قضايا وآراء

نقد النخبة السياسية في العراق (3-3) / ميثم الجنابي

وبدون ذلك تصبح المأساة فعلا لا علاقة له بالعقل والضمير والإبداع. فالمآسي تصبح فضيلة فقط عندما تتحول إلى بلاء عظيم لقلوب أعظم، أي عندما تكون لقلوب الأمم كاللهب للذهب. ودروس التجربة التاريخية للعراق الحديث تكشف عن أن مصدر مأساته تكمن في عدم تكامله الذاتي. ولا يمكن بلوغ هذا التكامل دون تكامل الأحزاب والنخب السياسية في رؤية وطنية واجتماعية واقعية وعقلانية. فالتجزئة القومية الضيقة والعرقية والطائفية الآخذة في الصعود هي الوجه الظاهري للانحطاط الباطني. وكلاهما لا يصنع معاصرة ولا تحديث ولا إجماع شرعي. إذ لا يمكن للنزعات القومية الضيقة والعرقية والطائفية أن تحصل على إجماع وطني. وهي حقيقة جلية الآن على خلفية الصراعات التي لم تحسم لحد الآن بصدد مركزية الدولة ومنظومة الإدارة الحكومية (السلطة)، أي بعد مرور سنوات عديدة على سقوط الدكتاتورية الصدامية.

طبعا أن لهذا الخلل تعقيداته الملازمة لمرحلة الانتقال الصعبة والمرهقة التي ميزت حالة العراق، بفعل الاحتلال ومقدماته ونتائجه. إلا أن ذلك لا يقلل بأي قدر كان من الأقدار دور وأثر ومسئولية النخب السياسية بهذا الصدد. فكما لا يمكن للمرء الطبيعي أن يكون هجينا لقوميات وأديان وطواف وأوطان مختلفة، كذلك لا يمكن لحكومة أن تكون مسخا وجميلة في آن واحد. وعندما يكون الهمّ السياسي للنخب محصورا في صنع مسخ من هذا النوع وتقديمه على انه نموذج للائتلاف والاتفاق والوحدة وما شابه ذلك، فانه مؤشر على نوعية وكمية التشوه الفعلي في الرؤية السياسية لفكرة الدولة والحكومة والقانون والعمل السياسي. وفي نهاية المطاف لا يمكن لرؤية من هذا القبيل أن تصنع غير الشقاق والخلاف. ومن ثم الهاء الجميع في صراع ثانوي محكوم بهموم الحزبية الضيقة والمصالح الفردية. مما يجعل الجميع بالضرورة ضعيفا من حيث إمكانياتهم الوطنية، ومنهكين في ثباتهم الاجتماعي، وناقصين في عقلهم العراقي. وديمومتهم الوحيدة هي المؤقت والتأقلم. وهي ديمومة لا تصنع ثباتا واستقرارا ديناميكيا للعراق. مما يحرفهم بالضرورة عن فكرة الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. مع ما يترتب عليه من استعداد دائم لاقتراف الرذيلة "السياسية" والتقلب فيها بمعايير ومقاييس العابر والمؤقت. أما النتيجة الحتمية لهذا السلوك فهو استعداد الأحزاب والنخب السياسية للخيانة الاجتماعية والسياسية. وهو أمر جلي عندما ننظر إلى ما تقوم به النخب السياسية التي "اشتركت" في "تاريخ مديد" ضد الصدامية.

لقد أفسدت السلطة النخب السياسية الحالية في العراق بسرعة قياسية. وفيه يمكن قياس طبيعة مكونها الفعلي: أزلام سلطة! انه وقت قياسي كشف عن أن النخب السائدة حاليا في العراق من طينة واحدة لا مكون فيها لفكرة الوطنية العامة والدولة الشرعية الموحدة. ويدلل هذا الواقع على أنها لم تتعظ من تاريخ المأساة العراقية، وأنها مازالت تعيش في زمن الانحطاط.

فعندما نتأمل ظروف وحالة العراق بعد سقوط الصدامية، فان كل ما فيه يبدو مأساة بمعايير السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق والدولة. ويمكن النظر إلى هذه المأساة على أنها الوجه الآخر لزمن الخراب السابق. غير انه لا ينبغي تحميل الماضي جريرة كل ما يجري الآن، انطلاقا من أن لكل مرحلة مصاعبها ومصائبها، ومن ثم لكل مرحلة رجالها. وبالتالي، لكل مرحلة مهماتها كما أن لكل رجال مسئولياتهم. في حين نقف الآن أمام حالة معبرة عن قدر مزري للنخب السياسية في العراق وعجز تاريخي يلازمها عن تفعيل السياسة بالشكل الذي يجعلها قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية قادرة على تذليل حالة البؤس الشامل فيه.

بل يمكننا القول، بان ظروف العراق الحالية بعد سقوط الصدامية تكشف عن إمكانية السير في نفس طريق الابتذال الذي ميز زمنه في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين. إذ كشف هذا الزمن عن استمرار حالة الابتذال لفكرة الوطنية والحق والعدالة والنزاهة الاجتماعية وأولية المصالح العامة. بل إننا نرى استفحال متوسع لهذا الانتهاك على خلفية الشعارات والإعلانات والدعاوى التي رافقت تاريخ الأحزاب السياسية التي صعدت إلى سدة الحكم بقوة الغزو الأجنبي والاحتلال. وتمثل هذه النتيجة الوجه الآخر لحالة الانحطاط الشامل في العراق، التي جعلت من الاحتلال أسلوبا لبلوغ وتحقيق الديمقراطية!

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة من الانحطاط جعلت وما تزال تجعل من المغامرة أسلوب التفكير والممارسة السياسية. ذلك يعني أن النتيجة سوف لن تكون شيئا غير الاستمرار في زمن الخراب والانحطاط. فمن الناحية المجردة، يمكننا القول، بان إدراك حقيقة التاريخ الكلي للعراق الحديث والنتائج التي أدت إليها التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، كان ينبغي لها أن تصنع في وعي النخب السياسية القدر الضروري، أو الحد الأدنى من تأمل ما يمكن أن تؤدي إليه مغامرة الخروج عن فكرة الدولة الشرعية والوطنية والنظام الديمقراطي والثقافة الحرة. إلا أننا نقف أمام جهل أو تجاهل لتاريخه الحديث. فالتجربة الصدامية قد صدمت كل ما في العراق بشكل جعلته عرضة للتهشم والاندثار السريع كما لو انه كيانا هشا. مع أن العراق اعرق حتى من كل ما فيه! وتعكس هذه المفارقة مستوى الخراب والانحطاط الملازم لتقاليد الراديكالية الضيقة كما مثلتها الصدامية بصورة نموذجية! وهي نموذجية قادرة في الواقع على تعليم كل عاقل، بان الخروج عن "الصراط المستقيم" في بناء الدولة لا مخرج له إلا الانزلاق في هاوية الانحطاط والموت. ويرتقي هذا الحكم إلى ما يمكن دعوته بالبديهية السياسية. غير أن أحداث العراق في مجرى ثلاثة أعوام بعد سقوط الصدامية تبرهن على أن البديهية السياسية ليست مفهومة أو معقولة أو سهله بالطريقة التي تبدو في ميدان الرؤية المنطقية والرياضية. والسر غاية في الجلاء! وهو أن تاريخ الانحطاط لا يشبه زمن السلطة! فزمن السلطة عرضة للتغير والتبدل والاندثار السريع، بينما "مآثر" الانحطاط أكثر رسوخا وتغلغلا في بنية الوعي والعلاقات الاجتماعية والسياسية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن اغلب القوى السياسية الحالية السائدة في العراق ونخبها الخاصة هي من صنف أزلام السلطة وليس رجال الدولة، من هنا تتضح الأبعاد المركبة لآلية الانحطاط فيها. وهي الحالة التي تعيد إنتاج المأساة العراقية ومفارقاتها المذهلة للعقل والضمير! إذ أننا نقف أمام نخب سياسية هي الوريث غير الشرعي أيضا لزمن الانحطاط! وفي هذا تكمن مفارقة وجودها التاريخي على هرم السلطة.

إن الحصيلة الضرورية التي كان ينبغي الوصول إليها تقوم في أن النخب السياسية كان ينبغي لها من الناحية العقلية، أن تسلك في ممارستها العملية سلوكا محكوما أما بمعتقداتها الخاصة وشعاراتها العامة، وأما بإدراكها للنتائج التي يمكن أن يؤدي إليها الخروج على منطق الحق والعدالة واحترام حقوق الإنسان، وأما برؤيتها الإستراتيجية للبدائل القادرة على انتشال العراق من أزمته البنيوية الشاملة، أو أن تجمع بين هذه المكونات الثلاثة بطريقة معقولة. لكننا لا نرى في الواقع سوى المكون الأول، أي سلوكها بما يستجيب لمعتقداتها الخاصة. بينما هي معتقدات حزبية، أي جزئية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الحزبية في العراق هي فكرة نفسية وغريزية أكثر مما هي فكرة عقلية ومنطقية، أي أنها محكومة بالوجدان وليس بالعقل، وبالمصلحة الضيقة وليس العامة، من هنا تتضح معالمها المدمرة. بمعنى أن الحزبية في العراق الحالي ليس بإمكانها الارتقاء إلى مصاف الرؤية العقلانية العامة (الاجتماعية والوطنية). وهي نتيجة كانت محكومة من الناحية التاريخية بافتقاد فكرة السياسة لمضمونها الاجتماعي والاقتصادي، من هنا استحكام الرؤية الإيديولوجية في مواقف الأحزاب وأحكامها. مما أعطى لها في ظروف الانعدام التام والشامل للديمقراطية السياسية والمجتمع المدني، أي في ظل استحكام التوتاليتارية والدكتاتورية، طابعا ضيقا جعل منها وعاء لنفسية النخبة المغلقة.

وبما أن النخبة في العراق هي كيان هلامي بسبب افتقادها إلى تاريخ ذاتي متراكم في منظومة من القيم والمفاهيم الراسخة والمتنوعة، من هنا سرعة تجاهلها لما يمكن أن يؤدي إليه سلوك الخروج عن منطق الحق والعدالة واحترام حقوق الإنسان، أي عن منطق الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والثقافة الحرة. ويكشف هذا التجاهل في الوقت نفسه عن استعدادها الذاتي للتخلي عن فكرة البدائل العقلانية. بمعنى تحويل كل "البرامج والمشاريع الإستراتيجية" إلى حفنة من العبارات التي يمكن التخلي عنها، أي المتاجرة بها مع كل عابر سبيل! وهو أمر جلي حالما يجري تصفيف كلمات وخطابات النخب السياسية الحالية تجاه كل القضايا الكبرى التي واجهها ويواجهها العراق الآن. ومن الممكن اختصار كل هذا الصخب الممل والتبرير السمج للمواقف المتباينة والمختلفة والمتناقضة تجاه اغلب القضايا بعبارة واحدة وهي: غريزة التحزب الحيواني! بمعنى إننا لا نسمع غير زئير مزيف وعواء فارغ وفحيح دائم! الأمر الذي يجعل من النخب السياسية في صراعها على حلبة العراق الحالية أشبه ما يكون بجوقة أجنبية من الدرجة الثالثة مهمتها تمثيل كل ما يطلب منها مقابل حفنة من الدولارات المسروقة. بينما يبرهن تاريخ الأمم المتقدمة والحية على أن النخبة السياسية الحقيقية هي التي تعمل بمنطق البدائل وليس بقواعد التأقلم الكلبي. وبدون ذلك تصبح قوى بلا قوة، أي مظهرا مضخما وأبهة فارغة. وهي الحالة التي تمثلها النخب في العراق المعاصر بصورة ترتقي إلى مصاف "النموذجية التامة". بحيث يصبح الاختلاف حول الصغائر مضمون السياسة الوطنية! وبالتالي تحول مضامين الكلمات إلى نقيضها. مما يجعل من أكثر الأمور جلاء موضوعا للجدل!! بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة تظهر مدى الاغتراب الفعلي للنخبة السياسية "العراقية" عن العراق ومستوى فقدانها لأبسط قواعد اللياقة واحترام النفس. وهي حالة يمكن وصفها بالرذيلة السريالية، أي الرذيلة التي يمكن تخيلها فقط، باعتبارها واقعا محتملا في ما وراء الواقع! غير أن النخبة السياسية "العراقية" استطاعت أن تقدم اكتشافا لا يرهق العقل والضمير، بل ويخدش الحدس عن إمكانية جعل المستحيل واقعا. وهي قدرة لا علاقة لها بالخيال العلمي، بقدر ما تعكس ذروة الانحطاط. فالانحطاط قادر على جعل المستحيل أمرا "معقولا" ومقبولا لأنه غير محكوم بقاعدة. أما القاعدة الوحيدة فيه فهي قاعدة الرخوية المستعدة لابتلاع كل شيء وتحويله إلى فقاعات، كما تفعل المستنقعات.

ويمكن رؤية ملامح هذه الصورة الرمزية في ظروف العراق الحالية وسلوك اغلب النخب السياسية فيه. وعموما هو سلوك محكوم من حيث الجوهر بعاملين، الأول وهو أن اغلب الأحزاب السياسية "المؤثرة" حاليا هي قوى الماضي، وثانيا أن اغلبها يعاني من انفصام فعلي فيما يتعلق برؤيتها تجاه المصالح الوطنية العليا. بمعنى أن سلوكها محكوم أما بغريزة "البقاء" الأجوف في السلطة أو استعمال الجاه من اجل اكتساب ثروة الضحايا العراقية أو رأسمال "النجوم الإعلامية" الأكثر زيفا!! وليس مصادفة أن يكون سلوك اغلبها متشابها من حيث تصنيعه "كتل" المصالح الحزبية الضيقة. بمعنى افتقادها للمشروع الوطني الحقيقي العام. في حين أن حقيقة النخبة في زمن الانعطافات الحادة تقوم في كيفية ونوعية تمثلها للمصالح الوطنية العامة. بينما لا نرى في سلوك النخب السياسية الحالية في العراق سوى صورا ونماذج لنفسية المؤقت والعابر والعرقية والقومية الضيقة والطائفية الدينية والسياسية والجهوية. ويشير هذا السلوك إلى أن اغلبها لم يتعظ من تاريخ المأساة العراقية، وأنها مازالت تعيش زمن الانحطاط وتعيد إنتاجه مما يجعل منها في نهاية المطاف نخبا خائبة، أو أحزاب الطريق المسدود. وهو شيء واحد!!

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم