تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

شعرية العنونة .. قراءة في ديوان خالد أبو خالد: اسميك بحرا..اسمي يدي الرمل

هذه الغواية التي ترفع أشرعة لرحيل المتلقي، وتفتح نوافذ لتأمله، وأبوابا لولوجه…

أهي عملية اختيار أم اكتشاف أم مشاكسة تلك التي تدفع المبدع إلى حسم الأمر بعد تأمل ومفاضلة وتدقيق ومقارنة من اجل وضع العنوان موضع الصدارة من نصه..

ليس هذا هو شان هذه الدراسة، فقد اختار الشاعر خالد أبو خالد عنوانات اثنتي عشرة قصيدة وجمعها في ديوان وضع له عنوانا هو.. (اسميك بحرا..اسمي يدي الرمل)(**) وهذا العنوان هو عنوان القصيدة الخامسة من قصائد الديوان، وإذا كان لكل مبدع طريقته في اختيار عنواناته، ولكل عنوان ظروفه وآليات اشتغاله من حيث علاقته بالنص أولا وبالمتلقي ثانيا، فان هذه الدراسة قد حددت مهمتها في قراءة عنوانات الديوان وقصائده قراءتها الخاصة التي ربما فتحت أفقا آخر على قراءات لاحقة..

والعنوان من عنون الكتاب وعلونه، وهو مشتق من المعنى وفيه لغات.. قال ابن سيدة: العُنوان والعِنوان: سمة الكتاب، وعنونه عنونة وعنوانا: وسمه بالعنوان ..وفي جبهته عنوان من كثرة السجود: أي اثر..(1) وسمي بالعلوان لانه يعلو النص، وبهذا فهو لم يعد عنصرا تابعا بل صار عنصرا بنائيا بعد أن أولته المنهجيات الحديثة اهتمامها الكبير يوم حولته من عامل تفسير مهمته وضع المعنى أمام القارئ إلى مشروع للتاويل، فقد أصبح نصا مكتوبا يتطلب جماليات خاصة من حيث التركيب والخط والدلالة، وقد تتعدد الإشارات الدلالية للعنوان حسب توظيف النص والقراءة معا؛ لأنه مفتاح تأويلي يومئ إلى أمر غائب في النص، على القارئ ان يبحث عنه لاكتشاف البنية المولدة للدلالة والجديرة بأولية التحليل..(2) فالعنوان إذاً بنية صغرى، وهي بنية افتقارأكثر الأحيان لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي هي النص المنضوي تحت العنوان سواء كان النص قصيدة ام قصة ام رواية، فهو يغتني بما يتصل به من هذه النصوص ليؤلف معها وحدة تامة على المستوى الدلالي، وبسبب من وظيفته التأويلية كما يقول إيكو فان أحدا لن يستطيع الإفلات من ايحاءاته التي يولدها، وعليه فان العنوان لن يفهم منقطعا عن نصه، ولا تدرك اشاراته الا عبر العلاقة بينهما(3). وهكذا، وانطلاقا من هذه الأهمية فقد صار له وظائف ومهمات حصرها جيرار جينيت في اربع وظائف هي: تحديد هوية النص، والوظيفة الوصفية، ووظيفة دلالية ضمنية او مصاحبة، والرابعة هي الوظيفة الاغرائية، حتى ان ايكو يدعو إلى عنوان يشوش الأفكار ولا يسجلها، وهذه دعوة لإثارة القارئ وتفعيل دوره من خلال اللبس والتضليل والحيرة التي يثيرها ذلك التشويش من اجل تأويل اكثر ثراء..(4) فالعنوان علامة، وبيرس يعد العلامات نائبة عن موضوعها،وهو يميز بين الموضوع المباشر والموضوع الدينامي الذي هو مجموع السياقات الخارجية، التي تنفتح بشكل مباشر في الممثل، فالمدلول المباشر للعلامة هو الذي يشكل منطلقا لعملية التأويل، بينما يقدم المؤول الدينامي جميع المعارف. التي يمكن ان تسعف في التأويل والتي لها علاقة مباشرة بالعلامة، اما المؤول النهائي فهو الذي يمنح أنظمة تأويلية تتخذ في اشتغالها أشكالا متعددة وفاعلة حسب انفتاحها على السياقات الخارجية المرتبطة بالنظام العلامي المراد توصيفه..(5) ولعل في مجال الشعر والشعرية ما يمنح هذا النظام التأويلي فاعلية اشتغال بارعة، ذلك ان التكثيف والإيحاء اللذين يميزان الشعر يعدان من أخصب ميادين اشتغال هذا النظام، لكننا بالرغم من ذلك نجد العنونة واقعة قلما اهتمت بها الشعرية حسب جان كوهين، لان ذلك يعود برأيه إلى ان الشعر يمكنه الاستغناء عن العنوان والتسمية ما دام مبنيا على اللا اتساق واللا انسجام، ويفتقر إلى الفكرة التركيبية التي توحد شتات النص المبعثر، على العكس من النثر الذي يقوم على اسس منطقية..(6) ومع ذلك فقد أولى علم العلامات أهمية كبرى للعنوان كونه مصطلحا إجرائيا ناجعا في مقاربة النص الأدبي، ومفتاحا أساسيا يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها، ويستطيع العنوان ان يوحي بتفكيك النص من اجل تركيبه عبر استكناه بنياته الدلالية والرمزية، وان يضيء لنا في بداية الأمر ما أشكل من النص وغمض، انه مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي، حتى ان كوهين عده مسندا إليه إذ عد النص مسندا، بينما عده روبرت شولز هو خالق النص الأدبي ومانحه الهوية(7)، انه رسالة لغوية تعّرف بتلك الهوية وتحدد مضمونها، وتجذب القارئ إليها وتغريه بقراءتها، وهو الظاهر الذي يدل على باطن النص ومحتواه، فهو نص صغير يهدف إلى تحقيق وظائف شكلية وجمالية ودلالية تعد مدخلا لنص كبير يشبه بالجسد ورأسه العنوان، فهو من منظور علم العلامات علامة لغوية ذات دور علامي مهم بالنسبة للنص الذي يتصدره..(8) وتتراوح العناوين عادة من الحرف إلى المفردة إلى الجملة، إلى جمل متعددة، ويبدو أن مقتضيات الإشارة إلى ما يدور داخل النص هي التي ستحدد ذلك في تركيبة أي عنوان، وفي تشظيات دلالته اذ تشكل العناوين في الغالب مهيمنات دلالية تستقطب كل محاور النص.

? وردت عناوين ديوان "اسميك بحرا، اسمي يدي الرمل" جميعها بتركيب جملي، وعلى الشكل الآتي:

1-بيروت 78.

2-حوار خاطف مع فتى فلسطين.

3-تلويحة للوجه الآتي.

4-للسيدة الكنعانية ارفع هذا النخب.

5-اسميك بحرا، اسمي يدي الرمل.

6-يا ميجانا صبرا، يا ميجانا يا ريم.

7-المسافة بين غريبين، والفتى من رماد.

8-رسالة إلى ليلى الجنوب.

9-أحزان الأيام الأخيرة.

10-توقعات الولادة الثانية.

11-مرثاة على زجاج النافذة.

12-موسم الصعود إلى الفجر.

ويمكن تقسيم هذه العناوين على الأنماط البنائية الآتية:

1- جمل اسمية تامة ومثالها:

حوار خاطف مع فتي فلسطين والمسافة بين غريبين، وقد يتحول العنوان الثاني إلى المجموعة الثانية حسب التاويل القرائي له.

2- جمل اسمية حذف احد طرفيها، والمحذوف هنا وبرؤية الدراسة –هو المبتدأ، وقد يتشكل المحذوف من مبتدأين تقديرهما: هذه هي المسافة بين غريبين والمراد باسم الإشارة محتوى القصيدة، وينضوي في هذه المجموعة أكثر من نصف العناوين حيث قدر لها مبتدأ محذوف هو اسم إشارة مهمته الإشارة إلى متن النص، وفي ذلك تأكيد للوشائج النازلة والصاعدة ما بين دلالة العنوان ومضون النص وأرقام هذه العنوانات هي (1، 3، 8، 9،10، 11، 12)، وقد تتوجه القراءة نحو تقدير خبر غائب فيكون السياق: المسافة بين غريبين –هذه- او بيروت عام 78 هذه، وهكذا:

3- جمل فعلية فعلها مضارع:

للسيدة الكنعانية ارفع هذا النخب ، وطبعا بإعادة الجملة لمعياريتها : أرفع هذا النخب للسيدة الكنعانية ..

اسميك بحرا، اسمي يدي الرمل.

4- جملة إنشائية قائمة على النداء:

يا ميجانا صبرا، يا ميجانا يا ريم..

ان نظرة متأنية لعنوانات الديوان تؤكد هيمنة الجمل الاسمية بنسبة 9/12 وهذا ما يشير في ظاهره إلى نوع من الثبوت والاستقرار، ولدى الفحص الدلالي للتشكيل العلامي لهذه العنوانات، نجد ان الثبوت الذي تفرزه معظم الجمل الاسمية المشار اليها هو ثبوت تمويهي لان دلالة المفرادات المتشكلة يوحي معظمها بحركية داخلية كامنة تمكن الشاعر من تأسيسها بألغام دلالية فاعلة في خفاء وسرية لا يلبثان ان يعلنا عن حضور واضح ليس في العنوان حسب، بل وفي مضامين القصائد كذلك، فاسمية جملة بيروت 78 توحي بثبوت داكن يحمل مكابدة العذاب المتمركز في بيروت ذلك العام، لكن الدخول إلى متن القصيدة يواجهنا بانفراجات متعددة:

وبيروت

في قلبها جمرة من ندى

وزنابق من شجر مشرق

ونخيل وتوت … ص10

وهكذا تؤشر الوحدة الدلالية الكبرى فجوات واضحة لرؤى مستقبلية لا يرقى إليها الشك، فبيروت برغم الحرائق تبدو هكذا في القصيدة: ميدانا لتداخلات شتى، يلتحم فيها اليأس بالأمل، والحلم بالمجزرة، وتنتهي القصيدة نهاية مفتوحة:

وكن قمرا شاسعا كالسماءِ

وكن ما تشاءْ

فان الجرار التي طفحت، طفحتْ

والصبايا تحجرنَ

واتسع الليل حتى غدا خيمة من خواءْ …

فاتساع الليل بهذا الشكل يشير إلى فضاء احتمالي تكمن في داخله إمكانية الانحلال والتلاشي ليغدو الانفتاح على أفق جديد واردا، فالليل اذ يتحول إلى خواء تكون عناصر الظلمة في موقع التفكك وحينها يسهل الانقضاض عليها، مما يعطي فرصة لحلول النور ومؤازراته الدلالية.

اما عنوان (حوار خاطف مع فتى فلسطين) فبالرغم من اسمية جملته فان ما توحي به مفردات الجملة يؤكد فاعلية من نوع خاص، ففي الحوار حركية وفي مفردة خاطف نوع من التوثب السريع، وفي مفردة (فتى) تكمن فاعلية الشباب وما فيه من فتوة وحياة، ومفردة (فلسطين) توحي بدلالات عدة اولها الصراع واخرها المستقبل. ويتآزر كل ذلك ليشكل فاعلية نصية تتحرك نحو تاسيس شعرية توحي وتتألق بما سياتي من خلال ومض دلالي يكسر حدود المتوقع المعجمي وما يؤطره المعنى خارج الشعر، ذلك الومض الذي ينبع من اعمال الشعر الذي يعتنق الخطف والايحاء والدهشة وتفجير الكثافة التي شكلتها وبلورتها بنية اللغة الشعرية وهي تتوهج لتعبر بتجربتها الفنية نحو الاخر.

وفي عنوان (تلويحة للوجه الاتي) نلحظ حركتين متصادمتين، واحدة صادرة عن، وهذا الصدور يكمن في التلويحة واخرى آتية من (الوجه الاتي)، ومن هذا الصدام التواصلي يصدر متن القصيدة.

(في المسافة بين غريبين والفتى من رماد) يكمن مشروع لقاء، ففي المسافة التي تنفي العلاقة الانسانية المأمولة اغراء دائم بالسعي من اجل نفي الانفصال، وفي امتداد المسافات يشتعل هاجس التواصل، ومن ذلك الهاجس يبدأ النضال ضد مشاريع التمزق والاغتراب والعزلة. إن جملة (والفتى من رماد) جملة تمويهية توحي باحتراق الفتى ونهاية مشروع الثورة بهذا الرماد الذي يشير إلى نهاية المطاف، لكن المغامرة الشعرية لا تنتهي عند الرماد في شعر المقاومة بل تبدأ منه حيث تعاود الكرة إذ تعيد صنع إنسانها الثائر من جديد، ليكون مشروعا للمكابدة والنهوض مرات أخر، حيث تعاود العنقاء من ذلك الرماد فاعليتها من جديد حينما يسعى ذلك الثائر إلى الملاءمة بين عكازه والنجوم ولا يتعب لأنه حاضر في الغياب:

موغلٌ في الندى

موغل في العذاب

فليكن جسدا وادعا كالشهيد المندى

من النهر للبحر.. يرصفنا

واحدا، واحداً

ليقوم ويمضي من البحر للبحرِ

يلقي علينا السلام

ويرشقنا بالحمام.. ص 92 – 93

إن اللبس النحوي الكامل في إعراب الواو التي سبقت الفتى، ما بين الحال والاستئناف انما هو لبس مهمته توسيع الدلالة وإثراء تشظياتها.

في عنوان (رسالة الى ليلى الجنوب) تنهض فاعلية التناص شكلا ومضمونا ليعمل اسم العلم (ليلى) وما يحمل من مرجعيات صبابة وانفصال واتصال وشوق ووجد وحب وموت ، استطاع ان يحرك حقبا زمنية طويلة بالأخذ والرفض والجدل حول الأصول والجذور بحثا عن الحقيقة، وسواء أكانت قصة ليلى والمجنون قصة حقيقة ام من صنع خيال الشعر والأدب والرواة فإنها استطاعت ان تشكل محورا دارت حوله أقنعة وتقنيات أثرت الشعر وأججت موضوعاته وعمقت رؤاه، وذلك من خلال النسيج الفني الذي حيك حول تلك القصة. وليلى هنا تغادر حكايتها المعروفة لينسج النص حولها قصته الأخرى المعاصرة ، وينحرف بانعطافة شعرية نحو التعبير عن رؤى جديدة هي رؤى الارض والقضية والثورة والوطن ومقاومة العدوان، إنها المعشوقة المفداة التي تُرمى عند قدميها القرابين والنذور.

وتنهض عوامل السلب والانفصال في عنوان (أحزن الأيام الأخيرة) لكنها ما تلبث في المتن ان تنكفئ لتفسح مجالا لكل أنواع التواصل في لغة مشرقة تحطم قيودها وأغلال سجانيها لتصنع جمالياتها الجديدة:

فوداعا

أيها العاديُّ والمألوف

أو يا أيها المسكون بالتبغ وبالخمر الرديئة والخراب

ووداعا لطيور خلعت أجنحة البرق

وللقهروعذر الأصدقاء

ووداعا لجدار الكلمات .. ص: 118

إن الأحزان المعتمة التي تبدو في عنوان القصيدة إذا هي إشارة مضللة لأنها تنحل في المتن لتتحول إلى مشروع للحلم والحرية وانفراجات على غد تصنعه الثورة من اجل ان يكمل الشاغر أغنيته المجيدة:

إنني آتيك من مدن محرمة.. وقلبي..

مشرعٌ للضوءِ

والبحر مواويلي، وأنتِ

جبل منكسر في الشمس، والوقت رصيف

وأنا امشي بلا ظل

ووجهي جبل يبحث عن منفى وورد ودوالي.

اما تشكيل (توقعات الولادة الثانية) ففيه أكثر من حركة تنهض به مغادرة أطر سكون الجملة الاسمية، ففي التوقع انتباه وتوجس ورصد وإحالات ، وفي الولادة يكمن الجديد الآتي، وفي (الثانية) تكمن استمرارية الخصب من خلال مغادرة فعل الولادة الاولى الى اخرى، وعنوان (مرثاة على زجاج النافذة) لا يخفي الا سكونية تمويهية كذلك، فالزجاج حاجز شفاف قد يعكس وراءه صداما وصراعات ومجازر، ويشف عن انتصار وانكسارات، وفي (موسم الصعود الى الفجر) تكمن بشارات عدة، وفي الموسم ثراء وغنى ومتعة، وفي الصعود علو وحركة وسمو، والى الفجر: توجه نحو الهدف حيث النور والظهور والهوية.

ان فاعلية الثورة ونبض الإنسان وإرهاص التطلع نحو حياة خالية من القسر والاستلاب، والتوق نحو مستقبل يتجاوز الظلم وعذابه، كل ذلك إذ يكمن في صميم الجمل الاسمية إنما يعني حقيقة التضحية في التحرك نحو تلك الأهداف، كما يشكل إشارة إلى معاناة إنسانية تبذل في سبيل التحقق، بينما تعمل الجمل الفعلية على جريان الحدث في الزمن، كما تعمل على انسايبية الزمن بيسره وعسره مما يخفف من المعاناة الإنسانية ويعجل من عملية الوصول والتحقق.

في عنوان (يا ميجانا صبرا، يا ميجانا يا ريم..) يتجلى التناص في تعالق فني فلكلوري مأساوي دموي، فالميجانا غناء شعبي واسع الانتشار في فلسطين وبلاد الشام، وهو غناء ينهل من شجى الحياة القروية في بساطتها وعمقها، وأهميته هنا متأتية من انه استطاع ان يحفظ تراث الشعب الفلسطيني في أفراحه وأتراحه وحزنه، في وجده وحبه ومحنته، كما استطاع ان يعبر عن معاناة مرحلة الشتات والتشرد والمجزرة. ان ميجانا صبرا هي موال وجع ودم الفلسطيني الذي ذبح في مخيمه وهو صامد، والريم علامة غزلية يطيب للشعر العربي ان يصف بها جماليات المرأة في أكثر من سمة لعلّ أميزها الخفة والرشاقة وسعة العيون.

ان جماليات الإيقاع في هذا العنوان لا تتجلى في تكرار مفردة الميجانا فحسب بل وفي الانعطاف من الألف في (صبرا) نحو الياء في (ريم ..) فضلا عن تكرا حرف النداء ثلاث مرات وما في ذلك من ضربات يحققها التنبيه الكامن في النداء والحركية التي يشيعها الاستدعاء في هذا النوع من الخطاب، يضاف إلى ذلك تكرار الألف الطويلة التي تتسم بوضوح صوتي عال ثماني مرات مما جعل العنوان يتسم بالجهر الذي ينسجم ومتطلبات الغناء في الميجانا. ان الوقوف الساكن على ميم (ريم) في النهاية تعبير عن عجز لغة الكلام حيث لا يبقى ما يعبر عن عمق المأساة الإنسانية غير الصمت، هي لوعة المذبوح اذن تلك التي تمزج الغناء بالمجزرة، وهو ليس أي غناء، لانه نشيد شعب كامل يرفض ان يموت مجانا، ولذلك يموت بتفاؤل الواثق بالغد، هذا ما اراد التناص ان يقوله، وهذا ما يعنيه حضور الميجانا يالذات، ان حضور هذه المواويل يعني حضور الشعب، حضور إبداعه وحضور الأشياء اليومية الصغيرة الأليفة في حياته، هذا الحضور الذي يقف باذخا بوجه مشروع الموت والإبادة، وحتى صبرا – المجزرة لا تحضر هنا مجردة عن تراثها القريب في مخيم آمن يزخر بالحياة، فضلا عما في جذر المفردة معجميا من إرادة الصبر والتأكيد على الصمود.

في عنوان (للسيدة الكنعانية ارفع هذا النخب ..) ينزاح الجار والمجرور متقدما على الفعل اهتماماً بما حقه التأخير في المعيار النحوي، حيث تكمن سيميائية التبجيل في علامات ثلاث هي تقدم شبه الجملة الى مطلع العنوان، وما يكمن في مفردة (السيدة) من جلال وسيادة وأنوثة خصب وانعتاق ، وما تتضمنه جملة (ارفع هذا النخب..) من معاني الإكبار والاحتفاء. ان السيدة الكنعانية رمز لفلسطين، هذه الكنعانية الآتية من بعيد في أصولها العربية لتستقر على ارض فلسطين عبر آلاف السنين.

عنوان الديوان – عنوان القصيدة

 

اطلق الشاعر عنوان القصيدة الخامسة في المجموعة (اسميك بحرا، اسمي يدي الرمل..) على الديوان، وذلك واحد من منهجين متبعين في تسمية المجاميع الشعرية والقصصية، أولهما ذلك الذي يضع للمجموعة عنوانا خاصا بها غير عنوانات القصائد، عنوانا تكمن في داخله مهيمنات دلالية تجتمع في فضائها الخيوط النسيجية الآتية من متون القصائد كلها، وثانيهما هو ان يختار الشاعر عنوان إحدى القصائد لتكون اسما لديوانه حينما يكون ذلك العنوان قادرا على احتواء تلك المهيمنات، وهذا ما فعله الشاغر خالد ابو خالد في تسمية هذا الديوان، ومن خلال مقاربة هذه الدراسة لتشكيل العنوان المدروس نسجل الملاحظات الاتية:

1. التسمية واحدة من مقاليد خلافة الإنسان في الارض، وسر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات وهي موهبة السماء لآدم كي يسمي الأشخاص والأشياء المحسوسة وهي مقدرة ذات أهمية لا يمكن إدراك قيمتها إلا بتصور غيابها او فقدانها في الحياة اذ كيف كان الإنسان سيفعل فعله في تأثيث حياته وخياله وتصوراته لو لم يعرف الرمز بالأسماء للمسميات، وكيف ستتم مشاهد تفاهمه وحواراته مع الآخرين لو لم يمنح هذا السر المهيمن، سر الإشارة الى الأشياء حسية كانت ام ذهنية" وعلم ادم الأسماء كلها.. البقرة (31) اذ وقع فعل العلم على مفعولين أولهما ادم من دون المخلوقات كلها لحاجته الماسة لذلك، فالملائكة لا حاجة لهم بهذا العلم لانه لا يقع ضمن وظائفهم وعليه فلا حاجة بهم لمعرفته ولذلك أعلنوا عن عجزهم بان جهروا بتسبيح الله العليم اذ سئلوا عنها.. (9)

2. الفعل المضارع (أسمي) من (سمى) فعل رباعي مضعف العين دال على تكثيف المعنى وتكثيره وزيادته كما ونوعا، والاسم: اللفظ الموضوع على جوهر او عرض لتعيينه وتمييزه من سواه (10).

3. جذر الفعل هو (س. م. و) من السمو والرفعة وعلو الشأن وهو وان انعطف عن الأصل الى معناه الجديد الا ان المفردات بانعطافها عن الأصل تبقى حاملة " شيئا من اصولها الدلالية يتحكم بتوجيهه السياق وطبيعة القراءة معا.

4. ان نسبة الفعل (أسمي) الى ضمير المتكلم يزيده فاعلية، وكون الفاعل مضمرا يزيد الحدث حركية، ويمنحه حيوية داخلية متأتية من قدرة الـ (أنا) على الهيمنة والجذب والتوجيه ولا سيما في الشعر الغنائي الذي اكتسب روحا درامية كشعر المقاومة.

5. اتصال الفعل بكاف المخاطب مفعولا به الى جانب ضمير المتكلم المستتر دليل على تلاحم المتكلم بالمخاطب وتعبير عن التواشج ما بين الذات الشعرية المسمية وبين المخاطب – المسمى.

6. الفعل المضارع يفعل في الزمن الحاضر ويحتوي على الزمن الآتي او يجري نحوه، والحاضر هو الزمن الوحيد الذي يمكن الإمساك به على وجه التحقق فالماضي محترق منقض والمستقبل غائب ، ولذلك كان العنوان موفقا في التشبث بأبنيته لانه من خلال هذا التشبث وحده سيعمل على امتلاك الآتي..

7.ان التمويه الشعري هو الذي دفع الشاعر الى إطلاق ضمير الكاف المتصل دون حركة تشير الى هويته اهو مؤنث ام مذكر، وقد تفحصت هذه القراءة حرف الكاف في (اسميك) أينما وجدت المفردة في الديوان، فلم تجد كسرة واضحة ولا فتحة ظاهرة، ولذلك صارت القراءة حرة في تأسيسها هوية الخطاب وجنوسته.

8.ان الفعل (سمى)من الأفعال المتعدية الى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر، وعليه فان عملية التلاحم ستغدو حقيقية من خلال التشبيه البليغ الذي يشكله التركيب: أنت بحر

9.ان تفسير الضمير بهوية المؤنث قد يشير الى : الارض، الحبيبة-المرأة، الثورة، القضية، (القصيدة) وما يدور في افلاك هذه المفردات، بينما تشير هوية المذكر الى: الوطن، الثائر ، المقاتل ، المستقبل …

10.قد يشير البحر الى كل ما يدور في فلك عوامل الاتصال والانفصال من الحرية والحب والجمال وحتى السطوة والقطيعة والموت، وغير ذلك مما يلوح لعملية التأويل.

11. ان تكرار الفعل (أسمي) تكرار لفاعلية فعل التسمية مع التأكيد على الضمير المستتر (انا..) العامل في الخفاء بجدلية وعمق، والمتسرب في أعماق النص محركا جذوره الغائرة في صميم الثورة المتصدية للقسر والخراب ولعوامل تغييب الإنسان ومصادرة حقوقه وتأكيد على هويته بكل ما تحمل الهوية من سمات الانتماء وعوامله ، وتكرار الفعل بهذا الشكل دون حرف عطف دليل على تواشج الجملتين حتى لا مكان لحرف ربط بينهما، فالعنوان بهذا التركيب علامة على الحسم ووضوح المسميات وهذه الصيغة الفعلية محاولة لتحويل مدلول التسمية الى توصيف وجودي يمنح الأشياء هويتها ويؤكد حضورها، فالتسمية تأكيد للهوية، وتشخيص للمسمى واثبات وجود للذات في اللحظ التاريخية، كما انها مقاومة لمحاولات هدمها وتضييعها وتغييب سماتها الدالة.

12.اليد أداة الفاعلية والكشف والتغيير، أداة الفعل الثوري المقتدر، وهي اذ تكون رملا فذلك يعني في احد من تأويلاته العطاء و الخصب والقدرة على التواصل والتجدد، فالرمل ظاهره الهشاشة والتفكك وفي باطنه تكمن قوة الخصب والنماء والطاقة على الإنبات ، وبين البحر والرمل اغراء دائم بنشوة العناق والتلاحم وسطوة الحب والجدل الدائم ، بين البحر والرمل ما بين الظمأ والندى وما بين اللهفة والوصال وهذا ما يجمع جملتي العنوان في شبكة دلالية واحدة، لكن أليس في هذا التركيب غواية جديدة ما تلبث أن تنكشف للمتأمل عن تمويه شعري آخر إذ يتبدى زلال البحر المأمول للظامئ عن ماء أجاج لا يروي عطشا ولا يزيد ملحه المخاتلُ الظمآنَ إلا حسرة وخيبة أمل ..! هل يفضي التشكيل العلامي للعنوان إلى معضلة انفصال من طراز خاص مفادها انفصال الاتصال، وكيف السبيل إذن إلى دحر عوامل الانفصال وتطهير البحر من أدرانه التي تهدد لهفة الرمل وتصدع نقائه هذا ما سيحاول الكشف عنه نص القصيدة التي حمل اسمها الديوان، ثم من سيكتب الآخر البحر يكتب الرمل ام الرمل هو الذي سيشكل البحر إذ يكتبه.. يد الشاعر- الرمل هي التي تكتب القصيدة، ام القصيدة هي التي تكتب الشاعر..؟!

13.يعلن العنوان عن تواز واضح في التركيب ولان التوازي في رأي ج. مولينو وج. نامين هو بمثابة متواليتين متعاقبتين أو أكثر لنفس النظام الصرفي والنحوي المصاحب بتكرارات إيقاعية: صوتية أو معجمية دلالية فهو يتضمن خاصيتين متلازمتين، الأولى انه علاقة تماثل تتم على مستوى أو مستويات لسانية بين طرفين أو أكثر والثانية أن العلاقة القائمة بين هذين الطرفين تنبني على مبدأين هما التشابه والاختلاف ما دام كل طرف يحتفظ على الرغم من التشابه بما يميزه عن الآخر.. (11).

14.إن تشكيلة العنوان تشكيلة متواشجة يتداخل فيها حوار الطبيعة بعناصرها الأساسية  (الماء – الأرض) بحوار الإنسان جسداً وروحاً وفاعلية، وهو حوار يتداخل فيه الزمان بالمكان، وينشد فيه المكان سمفونية الزمان الشاسع الممتد الجذور في أعماق الرمل والبحر وفي صميم امتزاج صوت الشاعر بصوتيهما معا، ولعل هذا ما يفسر غياب العنوان المفرد الذي يشير غيابه الى دلالات عدة أولها غياب الصوت الواحد والدلالة المفردة والدعوة الى جمع وحوارية دائمة يتطلبها الواقع المحاط بالعدوان ، وليس آخرها التداخل الذي يشير الى التعدد ويعلن عن تواشجات دلالية مفتوحة على احتمالات شتى والمتأمل في متن هذه القصيدة يجد ان اللغة التي يتخلص مجدها في قدراتها المدهشة على احتواء الزمن والإمساك بالأشياء ضد الاندحار والفناء بحيث قامت مقام عشبة الخلود يوم حفظت للإنسان مكابدته وأمجاده في صراعه النبيل ضد قوى الشر وعوامل القهر استطاعت هنا ان تحرر الشعري من سطوة السياسي بمرونة وطواعية بحيث تحولت الصور الشعرية من خطها الأفقي في المستوى التركيبي الى بنية عميقة تداخلت فيها الأصوات والإيقاعات والرؤى بحيث صار هذا التداخل الذي ينثال في صيرورة متنامية هو الرصيد الحركي لقصيدة شعر المقاومة الفلسطينية وهي تنسج نموذجها بجماليات فعلها الشعري اذ تنهض بتلاحم مدهش ما بين الفكري والجمالي بحيث لا يمكن استلال احدها من الآخر، لأنهما يشكلان وجودا واحدا يرقى على الانفصال.

ان سلسلة الصور الشعرية التي كانت تشكل قصيدة المقاومة في مراحلها الأولى تغادر أفقيتها من خلال استبدال العلائق القريبة بين الدال والمدلول بعلاقات جديدة متشابكة صنعها الواقع المركب الذي يخطو كل يوم من معقد الى اكثر تعقيداً بحيث صار الخيال بسمته التركيبية وبما يغذيه من نسغ ثقافي عميق الجذور هو المهيمن على صياغة العلاقة الجديدة بين الدوال ومدلولاتها بعيدا عن السطوة السكونية لعلائقها التراثية والمعجمية، وهكذا ارتقت القصيدة الى مستوى جديد مفارق لما كان عليه من قبل. ان تحرير المفردة في الشعري من الاستقرار الماضوي الذي أثقلها، وإطلاقها من جديد حرة في سماء الفن لهو النقلة النوعية التي عاشتها القصيدة العربية الحديثة، كما انها بداية التحديث النوعي الحقيقي الذي ابتدأ بالوعي الجديد لأسرار اللغة العربية القادرة دوما على التواصل مع الحياة والأحداث والأشياء، المتحفزة ابدا لإنتاج دلالات شتى من مختلف أنواع التشكيل،والقادرة على دحر كل ما هو فاقد لنبض الحياة وداخل في غبار العقم والنمطية، ولعل اهم سمة لغوية في شعر هذه المرحلة تلك القدرة على انسنة الاشياء والجمادات ومظاهر الطبيعية والحلول فيها من خلال الأقنعة والتقمص والتناسخ، ومنحها الحياة حتى غدت الأشياء كلها ترفل بحوارية إنسانية فاعلة، وكأن الشعر يرد رده الحاسم على عمليات إبادة الحياة في المنطقة العربية كلها من المحيط حتى الخليج بإضفاء الحياة على كل شيء حد الإعجاز الخارق او الاسطرة، وهكذا يستبدل الشعر رموز الرواد وأساطيرهم ومعادلهم الموضوعي وأحلامهم اليوتوبية بلغة جديدة، لغة تكتفي بذاتها ليس لكونها نظاما إشاريا فحسب، وإنما بوصفها مجموعة من الأنساق المعرفية المترابطة داخليا بقوانينها الجديدة القادرة على الانسنة والتلوين وبعث حياة جديدة في زمن جديد هي حياة الشعر وزمنه…(12) وهكذا يصير الغائب في اللغة الشعرية هو الفاعل في القصيدة تؤازره الرؤيا وعيا للضرورة وإدراكا لعمق المكابدة وهي ترصد معاناة التعامل مع لغة الشعر وبها، وهي تواجه محنة الإنسان وانكساره وعذاب منافيه ولوعة فقدانه وهو يبصر الزوال بأم عينيه، زوال كل ما هو غال وجميل:

وها نحن – والحلم يكبر إلفاً من السنواتِ،

ويبقى صبيا..

يغازل كفيك

يركض من وجع..

ويحوّم حول الفراشات

تأتي اليه النوارس حاملة انجما

ودما..

طرقا..

ومباني ...

وحاملة كتبا.. وليالي

وحاملة قلما.. ودفاتر كالغيم ناصعة

ثم يمطر من ماسة كالمدى ..ص 65

وهكذا تصير القصيدة هي القدرة الرائدة على بناء الذات التي يتكاتف الخارج على تدميرها وتحطيم مشروع حلمها ، يبني الانسان ويؤسس لحياة جديدة في وطن تحمل نوارسه الضوء والطرق والمباني ومعها الاقلام والدفاتر البيضاء نبلا ، وهي في بياضها تظل مفارقة لسواد دفاتر الطغاة والمعتدين ، ولذلك فهو شعر يحتفل بالنماء والولادة دوما، ولادة العنقاء التي تطلع من نارها ورمادها مكللة بالغار، طافحة بالحياة المقتدرة على مواجهة عوامل الخراب في واقع يفرش شباك المكيدة من اجل إسقاط البراءة وشفافية الحلم، من هنا ظل هذا الشعر يبلور سؤال الوجود باسئلة الحلم والموت والحياة، معبرا عن أزمة الذات المقهورة، ساعيا الى النهوض بهويتها والتشبث بسمات هذه الهوية حتى الموت، لذلك كان التأكيد على فعل التسمية في القصيدة لافتا للنظر، فالاسم علامة الهوية الدالة وسمتها الأولى، ولذلك يحرص الشاعر على تسمية كل الأشياء الحاضرة في ميدان قضيته، فضمير المتكلم في هذا الشعر ليس اشارة فردية لانه ضمير يتماهى منذ اللحظة الأولى في مشروع المخاطب الإنساني :

اسميك..

ماذا تسمين هذا الصباح

وهذا الوطن

وهذا الذي بيننا والسماء

وماذا نسمي الشبابيك/ والوردَ

والليل/ والقمر اليعربيَّ الحزين

وهذا النخيل المسائي/ والبحرَ

والكلمات التي لم تقل

وماذا نسمي الينابيعَ

…ماذا نسمي مدار الصحارى

وماذا نسمي الصواعق

ماذا نسمي زمانا يجئ

وماذا نسمي اختناق المناديل في البحر..ص :67-68

ان محاولة طمس هوية الإنسان العربي الفلسطيني هي الخطر الذي ظل الشعر يقاومه بضراوة وظل رده على عملية التفتيت والتضييع صارما:

هنا القدس .. ليست هنا

موزعة بين نبل النجوم

وموت الشتاء معذبة بين بين

معذبة بين …بين

معذبة بين ... بين

ان هذا التكرار الذي تنتهي به القصيدة هو الترتيلة التي تبوح بوجع التصدع الأليم الذي لحق بهوية الوجود، وجود الشاعر- الوطن على حد سواء، بسبب مشروع التدمير والإبادة الذي ينفذ كل يوم ضدهما، وهذه المجابهة الواعية هي السر المضني الذي تشكلت به ومن اجله القصيدة ، ولذلك صار بناء القصيدة الفني والحرص على تطويره هو المعادلة لبناء الذات التي يعمل المشروع المضاد على هدمها، فالقصيدة بهذا التوجه هي مشروع التوحيد القادر على احتواء كل أنواع التباين الفلسطيني، وقد استطاعت وسط الركام ان تكون وطنا وهوية، لانها نبع الحلم وبؤرة بثه وعنوان وجوده، صارت القصيدة علامة بارعة واشارة حادة لذلك التحقق المستحيل الذي لابد سيكون يوماً، ولذلك صارت التسمية بالفعل المضارع المستمر إعطاء عنوان لهذه الهوية التي ظلت شاخصة بحضور باذخ. من هنا ترى هذه القراءة ان الخطاب في الفعل (اسمي) هو خطاب موجه للقصيدة، هذا الكائن الأنثوي الذي احتضن الإنسان المثقل بمكابدته عبر العصور وكان له وطنا وشجرا حنونا وصدرا دفع عنه ويدفع غائلة الألم والشعور بالضياع والانكسار، القصيدة العربية الفلسطينية هي التي حفظت تراث شعب كامل وضمت قيمه وشعوره الجمعي ومنحت شهداءه حياة جديدة اذ خبأت بطولتهم في صميم اللغة الشعرية واضفت على استشهادهم سموا ظل يتألق عبر مسيرة الدم، من هنا وجدها الشاعر جديرة بحفظ الهوية وتوحيد الوطن مهما كسره المحتل وحاول تمزيقه ، إنها الملاذ حينما صارت تجسيدا للمعاناة الكبرى:

وان الذي ادفأ القلب ذات مساء شديد البرودةِ

كان قصيدة ….ص: 64

واذا سميت القصيدة بحراً، فان اليد الفاعلة المحركة الذاهبة الى تغيير مجرى الحياة دوما، اليد اداة الفعل ومحركة الاشياء والإبداع برؤى الشعر ستكون هي الرمل الذي يستجيب لسطوة الموج ولهفة التطلع، لكن السؤال الذي ظل حاضراً عبر السطور هو : من الذي قام ويقوم بفعل الكتابة.. البحر ام الرمل، القصيدة ام الشاعر. من يكتب الأخر في صميم المخاض…؟ لابد ان تكون الكتابة لفاعلية البحر، فالبحر هو الذي يقتحم الرمل، يكتبه، يغير وجوده، يغمره ويرسم خطوطه ويحفر فيه الخلجان، والشاعر لايكتب القصيدة، انما القصيدة هي التي تكتبه "تكتب دواخله ولواعجه وتخط اغواره ومكابدته، انها لا تتماهى به حسب، بل تغمره بفيض عذابها وجروحها ومغامرتها الأزلية كما يغمر البحر مقتحميه، وإطلاق الاسم المذكر (البحر) على الأنثوي (القصيدة) فيه توجه نحو تأكيد التواصل الكامل بينهما ليكتمل مشروع الخصب بالعمل على دمج جلالها بجلاله ، وإضفاء سمة الإطلاق عليها، فضلا عن الإيحاء بتوحدهما معا من خلال استمرارية مشروع الاقتحام ضد العزلة والموت، وهي تنهض بمهمتها الصعبة هذه في ذلك الزمن العسير:

وان الذي ادفأ القلب ذات مساء شديد البرودة

كان قصيدة …

 

أ.د.بشرى البستاني

كلية الآداب/جامعة الموصل

 

..................

الهوامش:

(1) أسميك بحرا، اسمي يدي الرمل، خالد ابو خالد، منشورات المجلس القومي، الرباط، ط1، 1991.

(2) ينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة: عنا.

(3) ينظر: شعرية كتاب الساق على الساق في ما هو الفرياق، د. محمد الهادي المطوي، مجلة عالم الفكر، 1/1999، الكويت، 458.

(4) ينظر: ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي، محمود عبد الوهاب، دار الشؤون الثقافية، سلسلة الموسوعة الصغيرة، بغداد، 1995.

(5) ينظر: شعرية كتاب الساق على الساق، 459-460.

(6) ينظر: السميوطيقا وحدود التفضية في الشعر العربي، بلقاسم الزميت، مجلة فكر ونقد، 18/1999، الرباط، 99.

(7) ينظر: السيموطيقيا والعنونة، د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، 3/1997، الكويت، 98.

(8) ينظر: المصدر نفسه، 96، 98، 99.

(9) ينظر: شعرية كتاب الساق على الساق، 455-457.

(10) ينظر: في ظلال القران، سيد قطب، 1/67، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط5، 1967.

(11) ينظر: المنجد في اللغة والادب والعلوم، لويس معلوف، مادة سما، بيروت، ط19، 1966.

(12) ينظر: التوازي ولغة الشعر، محمد كنوني، مجلة فكر ونقد، 18/1999، الرباط، 80.

(13) ينظر: محمود درويش، عصفور الجنة ام طائر النار، غالي شكري، مجلة القاهرة، 151/1995، 13.

   

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :207 الجمعة 20 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم