قضايا وآراء

فلسفة التفسير والتأويل القرآني / مهدي الصافي

ومع تصاعد وتيرة المدارس والتيارات السلفية الحديثة، نجد إنها عمدت إلى فكرة قراءة النص والسنة النبوية بطريقة مخالفة لرأي المذاهب التقليدية الأربعة، متخذة من ثورة السلفي محمد بن عبد الوهاب مدخلا لوعيها الديني الجديد، الذي بدأ يبحث عن مسوغات المراوغة والالتفاف على النص بين العامة لاختراقها، على غرار التجربة السلفية السياسية الحديثة، أحزاب ظاهرها علماني وباطنها إسلامي، عودة منهم لاعتماد مبدأ الشيعية ، الذي حرموه من قبل "مبدأ التقية"، بعد أن شهدت تجاربه تراجعا تكتيكيا حول العديد من المفاهيم السياسية، ومنها مفهوم المزاوجة بين التفسيرات الدينية لمبدأ الشورى وقبول فكرة اسلمة الديمقراطية الغربية .

نود من خلال هذه المداخلة البسيطة في مجال البحث، عن ضرورة تحديث أسلوب التفسير والتأويل الحسن للنص القرآني، من خلال التطرق إلى بعض الأمثلة القابلة لمسألة التفسير المرن في القران، بعد أن نتفق على إن أي تفسير أو تأويل يقود إلى أعمال شريرة وخارجة عن الطبيعة السلمية للرسالة السماوية ، يعد أمرا مرفوضا، ولا يحبذه الإسلام،  ?وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة، وقوله تعالى(كتب عليكم القتال وهو كره لكم)أية216سورة البقرة،

هذه الآية تشرح كراهية الحروب والمعارك والقتال(لان فيها خسائر بالأرواح وألاموال، وهذا ليس شرحا لتفسير الآية ولكن وصفا لكراهية الحرب)، لكنها في مسائل ومواضع ضرورية تكون أمرا قطعيا، ولهذا اختلفت المدرسة الاخوانية لسيد قطب حول مفهوم الجهاد الدفاعي أو الهجومي، فهم يرون إن المدرسة القائلة بأن الإسلام خطه الدفاعي الأول(يقف دفاعا عن الوطن والعرض والدين والنفس والأولاد والأملاك) ، إنها مدرسة جاهلة ومتخاذلة عن نصرة الدين، فالدين من وجهة نظرهم بحاجة إلى عسكرة الأمة الإسلامية ، وإعلانها حربا كونية باسم الجهاد،

ولهذا نجد إننا في تأويل الآيات القرآنية التي تحرض على القتال تبقى بعيدة عن مبدأ ضرورة تقسيم الأرض بين مسميات وضعية (في وصف المجتمعات والطوائف غير المسلمة المحاربين للرسول ص أو للإسلام،  وأهل عهد،  وأهل الذمة)، التي تمنع تكوين الدول الحديثة الشاملة لكل الأطياف والقوميات والأعراق.

الأمر ينسحب على ضرورة قتل الإنسان للحيوان المفترس، فمن حيث المبدأ لايجوز المبادرة لقتل الحيوانات المتوحشة دون سبب وجيه(وهناك تحديد قراني خاص في مواسم الحج)، ولكن عندما يكون الإنسان في موضع الدفاع عن النفس ضد هذه الحيوانات، يجوز له أن يستخدم كل الوسائل المتاحة لحماية نفسه، ولهذا عد قطع الشجر وقتل الحيوانات من اجل التسلية أمر مخالفا للشريعة الإسلامية ،  الأنعام اية38(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون  وكذلك "أو لم يروا إلى ماخلق الله من شيئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون" ) النحل 48"

(والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون" (النحل:81)، هذه الآيات تجعل من المؤسسات الغربية المعنية بحماية البيئة وحياة الحيوانات النادرة،  احدى أهم خصائص الدين الإسلامي المهملة.

كذلك يمكن النظر من جهة أخرى إلى ضرورة استخدام عمليات وطرق البحث والاكتشاف وتصنيع الأدوات والآلات والمعدات التكنولوجية والعلمية وتسخيرها لخدمة الأغراض الإنسانية السليمة، مع إنها فتحت أبوابا لصناعات مضرة كالمعدات العسكرية المختلفة، إضافة إلى بعض الإضرار البيئية،  ولكن سوء الاستخدام لاينفي حاجة الإنسان الماسة  إليها، فهذه التناقضات تعد أمرا حتميا في جميع تصنيفات قوى الخير والشر، وهي جزء من إشاراتنا المطروحة للنقاش حول ضرورة الأخذ بالرأي الحسن في التفسيرات القرآنية.

نرى مثال أخر في قوله تعالى({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

تعطي للمشرع المدني(القضاء المدني المتوافق مع الشرع في البلاد الإسلامية)، مجالا لتشريع القوانين الخاصة بحقوق المرأة الزوجية(ضمن دائرة التوافق بين الشارع المقدس وبين حاجة المجتمع لتنظيم أموره وتقليل مشاكله)، فتحت مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نجد إن المشاكل الزوجية يمكن إن يرجع فيها إلى القضاء المدني(المتوافق كما قلنا مع الشرع،  مع مراعاة أيضا مرونة الأحكام المقدسة) لحسم مبدأ استمرارية العشرة الزوجية، على اعتبار إن الأمر بالمعروف هو أمر الهي قطعي، وهو احد أركان الإسلام ، هذه الإشارة يمكن أن تكون بوابة لحل معظم التناقضات القائمة بين المشرع الديني المتزمت تجاه التفسيرات المدنية الحديثة،  المنادية بضمان حقوق المرأة في الإسلام ، المطالبة بتوفير مناخ مناسب لإحياء وتطوير وتنمية المجتمع المدني،

أيضا يمكن الأخذ ببعض الآيات القرآنية المقدسة، والتي نعتقد إن الخالق عز وجل وضعها مرنة قابلة لعدد من التفسيرات المتعلقة بنمو وتطور المجتمعات، فمثلا نجد إن أية تعدد الزوجات في قوله تعالى

(فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، 3- النساء، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) 129 النساء، يشرح لنا ربنا الكريم مسألة المراجعة الشاملة لضرورة تعدد الزوجات، وسبل تدخل القضاء المدني في حل قضايا أحقية تعدد الزواج من عدمه، حيث يمكن للمجتمع أن يمنع تعدد الزوجات لشخص غير مؤهل لمثل هذه الأمور، منعا لإشاعة الفوضى الاجتماعية، من خلال زواجه من أكثر من امرأة دون أن تكون لديه الإمكانات المادية والاجتماعية لضمان العدالة الشخصية بين أبناءه وزوجاته، لان نتائج الزواج الغير متكافئ سوف يلقي بضلاله وتأثيراته على المجتمع عموما، لتكون مصدرا للإضرار بالمجتمع، وتشيع الفاحشة والجريمة والفقر.

أما بالنظرة الفلسفية لمسألة الزانية والزاني، (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولاتأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) أية 2 سورة النور، نجد إن القران حدد عقوبة الجلد العلني(بغض النظر عن المحصنة أو غير المحصنة)،

ولكن تأتي مسألة إن هناك أدلة ومرويات تؤكد رجم الرسول الأكرم محمد ص لإحدى الزانيات، هذا الإشكال الواضح يحتاج إلى رأي فلسفي لتفسير نقاط الخلاف في هذا الموضع، حسب اعتقادي البسيط إن صحة رواية الرجم مثار جدل، فهي تأتي على فرض صحتها ضمن حالة وواقعة خاصة لإحدى الزانيات

(التي يمكن أن يكون قد ترتب على واقعة الزنى وجود جنين أو مولود غير شرعي)،

ولهذا طبقت هذه العقوبة القاسية، بمعنى اقتران التشدد بالحكم في الرجم للمرأة الزانية حتى الموت، بعد أن ترتب على واقعتها وجود ضحية، أما الذي جاء في النص المقدس القرآني، فهي كما نعتقد لحالة مختلفة ، زانية بدون مخلفات ومؤثرات جرمية، وإلا يجب أن لانأخذ بالروايات المتعارضة مع النص القرآني الواضح، ودع عنك إن السنة فصلت بعض الأحكام القرآنية العامة كحكم الصلاة وعدد الركعات الخ.

(علما إن اغلب الزانيات المشهورات بالزنى يتجنبن حمل طفل غير شرعي، مع ضمان الشهود الأربعة المباشرين)، ومن هنا تأتي ضرورة وجود تفسير فلسفي للآيات القرآنية ، التي تحمل الرأي الحسن،

مع الابتعاد كليا عن التفسيرات التي تكون نتائجها كارثية على المجتمع، تماما كما تفعله جماعات التكفير وإهدار الدم، وفقا لفتاوى شريرة بعيدة عن المنطق القرآني والإلهي السليم والفطري، ومن هنا أيضا يمكن إن نفهم إن مسألة إصدار أوامر الانتحار المرفوض إسلاميا،

وكذلك إطلاق تهم الارتداد والتكفير على إنها وجه أخر من وجوه التفسير السطحي السيئ، من هو الكافر ومن هو المرتد ومن يحق له إن ينفذ أمر الله في خلقه، حتى مع وجود الآيات التي تعطي حق القصاص من هؤلاء المخالفين، لان تبعاته كما قلنا مدمرة ، تعمل على إشاعة الفوضى والتدخل في الشؤون والقدرات الإلهية المطلقة(فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر)12-22 سورة الغاشية، (انك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو اعلم بالمهتدين)القصص56، وقوله تعالى(لكم دينكم ولي دين)الكافرون6، الخ.

وخاصة عندما تقوم جماعات متفرقة لاتملك حق الولاية أو البيعة من المجتمع، ولهذا هم يتجهون لإحياء مايسمى ببيعة الأمير، ولكن تناسوا إن كل شخص يمكن أن يجمع من حوله مجموعة مشردة أو مجرمة ليعلن هو أميرها، على خلاف تام مع مبدأ وأسلوب البيعة الذي بدء منذ عهد الرسول الأكرم ص ، واستمر إلى نهايات الدولتين الأموية والعباسية، مع الفارق الشاسع بين بيعة الرضوان(وبيعة النساء كما جاء في سورة الممتحنة أية 12) بين الرسول المبعوث من الخالق عز وجل(وماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، سورة النجم 3و4) وبين بيعة البشر السياسية الدنيوية لخليفتهم أو رئيسهم، حيث وردت البيعة في موارد ومواقف ومواضع محددة، لان الخالق عز وجل يعرف إن البيعة الحقيقية هي بين العبد وربه،

قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً )18 سورة الفتح.

هناك بالفعل موارد لكثير من الآيات القرآنية  القابلة للتأويل الحسن، ليس تناغما مع رأي العامة ، والقول بضرورة تحديث النصوص القرآنية تماشيا مع روح العصر، وإنما تخفيفا للتشدد والقسوة والإفراط الراديكالي في تفسير الآيات القرآنية، دون الانتباه إلى نتائج تلك التأويلات السلفية أو التفسيرات الكيفية للجماعات التكفيرية، على غرار يحشرون على نياتهم، نحن طرحنا هنا تساؤلا على فقهاء التفسير القرآني، على اعتبار إن المسلم يحق له إن يسأل المشرع والفقيه عما يعرف ومالايعرف، وبالأخص في النصوص القرآنية الواضحة.

هل يمكن أن تكون هناك قراءات جديدة للنص القرآني على غرار قاعدة الضرورات تبيح المحظورات؟

بحيث إنها تعالج مشكلة العلاقة المتذبذبة بين الدين والدولة، بين الفكر والعقل والفلسفة والنصوص القرآنية المرنة، بين الحضارة الإنسانية والشريعة الإسلامية،

بين دولة المواطنة والتنظيم الاجتماعي الوضعي والمادي المتطابق مع روح الشريعة الإسلامية المعتدلة، والتي اكرر يمكن أن نحملها على محامل الخير في مقابل الشر، كل الشر المفروض والطوعي.

 

مهدي الصافي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2011 الثلاثاء 24 / 01 / 2012)

 

 

 

في المثقف اليوم