قضايا وآراء

الدين لله واللحية للجميع! / حميد طولست

التي أطلقها في العشرينيات من القرن الماضي للتأكيد على أن الناس أحرار في أفكارهم ومعتقداتهم، كحريتهم في لحاهم وشواربهم التي جاء فيه الحديث الشريف:"إذا كان لأحدكم لحية، فليهذبها ولا بتركها كلحية الشيطان"- أي أنهم أحرار فيها، يصنعون بها ما يحلوا لهم، إن شاءوا أعفوها، أي تركوها على حالها، وإن شاءوا وفروها، أي أبقوها من دون حلق أو نتف أو قص شيء منها حتى تطول إلى الدرجة التي يشبهها الفلاح المصري بأحاديثهم وسيرهم الطويلة التي لا تنتهي كما في أمثالهم الشعبية: "طويلة مثل سيرة اللحيّة"، لكنهم مع حريتهم في أمورهم الشخصية، يبقون شركاء في الوطن الذي يجمعهم حبه، ويؤلفهم ولاؤه وانتماؤهم إليه، والذي اعتقد جازما أننا، -وبعد حوالي ثمانين سنة من تاريخ صدور تلك المقولة- في أمس الحاجة إلى مثل تلك الثقافة التي دعا إليها سعد زغلول، علّنا نحمي مجتمعنا من الفرقة والتشتت.

 ربما يتساءل البعض- وهو من كامل حقه- وما دخل اللحية -التي غيرت شكل المقالة من أجلها لتصبح "الدين لله واللحية للجميع"- في حرية المعتقد والدين؟ السؤال وجيه لأن اللحية كما تبدو من خلال تعريفاتها البسيطة، أنها ليست في حاجة إلى تخصيص مقالات لمعالجتها، لأنها في ذهنية الرجل الشعبي مجرد ظاهرة طبيعية وشعر ينبت في الوجه ويستطيل على ذقون الرجال بحكم الزمن والمكان، ولعدم وجود المياه الكافية وأدوات النظافة الحديثة، مثل أدوات الحلاقة، أو بسبب انتشار الكسل واللامبالاة، ومن لا يكلفون أنفسهم جهد حلاقتها، إلى جانب استغلالها، في أحيان كثيرة، كقناع لإخفاء عيوب البشرة التي هجم عليها حب الشباب وترك آثاره محفورة عليها. وقد ارتبطت اللحية في الكثير من الثقافات، بشكل أو بآخر، بكل ما يعكس النضج والرجولة، والفحولة والقوة والمهابة، بدليل أن شمشون الجبار فقد قوته بمجرد أن قصت دليلة شعره. كما ارتبطت عند الشباب والحلاقة بالأناقة والوسامة، التي قالت فيها السيدة عائشة رضي الله عنها "سبحان من زين الرجال باللحى" وأصبحت عند الكثير منهم إكسيسوارا يهتم به، ويتلاعب بأشكالها لتناسب مظاهر الوجوه، من اللحية العشوائية، أو المنظمة، الطويلة أو القصيرة أو الخفيفة إلى لحية الموضة الميكروسكوبية الشبابية التي تبدو على هيئة سطور سوداء على الوجه، والتي تسمى بلغة الحلاقينFace Dirty – أو تلك التي تعرف بلحية التيس «Goatee»، والتي تكون في الغالب على شكل حرف «T» المقلوبة، وذلك حتى تعكس هذه الأشكال ما يريد الشاب عكسه للآخرين مما توحي به أشكالها من السمات الحميدة المختلفة مثل الوسامة والمروءة والحكمة والرجولة، والمعرفة الجنسية، والمكانة الاجتماعية العالية؛ أو السمات المذمومة مثل الكسل, واللامبالاة، والقذارة، والفظاظة، أو التصرف الغريب الأطوار كالمتشرد، والهيبيز.

إلى هنا يبدو الأمر عاديا ولا يتطلب مقالات تحليلية لهذا الشعر الذي هو عند فقهاء اللغة لحية بكسر اللام، وقيل أنه بفتحها وجمعها لحى، وهي الشعر الذي ينمو على ذقن وخدي وعنق الذكر عند البلوغ.

لكن المسألة ليست في بساطة التعريف، بل هي أكبر وأخطر من ذلك، خاصة عندما يتحول الاهتمام بمظهر اللحية، بإطالتها أو تقصيرها وحتى حلقها نهائيا، من مسالة شخصية لا علاقة لها لا بديانة موسى، ولا بديانة عيسى، ولا بالدين الإسلامي, إلى علامة فارقة ومميزة بين الإسلاميين وبين سواهم من المسلمين وغيرهم من عموم العلمانيين والصوفيين والليبراليين، ويتشكل عبرها الدين والتوجه الأيديولوجي والمذهبي والسياسي، ويفرق بأنواعها الكثيرة، -من لحى السنيين الكثة السوداء والبيضاء والشقراء والمخضبة بالشيب أو المصبوغة في كثير من الأحيان بالحناء، إلى لحى الإخوان المهذبة والمشذبة في غالبيتها، ومن لحى الفلاسفة والمبدعين والفنانة المخضبة بنيكوتين السيجارة أو الغليون، إلى لحى الشيوعيين إلى لحى الماركسيين- بين الطوائف الدينية وطوائفها المذهبية، والتوجهات والأيديولوجية والسياسية، التي تعبر على إفرازا للطائفية في المجتمع، وعندما تسري الطائفية في مجتمع ما، يصير الجميع مهددا بالانخراط في الصراع الطائفي/الطائفي، البعيد كل البعد عما يمكن أن نسميه الصراع الديمقراطي الذي يلغي بالمرة، كل حريات الناس في لحاهم وشواربهم التي لا علاقة لتمظهراتها المختلفة من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، بالإيمان، ولا بالإسلام، ولأنها ليست وسيلة لاختبار مراتب ونوعية الإيمان والاحتساب، لعلاقتها الوطيدة بالعادات، والتقاليد، والأعراف الموروثة التي ترجع أصولها إلى ما قبل الإسلام، بل تمتد إلى مراحل ما قبل التاريخ، بخلاف ما يعتقده بعض حامليها من المتشددين -الذين يقدسون كل من أطال لحيته وزاد من عبسه وكشر أكثر في وجوه الناس ويعتبرونه أتقى الأتقياء ويسعون إلى إرضائه، وأن رأيه وكل ما يتفوه به هو رأي الله وآيات منزلة وقوانين ثابتة من عنده بلا أخطاء- أنها جزء لا يتجزأ من الملة والدين وأن الملتحين هم أكثر الناس إسلاما من غير الملتحين، ولو صلوا وصاموا وزكوا وحجوا بيت الله، وذلك بما أعطوا لتشكيلات هذه اللحى ومقاييسها وأطوالها، من قدسية وتعظيم مبالغ فيهما، يعتبر حلقها فعل لا يقوم به إلا المخنثون والمتشبهون بالنساء من الرجال، على أساس أن الأصل فيها هو الإعفاء، أو التقصير بمقياس القبضة أو أقصر، إلى درجة جعلها سنة مؤكدة يحرم حلقها، بدليل على شرعية ذلك بحديث عبد الله ابن عمر: "أطلقوا اللحى وحفوا الشارب"، رغم أنه استدلال باطل، لأن الحديث غير متواتر، أي غير صحيح ولا يعتد به.

هذا الجانب من التعامل مع اللحية والذي يستحق أن يكتب عنه، والذي حول الدين الإسلامي، إلى مجرد مظاهر، على مستوى تشكيل اللحى والألبسة على اختلافها من ثقافة إلى أخرى، وجعل الحروب الكلامية تندلع بسببها، بين الطوائف الدينية، وعلى رأسها على سبيل المثال لا الحصر، ما حدث ويحدث إلى اليوم بين أطرافها داحس السُّنة وغبراء الشيعة، وبين السلفيين والإخوان والصوفيين، رغم يقين الجميع أن اللحية كما النقاب، ليستا من الإسلام في شيء، وأنهما من أدوات النصب باسم الإسلام الدين لا يمارس بالمظاهر، ومن بينها اللحى، بقدر ما يمارس بالقيم النبيلة، المستمدة من النص الديني، كما في الحديث المروي عن الرسول الله عليه وسلم الذي يقوله: "الدين النصيحة"، وقوله: "الدين المعاملة"، وقوله: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له"، والذي لم يتطرق أبدا لمظاهر اللحية واحتضانها كالتوجه الملتحي الذي يعكس انشداد أصحابه إلى الماضي، على اعتبار أنه مثال وقدوة ومقصد يحتدى به لدى ملتحي الوهابية الذين يروجون له لإعلاء مذهبهم على الشريعة الإسلامية، مستخدمين في ذلك كل الوسائل والآليات لأسلمة المجتمع و صوغ العقول وترويضها لتقبل اللحى وبعض أنواع الألبسة على أنها من الإسلامي الحقيقي، -حتى لو كان بالكذب-الذي لا يجب تجاوزها، ومن يفعل يعاقب ويحارب، كما في حادثة المواطن المصري المليونير ساويرس الذي لم تشفع له أعمال الخير ولا اعتذاراته العلنية، لدى الإسلاميين الملتحين، من المتابعة عن نشره لصور ميكي السلفي الملتحي، وحرمه مكموكة المنقبة، الذي لم يبتدعه وإنما نقله عن عشرات المواقع الإسلامية والمدنية الغير دينية الأخرى، وحاكموه لصالح جهة أو شركة تليفونات شرقية  تمول تنقيب نساء مصر وتلحية رجالها.

وليست المجتمعات العربية والإسلامية، وحدها التي ترتكب الطائفية فيها هذا النوع من السلوكيات السلبية المحتضنة لكل ظواهر وأسباب تفريق الصف وتدمير وحدة المجتمع، سواء دينية أو أيديولوجية، ليبرالية أو اشتراكية أو شيوعية، والتي اعتبرتها، ومنذ القرن الماضي، الكثير من حركاتها الثورية أن اللحية هي مظهر مكمل لنضالاتها المتمردة، حيث جعلها الشيوعيون واليساريون الراديكاليون، جزأ مهما من يظهر الانتماء إلى طائفة دون أخرى، كما يبدو على وجوه الذين لا يزالون يعيشون إلى اليوم، على عهد إرنستو تشي جيفارا، وفيديل كاسترو ويميزهم عن غيرهم في التوجه أو المعتقد أو المرتبة الاجتماعية وباقي السمات الأخرى التي سبق ذكرها والمتعلقة بالفحولة والرجولة والقوة والمهابة، والتي دفعت بالعديد من ملوك أوروبا القدامى لإطالة لحاهم كما فعل كل من الكسندر الثالث من روسيا، ونابليون الثالث في فرنسا، وفريدريك الثالث لألمانيا، وسار على منوالهم العديد من رجالات الدولة في هذا العصر كعبد الإلاه بنكيران رئيس الحكومة المغربية، واحمدي نجاد رئيس إيران، و احمد هنية بغزة، ورئيس الحكومة التونسية

وكذلك فعل الكثير من الشخصيات الثقافية والفلسفية الرائدة أمثال: بنيامين دزرائيلي، تشارلز ديكنز، جوزيبي غاريبالدي، وسيجموند فرويد، وكارل ماركس ، وجوزيبي فيردي، وجور برنارد شو، وزفزاف، وكما فعل نفس الشيء رجال الفن والإبداع والرياضة ونجوم السينما بلحاهم التي ويتباهون ولا يتنازلون عنها أمثال: لاعب الغولف "تايغر وودس"، والنجم السنمائي "كولين فاريل" والنجم "جوني ديب" والنجم "براد بيت".

وهذا لا يعني أن كل الرجال كانوا ملتحين، لأن التاريخ يخبرنا عن الكثير من الرؤساء ورجال العلم والأدب الذين كانوا حليقي الوجوه إلا من الشوارب رغم المثل المغاربي القائل: "اللي بدل اللحية بالشوارب يخسرهم بجوج" وهم على سبيل المثال فقط: "مارسيل بروست، ألبرت آينشتاين، فلاديمير لينين وتروتسكي ليون، أدولف هتلر، جوزيف ستالين".

إن ما يخشاه الإنسان العربي والمغاربي من هذه الظاهرة وخاصة بعد وصول التيارات الإسلامية لمراكز القرار في الكثير من البلدان كتونس وليبيا والمغرب ومصر، هو محاولة هؤلاء التأثير على الرجال ليطيلوا لحاهم، كما فعلوا مع المرأة حين فرضوا عليها نوعية خاصة من اللباس ليست من الإسلام، ومع ذلك سموه بالشرعي، ذلك من خلال القانون، أو من خلال الفكر "الخطاب" الذين سيعملون على بثه على أسماع الجهلة والمساكين، وسيسيطرون دون شك على البعض منهم لعدم وجود رؤية شاملة لمجمل الكتاب عند البعض، أو لفهم قاصر أو نابع عن رأى شخصي لمزاج أو هوى من مشايخنا القدامى.

وأمام هذا الزخم من اللحى بكل الأسماء الراردة في كل اللغات beard.. barba.. ????.. bart.. sakal....تامارت..BARBE ...، وتنوع توجهات مظاهرها المستعملة في زرع الفرقة والتشتيت، لا يسعني إلا أن أختم بما قاله الشاعر العربي الكبير المتنبي:

ولا تغرنك اللحى ولا الصور ::: تسعة أعشار من ترى بقر.

والذي يبرز لنا شيئا أساسيا، ومهما هو أن "اللحية لا تصنع حكيم"  كما اللباس في هذا الفرنسية L’ habits ne fait pas le moine

 

حميد طولست 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2011 الثلاثاء 24 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم