قضايا وآراء

الرسالة الأدبية والأخلاقية للفنون العربية / مهدي الصافي

عندما استمعوا إلى كلام الرسول الأكرم محمد ص وكلامه الشبيه كما يضنون بأقوال الشعراء،

لأنه جاء بسياقات وتفاصيل اجتماعية شاملة، تحدث إليهم بلغة مرتبة متناسقة ومحكمة، فكانت الآيات القرآنية تحمل في ثنياها صورا عامة عن الكون والطبيعة

(السماء والأرض، الشمس والقمر والنجوم، الليل والنهار، الإنسان وطبيعته وغرائزه ونزواته، الأشجار والنباتات، عالم الطيور والحشرات والحيوانات، البحار والأنهار والأمطار، الأم والأب والطفل والعشيرة أو القبيلة، والعلاقات الاجتماعية، والكنوز والثروات، الغنى والفقر، السيد والعبد، الخ.)،

هذه الصور هي أدوات الشاعر، وأي أديب اوفنان موجود على الساحة الفنية(الشاعر-القاص-الراوي أو الكاتب عموما، الكاتب والفنان المسرحي-حتى المغني أو المنشد، النحات والرسام والخطاط، الخ.)، بدون تلك الإبداعات الإلهية لا يمكن لأي فنان أن يشتغل بعقلية جافة غير متحركة،

بحيث يستطيع من خلال منجزه الفني إقناع الآخرين بفكرته، أو رؤاه المطروحة من خلال لوحاته الفنية،

بل قد تكون مديات وأفاق أفكاره الأدبية أو الفنية فقيرة لبعض الصور الكونية، أو الطبيعة الضرورية الغائبة عن عمله، والمؤثرة في وسائل الجذب والإيصال والتلميح الفني القريبة من خيال المستمع أو المتلقي،

ولهذا يصر الفنانون والأدباء على إنهم يحملون رسالة فنية أو أدبية أخلاقية مقدسة ارضيا وليس سماويا، وذلك عبر وسائل الإبداع الفني المتعددة، مع إن الخالق عز وجل يشير في محكم كتابه إلى وجود العبد الصالح (حيث لم يخصص له حيزا وتميزا واضحا في القران الكريم، بل جعله نموذجا علويا يفوق قدرة الأنبياء (سورة الكهف آيات من 59-83)،

ولكنه بقي في إطار الصورة العامة للعبد الصالح، والتي قد تكون شاملة لجنس البشر (ولو بدرجات متفاوتة)، وألا لما استقر الكون بعد كل تلك الرسائل البشرية الشريرة المظلمة التي ورثها العالم، ولازالت ملاحم الدم ونزيف الكراهية والحقد باقية وحية.

انشغل الفن والأدب العربي منذ أوائل القرن الماضي بالمنجز الحضاري الأدبي والفني الغربي، وصارت الشعارات الماركسية بساط وجادة الانزلاق السريع لمعظم أفراد هذه النخب المهمة، وكأن قيود التراث الإسلامي والعربي قد كسرت بتلك الأفكار الإلحادية، وبنظرات الاستعلاء والاستكبار والتفوق العرقي الأجنبي، حتى صارت دولنا دوما ممثلة لجغرافية الطرف البائس من الجزء الجنوبي للعالم، وهم فوق رؤوسنا شماليون على الدوام،

البعض يسقط الأسباب التاريخية والسياسية على هذه الانكسارات النفسية والاجتماعية، مع إن بعضهم أيضا قد استفاد من تجربة المدارس الحداثوية التنويريةالغربية، ولكنه ركع عندما واجه مسؤولية تحمل تبعات الرسالة الأخلاقية والاجتماعية، فصار واعظ للسلطان المستبد، ومروج لأفكاره المريضة،

كنت اسأل نفسي دوما لماذا كل هذا الإبداع اللغوي والفني المنصب لتمجيد طغاة العرب، فيأتي الجواب من سوق بيع الضمائر!

الحقيقة التي يتجنبها رواد حقول الأدب والفن هو علاقة منتجهم ومنجزهم الثقافي والفكري والفني بحواجز المجتمع والدين(أو الشارع المقدس)، مع إننا وكما ذكرنا إن القران الكريم وكل الكتب السماوية المقدسة المنزلة تحوي على صور إلهية رائعة، الغاية الإلهية منها هو إقناع البشر بربوبية وعدالة وحكمة الخالق المصور العظيم، وبوجد حقيقة البعث والنشور والكون عموما، ولهذا نجد ان في القرآن الكريم وفي معظم سوره وآياته قصص لأمم وشعوب ومدن وأنبياء ورسل سابقين (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ )سورة يوسف أية 3

لايوجد عائق ابدي(كما يصور بعض المتخوفين من ثقافتهم الأم )م يمنع أن يكون هناك أبداع فني وثقافي وأدبي وطني أو محلي يخدم المجتمع والعالم(بغض النظر عن مستوى ثقافة المجتمع وبيئته الاجتماعية)، ولكن وضعت تلك الحواجز بعد أن استعمرت العوائل والطبقات البرجوازية العربية الناشئة بعد موت المريض العثماني في بلادهم، فصارت الثقافة حكرا عليهم.

ومن هنا نحن بحاجة إلى إحداث ثورة معرفية وأخلاقية في ساحة الثقافة والأدب والفن العربي الهادف، تمتنع ولو جزئيا عن استيراد تجارب الشعوب الأخرى، لان الخصوصيات الاجتماعية الثقافية والدينية والبيئية مختلفة تماما،

كفى تكرارا لتجارب عقيمة عفا عنها الزمن وأصبحت على الرفوف، لأننا امة تحتاج أن تدخل عصر الإلكترون وهي متماسكة، وموحدة في رؤاها وتوجهاتها وقواعدها الثقافية والفنية المتناغمة مع التراث والتاريخ العربي والإسلامي،

يكون لنا فن راقي يلمس وجدان الفرد والمجتمع والأرض العربية، نرى مسرح عربي خالص لايستنسخ تجارب وصور وأفكار أمم وحضارات مختلفة، بل تنبع وتخرج من بيئتنا من واقعنا من طبقاتنا وأحياءنا الغنية والفقيرة، من بيوت الطين وصفيح التنك، من مناطق العشوائيات والحواسم، من رحم المعاناة والبؤس الشرقي الكاتم على صدورنا.

كفى هروبا وتغرب دون فائدة، نحن نذهب إلى الثقافات البعيدة، إلى الحضارات الغربية، لإيجاد مخرج لمشاكلنا وأزماتنا، مع إننا لم نتمكن من فك رقابنا من اسر الأنظمة المستبدة إلا مؤخرا(بعد أن أصبحت دولنا عالة على العالم، نتربع على وقود الحضارة دون أن ننجز شيئا)،

مع أن دولا عربية لازالت ترزح تحت سياط الجلادين، هذه المهازل تتحملنا النخب الثقافية والأدبية والفنية، التي عجزت عن تقديم شيئا مؤثرا في الشارع العربي، رسالتها ومشاريعها وانجازاتها لم تأتي بجديد أو تقطف أية ثمار(الا بعض التجارب والمحاولات فردية)، بقيت مركونة في الأرشيف، بل تراجع حتى وجودها وحضورها في الساحة، وصارت صورة الإرهابي والتكفيري تلاحقهم كظلهم، تستهدفهم قبل غيرهم لقوة صدى وجودهم.

أن الساحة العربية ميدان مفتوح للمنافسة، وعلى السلطات الثقافية الثلاث (الأدب والثقافة والفن) التواجد والعمل بتحدي اكبر من السابق، تعود إلى بيئتها وتراثها الجميل، تستخدم الأسماء واللغات (اللهجات واللغة الفصيحة) والأمثلة والمقولات والتعابير العربية الشفافة، تسمح للشباب الواعي بكسر طوق الجمود الفكرية، وترفع عن العاملين في تلك الحقوق تلك المقدسات (الأدبية والثقافية والفنية) المضرة، دعهم يخرجون عن النص...كفى واقفية صامتة.

 

مهدي الصافي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2015الاحد 29 / 01 / 2012)

في المثقف اليوم