قضايا وآراء

نقد النخبة السياسية في العراق (2-3) / ميثم الجنابي

وهو ارتباط له أسسه الموضوعية في طبيعة التلازم الضروري بين الدولة والسلطة من جهة، وبين الإرادة السياسية ونوعية الفكرة المتحكمة بها من جهة أخرى. ومن مفارقات هذا الارتباط في واقع العراق المعاصر هو أن النخب السياسية السائدة فيه الآن لم يكن صعودها إلى السلطة نتاجا لصراع سياسي وطني (داخلي)، كما أن رؤيتها السياسية ليست محكومة بفكرة الدولة. الأمر الذي جعل من فكرة الدولة والسلطة إشكالية عصية في إرادتها وفكرتها. من هنا تناقض السلطة والدولة في ممارساتها العملية في مجرى سنوات من "استلام" الحكم، بحيث تحولت الدولة إلى كائن هش هو اقرب ما يكون إلى بنية مزيفة منها إلى مؤسسة لها مقوماتها الذاتية. وهي ظاهرة تبرز بجلائها التام في نوعية وكمية الاحتراب والمعارك الجانبية والثانوية والتافهة لحد ما من اجل تشكيل "الحكومة"!! وهو صراع يكشف عن نوعيتها السياسية الهشة، وضعفها الأخلاقي، وفقدانها شبه التام للفكرة الوطنية وقيمة الدولة. وهو واقع يكشف بدوره عن أن إشكالية العراق الكبرى لم تكن في "الاحتلال"، بل في النخبة السياسية التي احتلت غير مكانها الفعلي. إذ نقف أمام نخب سياسية لا تتعدى همومها في الواقع غير متطلبات الجسد المتهرئ ونزوات تناسبه! بمعنى خلوها من حقيقة الهموم الكبرى للدولة والمجتمع. وهو واقع يشير بدوره إلى أن مأساة العراق الحديثة والمعاصرة تكمن في نخبه السياسية الخربة. وهي نخب تمثلت من حيث الجوهر نفسية وذهنية الصدامية في الموقف من الدولة والمجتمع والمصلحة العامة.

وهو واقع يجعل من مهمة نقد النخبة السياسية العراقية الحالية قضية غاية في الأهمية بالنسبة للمصير التاريخي للعراق وآفاق تطور الفكرة الدولتية (الحكومية) فيه ومؤسسات النظام السياسي (السلطة). لاسيما وان استقراء تاريخ الخراب العراقي و"منظومة" الانحطاط الشامل فيه تبرهن على أن احد أسبابها الجوهرية يقوم في فساد النخبة السياسية. وإذا كان من الصعب حصر أشكال فساد النخبة السياسية، فان مضمونها العام يصب في صنع آلية الزمن وليس التاريخ. بمعنى اجترار الزمن وتخريب تجارب الأجيال. وتشير هذه النتيجة أولا وقبل كل شيء إلى عدم إدراك حقيقة الدولة، باعتبارها منظومة المؤسسات الشرعية. وانعدام هذا الإدراك هو الذي يشكل السبب الجوهري في انحطاط النخبة السياسية. وفي هذا أيضا يكمن سر بقاء الواقع المتخلف في كافة نواحي الحياة مع التغير المستمر "للقيادات" و"الزعامات" و"الرؤساء". أو على العكس، ليس بقاءها الدائم سوى الوجه الآخر لاستمرار زمن الاستبداد والمؤامرات الصغيرة المميزة للنخب السياسية المتعركة بنفسية المغامرة. وليست مؤامرات الوفاق والاتفاق والائتلاف والاتحاد وغيرها التي جر تشكيلها وتفريطها وإعادة إنتاجها من اجل "تشكيل الحكومة" سوى الصيغة النموذجية لهذه الحالة. إننا نقف أمام نفسية وذهنية محكومة بهموم الجسد والمصالح الضيقة. وهي حالة معبرة عن هامشية النخب وفراغها الروحي والمعنوي والأخلاقي. من هنا تشابه سلوكها بما في ذلك في المظاهر. وهو أيضا مظهر من مظاهر انحطاطها المعنوي، وذلك لان حقيقة النخبة هي اختصاص وشخصية.

وعندما نأخذ بتحليل مقدمات ونتائج الحصيلة العامة تجاه ابسط مظاهر النخبة الأصيلة، والمقصود بذلك ظهورها الطبيعي من بين المجتمع وتمثل مصالحه والاقتراب من مشاكله ووضع كل ذلك في مشاريع تخدم فكرة الدولة ومنظومة الحياة الاجتماعية، فإننا نقف أمام حالة مزرية لعل أكثر ما فيها من إثارة هو ليس فقط انغلاقها واستعادة البنية التقليدية من عشائرية وعائلية وجهوية وعرقية وطائفية وما شابه ذلك، بل واختباؤها في "منطقة خضراء" هي عين "الحصن الصدامي" السابق!! بينما كان ينبغي "للانقلاب الديمقراطي" العاصف والتأييد الجماهيري الحاسم للقضاء على الدكتاتورية الصدامية لحاله فقط أن يكون ستارا فولاذيا للنخبة السياسية الجديدة. ومن ثم كان يفترض منها أن تكون محصنة به للخروج إلى "الشارع العراقي" من اجل مواجهة إشكالاته ومشاكله الفعلية. بينما لا يعني اختباءها في "المنطقة الخضراء" سوى الاستعادة الفجة للصدامية واستمرار تقاليد الخوف الذاتي.

إن خوفها الظاهري هو النتاج الملازم لخوفها الباطني. ولا يعني ذلك بالنسبة للآفاق السياسية في العراق سوى فقدانها للجرأة على منازلة الصعوبات التي يواجهها العراق في كافة نواحي الحياة. وتشير هذه الحالة بدورها إلى أن أغلب النخب السياسية المتحكمة بزمام السلطة حتى الآن هي مجرد تركيبات متنوعة الهشاشة من أزلام سلطة، أي مكونات لا هوية واضحة فيها ولا شخصية. بينما حقيقة النخبة هي أولا وقيل كل شيء هوية وشخصية واضحة المعالم. وفي هذا يكمن سر المراوحة والانحطاط المتزايد في مختلف نواحي الحياة. والأخطر من كل ذلك هو خطورة مصادرة المستقبل لعقود جديدة. بينما تبرهن التجارب التاريخية للأمم جميعا على أن رجل الدولة هو المنحدر من النخبة السياسية الرفيعة فقط، أي من يتمتع برؤية إستراتيجية في إرساء أو تطوير أسس الدولة والمجتمع والثقافة والعلم والتكنولوجيا. وهي إستراتيجية ممكنة فقط في ظل وجود نخبة مبدعة في كافة الميادين وثيقة الارتباط بالهموم السياسية الوطنية الكبرى.

إن ضعف أو انعدام النخبة السياسية الأصيلة في ظروف العراق الحالية هو النتاج الملازم لتفريغ فكرة وتاريخ النخبة بشكل عام في العراق بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. فهو الانقلاب الذي فسح المجال أمام إمكانية المغامرة السياسية وتحويل الراديكالية إلى الأسلوب الأكثر "شرعية" وقبولا من جانب الأحزاب السياسية قاطبة.

أما النتائج غير المباشرة لكل هذه العملية التي بدأها انقلاب الرابع عشر من تموز فهي تفشي ذهنية المؤامرة واشتراكها الفعال في جعل الفكرة الراديكالية الملاذ الوحيد والمخرج النهائي للخروج من مأزق هي صانعته الكبرى. ومن حصيلة هذين التأثيرين تراكم الانتهاك السياسي لفكرة الشرعية والصراع الشرعي. بحيث جعل النخبة السياسية جزء من وجدان "الشارع" وليس عقلا مدبرا لمنظومة الدولة والمجتمع والثقافة. وهي الحصيلة التي يقف أمامها العراق بعد بلوغه قاع الانحطاط الادنى في تاريخه المعاصر، أي الدكتاتورية الصدامية.

فالنخبة السياسية الحاكمة في ظروف العراق الحالية تعيد في حالات عديدة إنتاج دكتاتوريات مجزأة وصغيرة. وإلا فكيف يمكن للمرء أن يفهم سلوك أولئك "الديمقراطيين" الذين يحيطون أنفسهم، في ظروف العراق البائسة، بأعداد هائلة من الحرس، والسرقة المفرطة لكل شيء، بحيث يسرق احدهم مليار دولار أمريكي في ظروف العراق البائسة!! أو أن يكون الابتزاز والرشوة أسلوب الحصول على عمل في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن!! أو أن تصبح المتاجرة بكل شيء أمرا مسموحا به أو مقبولا!! باختصار إننا نقف أمام مظاهر عديدة ومتنوعة للفساد الشامل في مؤسسات السلطة بشكل عام والنخبة السياسية بشكل خاص. وهي مظاهر لا تعني في حال وضعها، مهما كان شكلها وحجمها، بمعايير رجل الدولة سوى الفساد المريع والانحطاط الشامل. ذلك يعني إننا نقف أمام نخبة تستمر وتستكمل زمن الانحطاط. بمعنى أنها جزء من زمن التوتاليتارية والدكتاتورية. فهي نخبة لا يخامر قلبها الخجل حالما تنظر إلى الحالة المزرية لواقع الأغلبية المطلقة من العراقيين. بل يمكن توكيد العكس! بمعنى أنها تتلذذ برؤية نفسها متربعة على عرش القمامة!! بحيث تصبح أفراحها وأتراحها سماع الغجر ونواح المحترفين! وفي كلتا الحالتين رز وخراف مسلوخة!! وهو واقع مؤسف ومهين، لكنه يصبح معقولا ومقبولا حالما يتحول رجل السياسة إلى "عنصر" من "أزلام السلطة". وفي هذا يكمن سر الطابع الباهت للنخبة السياسية العراقية الحالية. فهي، كما يقول العراقيون، قوى "احترقت أفلامها" بسرعة!! بمعنى أنها لم تعد في عقل وضمير المجتمع أكثر من أشباح.

إن تحول الأشباح إلى قوة سياسية هو الوجه الأكثر مأساوية في تاريخ النخبة العراقية. ومن ثم لا يعني صعود "أزلام السلطة" سوى الوجه الآخر لتلاشي "رجل الدولة". وهي العملية التي تجد انعكاسها النموذجي في ظروف العراق الحالية بانحدار النخب صوب المكونات التقليدية والبدائية لما قبل الدولة العصرية مثل الطائفية والعرقية والجهوية والعشائرية وما شابه ذلك، وكذلك في صعود نجم رجل الدين وانحدار رجل العلم. فهي العملية التي تشير إلى حجم الضعف الهائل للقوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جهة، والى ضعف أو انعدام نخبة دنيوية (علمانية) عراقية ذات تأثير روحي بالمجتمع. من هنا صعود المرجعية الدينية وليس المرجعية الدنيوية، وقوى الأقليات القومية والعرقية وليس الوطنية العامة.

إن توحد الانحطاط المادي والروحي في النخبة السياسية الحالية في العراق، التي أخذت تجمع في آن واحد الانهماك غير المحدود في سرقة الروح والجسد والحاضر والمستقبل من خلال تحويل السلطة إلى مصدر الإثراء يجعل من غير الممكن توقع نهوض العراق من جديد. كما أن من الصعب توقع إعادة عمرانه الشامل والحقيقي في ظل تخريب فعلي شامل.

إن حصيلة هذا الواقع تشير إلى أن العراق لم يصنع بعد نخبه السياسية الحقيقة. ومن ثم لم ترتق فيه النخب السياسية بعد إلى مصاف الفكرة الوطنية. وما لم يتخلص العراق من النخب المزيفة، فان المصير هو مجرد اجترار للزمن، والعيش بتقاليد المعشر، والعمل بمقاييس التخلف الحضاري، والتلذذ بالانحطاط الشامل. وهي حالة يمكن تأملها في وجوه وبطون وجيوب النخبة السياسية الحالية، إذ لا شيء آخر فيها غير ما جرت الإشارة إليه! فهي الملامح الوحيدة البارزة في صيرورتها وكينونتها!!

فالإشكالية الكبرى النظرية والعملية القائمة أمام العراق تقوم في كيفية التخلص مما أسميته بالنخبة المزيفة ومن ثم ظهور النخبة الأصيلة، أي الوطنية. وليس المقصود بالنخبة الوطنية هنا سوى النخبة التي تعمل بمعايير الفكرة العلمية عن الدولة والمجتمع والمسترشدة بمعايير الرؤية الاجتماعية في ميدان العلاقات السياسية والمحتكمة في جميع أعمالها بفكرة الحقوق المدنية وإستراتيجية البناء المستقبلي.

وحالما نطبق هذه الفكرة العامة عن النخبة الوطنية على واقع العراق الحالي، فإننا نقف أمام ثنائية أزلام السلطة ورجل الدولة. وهي ثنائية تشكل الصيغة العملية للأصيل والمزيف في النخبة السياسية. وهي حالة تميز تاريخ الأمم جميعا، بوصفها الصيغة الطبيعية لصراع القديم والجديد، والحي والميت، والفضيلة والرذيلة وما شابه ذلك. غير أن خطورتها الكبرى مقارنة بغيرها من صراع الأضداد تقوم في تأثيرها الحاسم على مجرى التطور التاريخي للدولة والمجتمع، ومن ثم على مصير الأمم. فعلى كيفية انتصار أي منهما يتوقف نهوض الأمم أو سقوطها. وسقوط العراق واستمرار مأساته تقوم أساسا في استمرار سيادة النخبة المزيفة أو أزلام السلطة، ومن ثم ضعف أو تلاشي النخبة الأصيلة ورجال الدولة. وهي حالة سوف تبقى تنخر جسد الدولة وروحها ما لم تنقلب هذه المعادلة.

ولعل أحداث ما بعد الانتخابات بدأ من عام 2005 وما قبيل وبعد خروج قوات الاحتلال احد الأدلة النموذجية بهذا الصدد. واقصد بذلك الإجماع على الفرقة في ظل أوضاع درامية وخطيرة بالنسبة لمصالح الدولة والمجتمع، أو ما ندعوه أيضا بمصيرهما التاريخي. وهو "إجماع" يعكس طبيعة النخبة السياسية الحالية بوصفها أزلام بمعايير الفكرة الدولتية، وأقزام بمعايير المصالح الوطنية العليا. إذ تفترض فكرة الدولة جوهرية الاتفاق وقت الشدائد حول مبادئ عليا ملزمة للجميع، بينما تفترض المصالح الوطنية العليا الاستعداد العقلاني للمساومة السياسية. بينما يدور الصراع المختبئ وراء كواليس المصالح الحزبية الضيقة حول "أفراد" وليس حول مبادئ. فالخلاف "الجوهري" بين القوى يدور حول شخصية رئيس الوزراء (سابقا الجعفري، والآن المالكي)!! وهو صراع يكشف من حيث حقيقة بواعثه وغاياته عن مساعي القوى المتصارعة في الحصول على "امتيازات" أو "مصالح" خاصة.

إن شكل ومضمون الصراع حول تشكيل الحكومة وربطه بشخصية ما معينة هو بحد ذاته دليل قاطع على أن اغلب النخب السياسية الحالية لا تحترم الدستور ولا تعتبره شيئا، لان أي منها لا يعيش ولا يعمل حسب مواده. من هنا انهماك الجميع بالبحث عن "بدائل" سياسية حزبية. بحيث تحولت قواعد اللعبة الديمقراطية إلى قواعد اللعبة الحزبية، وتجري الاستعاضة عن فكرة "الاستحقاق الانتخابي" بفكرة "المشاركة"، (إي المحاصصة). وهي أمور تكشف عن طبيعة التقاليد العريقة لنفسية المؤامرة والمغامرة المميزة للأحزاب والنخب السياسية في العراق بشكل عام وعند الأقليات بشكل خاص. بمعنى إننا نقف أمام صراع لا تحركه مبادئ الرؤية الوطنية وإدراك المصالح العليا للدولة، بقدر ما تتحكم به نفسية وذهنية الغنيمة. وهي نفسية وذهنية تتعارض وتتضاد مع فكرة الدولة الشرعية والمواطنة. بينما هي الفكرة الوحيدة والأكثر جوهرية بالنسبة للعراق في محاولاته المرهقة للانتقال من تقاليد الاستبداد والدكتاتورية إلى الديمقراطية والنظام الشرعي.

وفي هذا الواقع الخرب تكمن أكثر مصادر الخلل الفعلي لمصير الدولة والمجتمع والتطور اللاحق. فالنخب السياسية "العراقية" في اغلبها هي سبب المشكلة وليس أداة حلها. وفي هذا يكمن خصوصية المأساة التاريخية المعاصرة للعراق في محاولاته الجريئة لتذليل مرحلة الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية.

فمن بديهيات العلم السياسي القول، بان قوة الأمم على قدر قوة نخبها السياسية، كما أن قوة الأخيرة تتأتى من قوة المجتمع ونخبه المتنوعة. بينما تكشف أحداث ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية وحتى الآن عما يمكن دعوته بمنظومة الخلل البنيوي للدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. إذ يرتقي هذا الخلل إلى مصاف الأزمة البنيوية الشاملة، التي مازالت تحدد سلوك اغلب النخب السياسية. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم على أنها قوى مؤقتة وطارئة وعابرة. بمعنى أن الرؤية العلمية الدقيقة تفترض ألا يجري التعويل كثيرا عليها بسبب طبيعة خرابها الذاتي. وهو خلل تبرز بوضوح في غياب تكاملها الذاتي بمعايير ومقاييس الرؤية الوطنية العامة. وفي هذا يكمن سر خلافاتها العلنية والمستترة.

إن الصراع الداخلي للنخب السياسية في ظروف العراق الحالية هو نتاج تخلفها وانحطاطها المعنوي. وذلك لأنه صراع محكوم بنفسية الغنيمة وليس بعقلية المستقبل. وهو انحطاط له تقاليده "العريقة" في العراق، بسبب صعود الراديكالية السياسية، التي عادة ما تسحق الفكرة السياسية، وترجع مضمون السياسة إلى تصوراتها الحزبية. وهي تصورات تقليدية محكومة أما بالجهل أو الجهة، أو العقيدة وإرهابها الإيديولوجي بوصفها الصيغة "المهذبة" للبنية التقليدية للأحزاب و"قياداتها". من هنا افتقاد السياسة لأبعادها الاجتماعية والوطنية. أما النتيجة فهي صعود اشد الأشكال تخلفا وانحطاطا إلى هرم السلطة، التي شكلت الصدامية نموذجها الأقبح فيما مضى، والقومية العرقية والطائفية السياسية في الظرف الحالي. ولا تعمل هذه التقاليد الميتة في نهاية المطاف إلا على تجفيف مصادر التطور التلقائي للمجتمع المدني، ومن ثم النخب الاجتماعية العامة والسياسية منها بشكل خاص. وهي الحالة التي ميزت تاريخ العراق في كل مجرى النصف الثاني من القرن العشرين.

فقد كان تغلغل واتساع نفسية "الشرعية الثورية" والفكرة الراديكالية مقدمة وأسلوب ومبرر انتقال الحثالة الاجتماعية بمختلف أصنافها وأشكالها من مواقعها الهامشية إلى مركز النظام السياسي. وهي ظاهرة تاريخية يمكن تفسيرها بدقة علمية بما في ذلك بمعايير ومفاهيم العلم السياسي، إلا أنها استطاعت في ظروف العراق ما بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 أن تتحول إلى جزء من تقاليد خشنة ما زالت تتحكم بنفسية وذهنية العوام والخواص على السواء. الأمر الذي جعل من العامة خاصة ومن الخاصة عامة. بمعنى غياب الاحتراف. مما أدى تدريجيا إلى تلاشي النخبة بالمعنى الدقيق للكلمة بوصفها القوة الروحية والفكرية لمشاريع البدائل والإبداع المتجدد. تماما بالقدر الذي جعل من هامشية الأمس نخبة سياسية وفكرية! وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى تاريخ المرحلة الجمهورية على انه مجرد زمن تراكم وضخم الهامشية والأطراف والأقليات وهمجيتها الشاملة. وفي هذا يكمن سر نمو وتضخم ظاهرة "أزلام السلطة" وليس رجل الدولة. وفي هذه الحالة تكمن مفارقة العراق الحديث وسر انحطاطه المريع. ووجدت هذه النتيجة انعكاسها في المعارضة السياسية العراقية، التي أخذت معالمها الباطنية تبرز على حقيقتها في مرحلة "الجمهورية الرابعة" (2003)، بوصفها جمهورية النخبة السياسية المستلبة. إذ كشفت هذه النخب في مجر الأحداث الدرامية ما بعد سقوط الصدامية وحتى الآن عن أن أهم ما يميزها أسماء مضخمة وهموم صغيرة، بحيث جعلها اقرب ما تكون إلى أزلام وأقزام، أي أزلام على الغنيمة وأقزام أمام المشاكل الكبرى للدولة والمجتمع!!

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :208 السبت 21 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم