ذلك قبل ثلاثة أيام.

كانت ليا تتضرع إلى الله برفقة جيان وألبيرت والدي كلوي. في حين كانت كلوي تحتضن صليباً بين يديها. وتجتاحها بين حين وآخر قشعريرة، فيرتسم ذلك على شفتيها عبر ابتسامة مرّة. بمَ تفكر؟ أين هي؟ تتأمل جيان بمرارة الجسد المسكين المتكور على نفسه، أهو كل ما بقي من الشابة الحسناء التي كانت من قبل؟! ولكن ماعسى أن تفعل أمٌ حيال مأساة كهذه؟ أتحبُ، وتواصل حب الطفلة التي ولدتها وصلّت لأجلها؟

تبتسم كلوي في الحقيقة وهي تتخيل ما كان يدور في رأس فرانك عندما أخبره صديقه الدكتور جويل كوفي بتدهور صحة كلوي. لابد أنه أسرع لإجراء الفحوص والتحاليل الأكثر تطوراً. مسكين فرانك! لابد أنه يلعنها لتعريضه إلى الموت. أهي المسؤولة؟ لكن من هو المذُنب حقاً؟

شاع الخبر في المدينة سريعاً، وسرت حالة من الرعب في أبيدجان. تبتسم كلوي بحزن وهي تفكر بما آلت إليه حال وجوه عُشاقها. لقد نقل إليها أحدهم الفايروس اللعين، ومن المؤكد أن تكون قد نقلته هي إلى واحد منهم، من الذين ظنوا أنهم يفوزون بفرصة غانمة بإقامتهم علاقة معها. يالها من سخرية!

كان الخبر ينتقل من منزل إلى آخر.

- "هل سمعتم بالخبر؟ إن كلوي كيفي مصابة بالايدز".

الإصابة بالايدز تعني الموت قبل حلول الأجل المحتوم. تصرخ كلوي مراراً مستدعيةً أصدقاءها، لكنهم مضوا جميعاً بعيداً عنها، لأنها لم تعد كما كانت لهم من قبل. إنهم يخافون منها الآن. فتبكي بحرقة.

كان ذلك يوم أمس.

بعد أن جرى استدعاء ذويها، وفُصلت جميع الأجهزة الطبية التي كانت تربطها بالحياة، قال ألبيرت:

- "كانت غاية في الشجاعة".

تيبست كلوي في سريرها. وراحت تنحب. فاحتضنتها أمها بين ذراعيها، لكن كلوي كانت ماضية بعيداً.. بعيداً جداً.

اكتظ السقف بشكل مفاجئ. ورأت كلوي وجوهاً تضحك. فعرفتهم جميعاً. رأت تييري الذي ينظر إليها باستهزاء؟ أهو من زرع فيها السم القاتل؟ كلا إنه ساليفو الذي يضحك بحدة أكبر من الآخرين. بل هو بيرت الذي يشير إليها بأصبعه؟ أم تُراه كوسي الذي يهددها بإصبعه؟ أم روجر الذي يغمز لها؟ تقدم الآخرون منها وأحاطوا بها وراحوا يسخرون من أحلامها المنهارة. لم تكن كلوي تخافهم، بل تود أن تواجههم جميعاً.

فتصيح بهم:

- "أنتم لاتثيرون خوفي! لقد استغللتكم. وانتهى الآن كل شيء! هيا، امضوا".

فأجابوها وهم يتضاحكون:

- "أتظنين أنك استغللتنا؟ نحن الذين استنفدناك. لقد اغتلنا شيئاً فيك: براءتك، شبابك، جمالك، صحتك وحياتك. لقد أخذناك ولم يبقَ لك شيء".

وأضاف فرانك وهو يلتحق بهم:

- "لم تعودي تمتلكين شيئاً".

ولكن، انبثق الآن وجها جيان وألبيرت كيفي. كانا يهددان تلك الوجوه ويطردانها. شاهدت كلوي وجه والدتها وتبينت الحنان المرتسم في عينيها، ونظرة والدها المتفهمة. لكنها تشعر بالتعب البالغ، والإنهاك. لم تعد تود البقاء في السقف الذي لم يعد يمثل لها المأوى من الحقيقة المرّة. فأغلقت عينيها، وتركت لنفسها العنان لتنزلق في الظلمات..

حدث ذلك اليوم.

مكسيكو، آذار 1997

 

بانغانتي والعُصــاة

تأليف: ماري كلير داني

(ولدت ماري كلير داني في Edéa في الكاميرون، وأكملت دراستها في الكلية العليا لجامعة الآداب في Yaondé ثم في انجلترا وألمانيا والولايات المتحدة إذ نالت الاختصاص في الترجمة من جامعة جورج تاون Georgetown بواشنطن. عُرفت بنظم الشعر وبنشاطها المسرحي، وكتبت أيضاً رواية. وهي ممثلة وقد أدت عدة مشاهد مع جماعة "اللآلئ السود" وقد عملت مترجمة فورية في الجمعية العامة بالكاميرون. وهي أم لأربعة أولاد.)

 

كنت بسنواتي الثمان أبسط هيمنتي على بانغانتي دون أن أفعل شيئاً سوى أن أمدّ ذراعيّ فوقها. وكنت أغطيّ مساحة الضيعة الصغيرة المغلفة بالغبار الصلصالي.

في الساعة العاشرة صباحاً، وفي موسم الحر، كانت الأرض تتخلى عن زينتها الليلية لتتشح بحُليَّها الصباحية. ففي تلك الساعة، يكون العطر الذي يغمر القرية الواقعة عند سفح الجبل في ذروته، فيما تمنح قطرات الندى التي تغطي النباتات والغبار، إحساساً عميقاً بالراحة.

إنها ساعة الاستراحة التي يتخللها الركض ولعب الكريكيت. وهو أيضاً الوقت الذي طالما أنتظرُه لألتهم الفطائر المحلاّة واستسلم لإنفاق كل ثروتي عليها. فقد كان مبلغ العشر فرنكات، هو كل ما أمتلكه في الأيام التي يمكنني أن أتفاخر حينها وأُعلن امتلاكي مبلغاً ما. كنت أعطي البائعة النقود، وأتوارى بامتنان وأنا مأخوذ بفطائري المفضلة.

يا لصباحات بانغانتي البهية!

كانت المدينة تشتمل على طريق معبد تمتد مسافة كيلومترين، ولا شيء أكثر من ذلك. وتصطف على أحد جانبي الطريق دائرة (الانضباط العسكري) وكوخ أستاذي، وصفُّ أختي الصغيرة وصفّي، وساحة كرة القدم، وحديقة الأطفال، ومفرزة الدرك العسكري مع مجموعة من المنازل التي تتضمن منزل نائب الحاكم والمفوّض والمفتش. أما من الجانب الآخر مقابل دائرة (الانضباط)، فتقع مكاتب السيد المفتش ومدير مدرستي، ثم، مدرستي وقصر العدالة، ومسكن الحاكم والعمدة ثم مقر الشرطة.

كنا نشعر براحة خاصة في منزل السيد المفتش. فهناك نغدو أطفالاً كالآخرين، أحراراً في الجلوس على الأرض والتهام فطائر البطاطا والفاصوليا، تلك التي كانت تقدمها لنا الأُم جوس قبل أن تطردنا من مطبخها لاحقاً. كنت أغبط أطفالها الذين يتناولون طعامهم بلا صحون، ولا منضدة، وهم واقفون، ودون أن يتجشموا عناء الالتزام بالقواعد. كنا نهرع خارج مطبخ الأم جوس ونحن نضحك، ونمضي لنأكل راكضين دون أن نخشى اتساخ المفرش. وبعد أن ينهكنا التعب، ويعلو أجسادنا الغبار والعرق من شدة الركض وكثرة القفز، نستسلم للتعب، ونطلق لأنفسنا العنان للإحساس بالسعادة في حفر المخابئ وصيد الصراصر. وعلى الرغم من أنني لا أذهب إلى أي مكان قبل الاستئذان من والدي، لكن يحدث في بعض أيام العطل أن أنسحب، أدخل خُفية إلى الحديقة الكبيرة حيث أتسلق أشجار المنغا والافاكاتو وبعد أن يفاجئني الجوع، أتوارى بين شتلات الطماطم التي كان لُبّها يمتلئ عصيراً.

يالها من ليالٍ عشتها في بانغانتي!

وبعد ذلك انقلب كل شيء رأساً على عقب.

ففي بانغانتي، لم يعد ثمة شيء حقيقي سوى: العُصاة.

كانوا يطلقون النار في وضح النهار على طلبة المدارس الذين يهربون، مثلما يستهدفون المدرسين. ويضرمون النار في المستشفيات، ويقطعون رؤوس الأطباء ويشقون بطون الحبالى. إن العُصاة لايكلّون ولا يتركون فرصة راحة لأحد، وبخاصة للحاكم، أبي، الذي أصبح نحيفاً وشاحباً بسببهم. وكانت رسائل التهديد تصل حتى إلى غرفته دون أن يعلم كيف تمّ ذلك، علماً أن أمي الغيور كانت وحدها التي تحتفظ لديها بمفتاح احتياطي لغرفته.

وبالنسبة إلي، أنا المتأثر بالسجين سيمو، كنت أعتقد بأن العُصاة يتمتعون بسلطة سحرية تمكنهم من عبور الجدران والدخول أينما يشاؤون دون أن يلاحظهم العساكر أو أفراد الحماية.

وأخيراً، قُبض على نائب الحاكم في أحد الكمائن.

عدُت في ذلك اليوم من المدرسة عند الظهر. كانت ثمة شاحنة عسكرية وبضع سيارات تقف قبالة مدخل المنزل. وكان الأشخاص الذين يخرجون منه يبدون بهيئة مهيبة.

كنت أقترب من الشاحنة، حين رأيت علماً وطنياً يغلف شيئاً ما.. طويلاً .. مثل... جسد إنسان.. اضطربت دقات قلبي: كلا! ليس أبي!

تسمرتُ في مكاني وقد اعترتني الدهشة، وبقيت صامتاً مثل سمكة كارب. اقترب مني السجين سيمو وقال بضحكة مصطنعة: "آه، رأيت؟ أليس كذلك؟ ولكن اطمئن، إنه ليس أباك. تعال وضَع حقيبتك".

لم أتحرك، فعاود القول: "ألا تصدقني؟ تعال، سأريك. تعال إذن لترى، أقول لك. ثم رفع السجين حافة العلم".

كان كل شيء مغطى بالدم وبالغبار. وبقي سر هذا الوجه المشوه بفظاعة سراً غامضاً بالنسبة لي .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2003 الأثنين 16 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم