قضايا وآراء

نظرية التطور لداروين والتفكير الإسلامي / نذير القريشي

وكان عامة الخطباء والعلماء يعلموننا أن نظرية التطور لداروين هي كفر محض، إذ كيف يعقل أن يتطور الإنسان من قرد وهو الكائن الذي كرمه الله؟؟ وأين تذهب قصة ادم وحواء التي ذكرت في القران؟؟ وماذا عن قابيل وهابيل وقصة الصراع بينهما؟؟ وهكذا كانت هناك الكثير من الأمور والتساؤلات التي لم أكن لأتصور أنها يمكن أن تتوافق مع نظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروين.

ولكن ومن الناحية الأخرى، ومن خلال التفكر أحيانا في البرامج العلمية التي أتابعها على شاشات التلفاز، كنت أجد أن المفاهيم المطروحة في فكرة أو نظرية النشوء والارتقاء لها ما يؤكدها، وخصوصا عند الحديث عن المتحجرات القديمة.

ولذلك كنت دائما أعاني من فجوة عميقة داخل نفسي بسبب هذا التمايز إلى أن عثرت على كتاب حديث في إحدى مكتبات النجف في العراق فيه إشارات في غاية الأهمية حول هذا الموضوع.  بل تعتبر هذه الإشارات نظرية جديدة بحق بكل ما تعنيه النظرية من معنى حول تاريخ الإنسانية قبل آدم.

اسم الكتاب هو "وهم الانتظار" للكاتب العراقي السيد عصام الحسيني الياسري وهو يتحدث حول الإمام المهدي بالخصوص، ولكن فيه موضوع خاص حول الإنسانية قبل ادم، وهو يحاول التوفيق بين كون الإنسان قد تطور تدريجيا كما تنص عليه نظرية داروين من جهة، وبين "الثوابت" الدينية التي تقول إن ادم هو الأب للإنسانية.

والكاتب يدعي أن آدم ليس أب لكل البشر، بل هو أبو البشرية العاقلة التي تطورت خلال مراحل طويلة لتصل إلى مرحلة الأهلية للتكليف، وإن آدم هو الذي علم الناس كل معاني الإنسانية الحديثة وأوصلها إلى مرتبة الاستخلاف على الأرض.

 

وللتوضيح أكثر فاني انقل هنا ما كتبه الياسري بالنص:

"الإنسانية ما قبل آدم: ويمكن أن نسأل هنا؟ لماذا تقولون إن البشرية لا تستطيع إلا أن تسير نحو التكامل؟ ألم تعش البشرية فترات طويلة قبل بعثة أو نزول آدم من دون هذا السعي نحو الكمال بل غاية ما كان يطلبهُ الإنسان القديم هو البقاء حيا لا أكثر كما هو شأن الحيوانات التي لا هدف لها سوى البقاء؟؟.

- لا بد من التذكير أن ما يحتمل في شأن بعثة آدم (ع) هو أنه ليس أب لكافة أبناء الجنس الإنساني، بل هو بداية البشرية العاقلة ، وأنه عندما نزل إلى الأرض إنما نزل على أقوام وجماعات غير متحضرة، وبنزوله وبعثته عليه السلام بدأت الإنسانية العاقلة مسيرتها نحو التكامل العقلي، وإنتقلت من مرحلة الحيوانية والتخلف إلى مرحلة الإنسانية والتعقل، وقد فصلنا كل ذلك في كتب سابقة وأقمنا على ذلك الكثير من الأدلة والبراهين فراجع.

أقول أن الإنسانية قبل آدم تختلف عن الإنسانية التي جاءت بعد المعلم الأول لها -وهو آدم- حيث في البديهيات الدينية نقول إن الأمانة عُرضت على السماوات والأرض «أي كافة سكان السماوات والأرض» ولم يستطع حملها غير الإنسان لما فيه من الخصائص العقلية، وقبل آدم لم يكن الإنسان مكلفاً أو خليفة كما نتفق جميعاً على ذلك في البديهيات الدينية، وبالتالي لا هدف ولا غاية عندهُ ليسير إليها.

أما بعد أن علم الله آدم الأسماء كلها ووهبهُ المعارف ورسم لهُ الأهداف وجعل البشر هم الخلفاء على الأرض وأناط بهم التكليف بالعبادة، فإن الإنسان منذ ذلك الحين بدأ مسيرتهُ نحو التكامل والارتقاء.

وبذلك يمكن القول إن آدم هو معلم البشرية الأول، وبذلك يجيب هذا القول عن كثير من الأسئلة سواء العلمية أو الدينية. فهو يتوافق مع النصوص الدينية التي تقول إن آدم هو نبي من أنبياء الله تعالى، والنبي يرسل إلى الناس فإذا لم يكن هناك إنسانية قبل آدم فلمن أرسل ولماذا نسميه نبيا؟؟. وإذا لم يكن هناك إنسانية قبل آدم فكيف علم الملائكة بسوء حال الناس وعدم إستحقاقهم لخلافة الأرض؟؟.

"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون"

ثم إن هذا القول يحل مشكلة زواج إبني آدم هابيل وقابيل، إذ لن نحتاج بعد ذلك إلى الروايات والقصص الموضوعة التي تتحدث عن زواجهما من أخواتهما، أو من حورية من الجنة، أو جنية من الأرض، بل إقترنوا أو تزاوجوا مع الأقوام التي أرسل آدم إليها، وأما ما يخص الخلاف بينهما وتقديم القربان إلى الله تعالى فلم يكن بخصوص إعتراض قابيل على عدم الزواج من أخته التوأم التي ولدت معه كما هو شائع في الأدبيات والروايات الدينية. إن الشرائع كما نعلم تأتي بسبب أشياء حسنة أو قبيحة لذاتها وزواج الأخوة والأخوات هو شيء قبيح يبعد أن يقترفه الإنسان المتدين البسيط فكيف بالنبي المؤسس الأول للشرائع من بعده. بل كان إعتراض قابيل على كون النبوة في هابيل برغم كونه الإبن الأكبر.

وهذا القول يحل أيضا مشكلة المتحجرات التي يكتشفها العلم الحديث عن آثار لوجود الإنسان قبل ملايين السنين، بل تحل حتى الإشكاليات المتعلقة بنظريات مثل نظرية النشوء والإرتقاء لدارون، إذ لن يكون بينهما تعارض على هذا الأساس، فلا يبعد أن يكون أسلافنا الأوائل قد ترقوا تدريجيا في مراتب متصاعدة من التطورات الجينية والطفرات الوراثية بدأً من وحيد الخلية ووصولا إلى الشكل الذي أصبح فيه  الإنسان في النهاية مهيئا للتعليم على يد الأنبياء وكان أولهم آدم عليه السلام.

ثم إن هذا الرأي يحل مشكلة الإختلاف الكبير بين الأجناس في أوروبا وأفريقيا وآسيا وغيرها، حيث يبعد أن تكون هذه الأقوام المتباينة راجعة إلى جد واحد قبل سبعة أو عشرة آلاف عام كما تقول المصادر الدينية، إن هذا شيء مستبعد بل مستحيل، فلابد أن تكون قد تطورت وتمايزت خلال مئات آلاف السنين.

ولابد أيضا من الإشارة إلى بعض الآيات التي قد يفهم منها خلاف ذلك. مثال ذلك قوله تعالى في سورة يس "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين"، فهل يعني ذلك أن كافة الناس هم من أبناء آدم؟ وخصوصا بلحاظ أن الإبتعاد عن الشيطان هو خطاب عام للناس كافة؟ إن ذلك ممكن ولكن يمكن القول أيضا أن آدم هو الأصل في الأخلاق الإنسانية والإبتعاد عن الشيطان، فيكون هو الأب للناس جميعا من ناحية التربية والتأديب والتسامي عن خطط الشيطان فيكون الجميع أبناءا له، سواء كانوا من صلبه أم من غير صلبه.

هناك أيضا قوله تعالى في بداية سورة النساء "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"

والذي يتبادر من هذه الآية لأول وهلة أن الناس جميعا قد خلقوا من نفس واحدة، وهي نفس آدم عليه السلام، ومن ثم خلق منه زوجه حواء، ومن ثم خلق منهم الناس أجمعين. ولكن التأمل في الآية قد يدل على شيء آخر، فالحق تعالى  لم يقل وبث منهما الرجال والنساء، بل قال " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" مما يدل على أن قسما كثيرا من الرجال والنساء ينتمون صلبا إلى هذه النفس الواحدة لا كل الناس. ومن هنا فإن الآيات الشريفة لا تدل على حصر الجنس البشري في شخص آدم عليه السلام.

وعموما فقد نفصل الحديث في هذه النظرية في كتب أخرى وفي محلها إنشاء الله

 

نذير القرشي

12 صفر 1433

 

.................

- لاحظ الفرق بين الإنسان والبشر الذي يستخدمه القرآن الكريم، حيث إن مرحلة البشرية هي مرحلة متقدمة على الإنسانية، فالقران يشير إلى الإنسان في مقام التقريع، قال تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم)، وقال أيضا (إن الإنسان لكفور)، في حين يشير إلى البشر في مقام التشريف، قال (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا)، وقال أيضا (إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).

  

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم