قضايا وآراء

اشكالية الشكل في المنحوتات الفرعونية (النحت البارز) / زهير صاحب

 ولا قيمة لأي منها الا وفق النسق او النظام الكامن في نسيجية البناء التشكيلي. ونحن لا نميل في دراستنا التحليلية للرليفات المصرية، الى تفكيك مثل هذه المشاهد الخالدة في تاريخ الفن. لان ما هو فكري لا يجد تعبيره الا في تجليه المحسوس في قالب الوسيط المادي، والفكر والوسيط المادي قد يتلائمان ويتعالقان في بنية جمالية، او يتنافران حيث سقوط القيمة الجمالية والتعبيرية للعمل الفني التشكيلي. وما النظام الشكلي في كل تنوعاته الا بمثابة التجلي المحسوس لمثل هذه التعالقات الابدية بين مركبات التشكيل. هذا من جهة، ومن جهة اخرى، فان اية دراسة تحليلية تركيبية لنظم العلاقات التي تميز التكوينات التشكيلية، لابد ان تخوض بدراسة عوالم التكوين في رؤية تحليلية، ومن ثم تعيد تركيبها، بغية كشف خصوصيتها الابداعية، بشرط احترام الوحدة الكلية للتكوين في كل الاعتبارات النقدية وخصوصا السياقية منها. والتي تبحث في المرجعيات الفكرية واليات احالتها الى دلالات تشكيلية تعبيرية عن زمانها ومكانها.

وكما اسلفنا فان اهم سمة تميز شكلانية الرليفات المصرية، هو تعالقها مع الابنية المعمارية، ذلك ان مثل هذه الخطابات التشكيلية، تجد تعبيريتها ضمن فضاءات الابنية المعمارية، حيث تبث فيها جلال الروحي الابدي. واذا ما تجاوزنا هذه الخصوصية الوظيفية، فان مثل هذا التضايف، من شأنه ان يولد نظام من العلاقات المتفاعلة بين العناصر التكوينية للعمارة كمنجز تشكيلي والتكوينات الرليفات كبنائية تشكيلية. وهنا تكمن اشكاليات دراسة الفضاءات بين النظامين المتضايفين، فالفكر الابداعي المصري في زمانه ومكانه، كان واعيا لمثل هذه المشكلة الشكلية، والمتجسدة في نظام تجاور السطوح، والتي تسفر عن اشكاليات جماليات تفاعل الخطوط والسطوح والملامس ونظام الضوء والظل وانسيابية الالوان وانغلاق وانفتاح التكوينات في الرليفات. وهذا الوعي في العملية التحليلية التركيبية لبنائية التكوينات كوحدة كلية، ضمن سماتها المتقابلة، هو السمة الجوهرية التي تميز السمات الشكلية لمثل هذه الرليفات.

وفي دراسة انظمة الانشاء التصويرية للرليفات، والذي نقصد به، تلك الفكرية الواعية في تنظيم عناصر الموضوع ومفرداته على سطح ذي بعدين، بقصدية صياغة الحدث وادخاله عالم المرئيات، تجد الذات المحللة المركبة لنظم العلاقات منطقة اشتغالها في عدة انظمة تبعا لهيمنة انظمتها الفكرية الضاغطة والمحركة. ففي الرليفات ذات الماهيات الدينية والروحية. التي تعمل ضمن منطقة الميتافيزيقيا والالهي والمعبدي والجنائزي، تسفر الكهنوتية عن ذاتها، بنوع من البناء الهندسي للانشاء التصويري، حيث تصطف الاشكال بنظم من التقابل والتوازن والتماثل على جانبي المشهد، وقد حُسبت فواصل الابعاد بينها بابعاد هندسية منتظمة، لتُمليء بالكتابات الصورية الهيروغليفية ذات الدلالات السحرية والتي تعمل على تنشيط فاعلية الالهي في سايكولوجيا الذات المتاملة .

وحين تعمد الصورة الذهنية للفنان، الى ابداع التكوين، وفقا لما تعرفه عن الحدث في خزينها الذهني، كصورة مترسخة، مبتعدة عن قوانين المراقبة البصرية المحدودة الافق في انشاء التكوينات. فأنها تجتهد وتاول نظام ابداعي جديد، في جدلية روائية الحدث. ذلك انها تمثل الى تقطيع المساحة التصويرية الى عدد من الحقول الافقية المتتالية والمتتابعة، التي تضم وحدات التكوين الاساسية، ولعل هذا يوصلنا الى نوع من الرواية السيناريوية للحدث وفقا لتتابعه الزمني وكما آلت اليه في البنية الذهنية للفنان. انه الفعل الابداعي التحليلي التركيبي الذي يستند الى الكشف والتأويل والتأمل والخيال بدلا من بؤس المراقبة الحسية والتي لا توصل الى شيء سوى تقليد وتكرار فعل التجربة الخارجية. انه نوع من مسرحة الحدث المستند الى تلقائية ومصداقية الفكر القديم المشحون بفاعلية العاطفة والتي ان فرغ منها غدى واقعية ليس الا نوعا من روائية الحدث كما يحترمه (بول كلي) اكثر فناني الحداثة قربا الى فنون الاطفال والفنون البدائية. لقد سأل (فلكس) ابن كلي يوما اباه : ايهما الاجمل يا أبي رسومي ام رسومك؟ اجاب الفنان العظيم الذي قال عنه (بيكاسو) انه لا يتكرر كل مئة عام :- ان رسومك يا بني اجمل واعظم لانها تستند الى التلقائية، اما رسومي فانها تأتي ثانية، كونها تمر خلال العقل، فتفقد نقائها ومصداقيتها. وهذا النوع من التجريدات الهندسية، والذي يستند الى افكار (سيزان) في بنائية التكوين وصولا الى (موندريان) مهندس التجريدية الهندسية، يجد خصوصيته في تركيبة البناء الانشائي للحدث في مصر القديمة اسوة ببلاد وادي الرافدين، نوعا من العالمية التي تتعدى حدود المحليات نحو الكوني الذي لا يعرف التحديد على الاطلاق.

وعندما تحدد وظيفة الفن، الخصوصية البنائية للتكوينات النحتية على السطح ذي البعدين. تقرر ما هية التكوين بصدد الدلالة، على انه نوعا من التمثل البديل للصورة الاولى المعاشة، والمتمرحل نحو عالم الابدية الخالدة الموعود. في هذه المنطقة يشتغل نظام التكوين، على انه نوع من الفتش المفعمة بالحيوية ضمن فضاءاتها المعبدية او الجنائزية. فتميل التكوينات الى ان تؤدي وظيفة الصورة الفوتوغرافية في التجسيد والمحاكاة، فتتنوع انظمة الانشاء ما بين الانغلاق والانفتاح او الهرمية تبعا لطبيعة الحدث الصورية في التجربة الخارجية. وبشكل عام تحتاج رومانتيكية الحدث الحربي الى نظام انشائي منفتح ازاء جلال الحركة المنفعلة. ولكن حين يبجل التكوين سيادة العنصر المهيمن، فلابد من الانشاء الهرمي، وعندما ينغلق التكوين على ذاته ازاء احداث السايكولوجية المليئة بالورع الديني، فلابد من نظام الانشاء المنغلق على ذاته .

تتميز التكوينات في الرليفات المصرية، وكما هو الحال في الرسوم الجدارية، بظاهرة شكلية مهمة، عرفها الفكر المعاصر باسم التسطيح. والمقصود به تمثيل تغافل المنظور في بنائية التكوين. ذلك ان التكوين هنا يشتغل بآليات تعتمد على بعدين هما الطول والعرض وهذا التمظهر الشكلاني التي تشترك به الرليفات والرسوم الجدارية المصرية مع فنون الحداثة، وعلى الاخص مع الاسلوب الوحشي (Favusim) في نظام بنائية الصورة والذي تسعى به الحداثة، تهديم ايقونية الصورة، حيث انها تفهم التكوين على انه نظام من العلاقات اللونية على سطح ذي البعدين كما صرح بذلك (ماتيس) مرات عديدة، متأتي من تشابه التمظهرات الشكلية للتكوينات مع اختلاف القصدية. ففي الوقت الذي اصبحت به قصدية الحداثة واضحة بهذا الخصوص. فان قصدية الفنان المصري القديم متأتية من عوالم آليات الصورة الذهنية الفاعلة في بناء الحدث على السطوح النحتية، ذلك ان الصورة الذهنية، تُصمم التكوين وفقا لما تعرفه عن وحداته او مفرداته وليس كما تراه في واقعه المباشر. ولذلك تصور الشخصيات المهيمنة في الحدث بحجوم اكبر من الشخصيات الثانوية. وتمثل كذلك الاشكال القريبة من النظر بنفس حجوم الاشكال البعيدة عن النظر. وتظهر الاشكال واضحة في التكوينات داخل التكوينات المعمارية، دون ان تحجبها صلابة الجدران المعمارية عن النظر. بالاضافة الى الغاء التراكبات الشكلية التي تلغي حقيقة الاشكال. فان تقدمت احدى الساقين بعيدا عن الحركة في الاشكال البشرية فانها تكون دائما، الساق البعيدة عن النظر، لان تقديم الساق القريبة من النظر، من شأنه ان يخفي شيئا من تفاصيل الشكل. هذه الحيثيات التي تقرر نظام التكوين في الرليفات والرسوم الجدارية المصرية، هي التي تبرز اختلاف المنهج الفكري ما بين الذهنية المصرية في زمانها ومكانها، وفنون الحداثة، والتي نرجو ان تغزو كل فنوننا المعاصرة، لما فيها من آليات ابداعية تحليلية تركيبية في نظام الصورة التشكيلية.

دأب فنان النحت على السطح ذي البعدين في مصر القديمة، على تصوير الاشياء من اخص مظهر لها، ذلك المظهر الشكلي الذي يتضح به نظام الصورة بكل سماته التعبيرية المميزة. معتمدا في ذلك على نظام الصورة المترسخة في الخزين الذهني وهي جزء من التجربة الفكرية للفنان، بدلا من الصورة التي تلتقطها العين في المراقبة البصرية المباشرة. انه البحث والتأويل والكشف لتمثيل اكثر الاوضاع تعبيرا عن حقيقة الشكل في بنائيته التركيبية، نوعا من الصورة التي اسماها (برجسون) بالصورة المُثلى، والتي تقيم الاشكال على اساس ابتعادها او اقترابها منها.

فكان شكل السمكة مثلا يمثل جانبيا، باعتباره اخص مظهر لها مترسخ في الصورة الذهنية للفنان، وفيه تبرز خصائصها وتستبين حقيقتها. في حين كانت صورة التمساح او العقرب، ترسم من مسقط نظر علوي، باعتباره نظام الصورة الذي يؤلف ابرز صفات كل منها. ذلك ان طبيعة الفكر، كان ذات خصوصية تميل الى تمثيل الظواهر ومفرداتها في كلياتها، وفي اشكالها البنائية العامة الموحية بالمعنى او الدلالة المرتبطة بالشكل. انه البحث عن العناصر والاوضاع الحاسمة في مظاهر الاشكال، حيث يتم انتزاع عناصر المشهد بوقعها الخاص بالذهن، وكما آلت اليه في خزينه الذهني لحظة الرؤية الاولى، فالفنان قد رجع الى تصورات الذهن، على حساب الاحاسيس الاتية من العالم الخارجي.

ويمثل هذا النوع من التركيبات التجريدية، والمستندة الى نظام الصورة الحقيقية للشكل والكامنة في الفكر، في نظام تمثيل اشكال الوعول والثيران، فقد كانت صورها تمثل من الجانب، في حين تمثل قرونها من مسقط نظر امامي. وعند اخضاع هذه التقابلات الصورية لدراسة تحليلية تركيبية، يظهر ان خبرة الفنان وتجربته في تخطيط وحفر المظهر العام للاشكال، واداء تفاصيلها فيه من واقعية الشكل ودقة التخطيط والخبرة، لما تقترب من واقعية رسوم (كوربية)، الا ان تركيب نظام العلاقات التي تميز الشكل هو الذي يقرر نظام الابداع في الخطاب التشكيلي. وعند فحص القصدية القائمة على تحطيم ايقونية الشكل، يظهر ان التوليف او التركيب في نظام الصورة الجديدة، كان يفضل وضعا على وضع اخر، نظاما للصورة على نظام اخر، باعتباره الامثل في التعبير عن حقيقة الشكل بدلا من تمظهره الطبيعي في واقعية الاداء المستند الى تقليد التجربة الخارجية، حيث تمت الاستعاضة عن الاشكال الطبيعية باشكال اكثر تعميما، فالبنية الشكلية لمثل هذه الاشكال الرمزية، لم تكن خوضا في تفاصيل الاشكال المرئية، بل ترجمة للمعنى ونقلا للفهم.

سعى الفكر المصري في زمانه ومكانه، في نظام صورة الاشكال البشرية، في الرليفات، الى تحطيم نظام المشابهة والتشخيص مع مثيلاتها في الواقع. وبقصدية تبغي توسيع نظام العلاقة الرامزة والكامنة في بنائية العلاقة بين الاشكال ومضامينها، وذلك بالانتقال بالشكل الواقعي من صورته العرضية الى شكله الجوهري الخالد، الذي يبغي العموم واللامحدود بالرمز، وفي ذلك نوع من التسامي فوق مستوى الواقع لكشف المضمون الباطن للحقيقة. ذلك ان النحات كان يحرر الشكل الانساني من حالته البشرية ويوحده مع اشكال الالهة، لتوضيح تمظهر الانسان بمسحة الهية. حيث تدعو الحاجة الى التحرر من الانموذج وصولا الى البناء الرمزي الخالص في مخاطبة القوى الماورائية التي يصعب التكهن بطبيعتها، في بنية مترابطة تخضع لقوانينها ونظمها الخاصة، وتكفي نفسها بنفسها، وتستند الى كم متداخل من العوامل السايكولوجية والمايثولوجية والحاجات والمتطلبات الاجتماعية، باعتبارها تمثلات فكرية لهذه المدلولات او اشارات اليها.

ونظام الصورة البشرية في الرليفات المصرية، هي ارتباط الشكل الجانبي للوجه مع الصورة الامامية للعين، والوضع الامامي للصدر بالهيئة الجانبية للساقين . ويمكن تعليل وكشف هذا النظام بدراسة تحليلية، هو ان الفنان في مصر القديمة، كان يمثل اكثر الجوانب تعبيرا في كل عنصر من عناصر الشكل، معتمدا على ما يعرفه او يفهمه عن الشكل، بدلا من تمثيلها كما تراها العين في مراقبتها المباشرة. فقد كان الفنان يحرر نظام الشكل بما يتفق مع نزوعه الذهني، ويحمل الشكل اقصى طاقاته تعبيرا، فاعطيت الحقائق الطبيعية تفسيرات عقلية، ورفع العضوي بموجبها لمستوى الفكر، فاكتسبت مثل هذه الاشكال دلالات روحية في صميم بنائية الفكر الاجتماعي.

ان مظاهر الاختزال والتبسيط التي تميز مثل هذه التركيبات او التأليفات الشكلانية، مردها الى ان الوعي او القصدية في آلية عمل الصورة الذهنية للفنان، لم تكن خوضا في تفاصيل الاشكال المرئية. بل ترجمة للمعنى ونقلا للفهم، وذلك يبرز في نظام الشكل، بتمثيل الدائم والعام والخاضع لقوانين ثابتة، وهو النظام الذي لا ينبغي تفريد العام ليعبر عن المفاهيم السامية. ولعل ذلك يفسر الانتقال في النظام الشكلي من صورته العرضية الى نظامه الجوهري الخالد الذي يبغي العموم بالرمز بدلا من محدودية الاشكال الواقعية.

ان البنية الرمزية، هي اهم ما يميز التشكيلات الابداعية المصرية، حيث بدأ الفكر يوجد لذاته مجموعة كبيرة من الدلالات هي نظم من الرموز، ينظم بها معطيات الخبرة المتراكمة التي امتلكها. فكانت نظم اللغة وانساقها والفنون التشكيلية والاسطورة والاعمال الملحمية، بمثابة الوسيط بين ما هو معاش، وبين ما يحيا في الواقع الروحي ذي الطبيعة الميتافيزيقية، وكان لهذه المجاميع الرمزية اهمية اجتماعية تنظيمية لماهية الفكر، فهي كأداة تواصل لم تكن اعتباطية، ذلك انها تنقل المعنى ذاته لكافة الافراد، وسرعان ما وجدت هذه الرموز طريقها نحو الفن مما اكسبها ترسخا وثباتا.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :207 الجمعة 20 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم