قضايا وآراء

"كلا" من الأب بقلم: ميشيل فوكو

أضفت على وجودهم خصائص شكل البطل المجهول، كما لو أن الاسم يمكن له أن يلعب الدور التافه الذي تمارسه الذاكرة المتسلسلة وذلك ضمن دورة معادة ومثالية. سيرة فاساري مثلا وضعت لنفسها واجبات تهدف لاستعادة وتذكر الماضي المنسي، وكانت تتبع نظاما طقوسيا ومحددا سلفا. تعلن العبقرية عن نفسها منذ بواكير الطفولة، ليس عن طريق النضوج النفسي، ولكن من خلال ميزة الأداء الصحيح النابع من الداخل وهكذا يمكن لها أن تكون سابقة لأوانها، وأن تصبح في دائرة الإضاءة وهي كاملة. العبقرية لا تولد، وتعلن عن نفسها من غير وسيط ولا حدود حقبة تأتي مع القطيعة التاريخية. كما هو البطل، الفنانون يحطمون الزمن وذلك ليضعوه في سياق واحد مجددا وبأيديهم. هذا الظهور للعبقرية ليس محروما من معنى حدث: إحدى المشكلات المتكررة تعبر عن نفسها في مشكلة خطأ التعرف / والتعرف. كان جيوتو راعيا وكان يرسم أغنامه على الصخور وذلك حينما شاهده سيمابو وأثنى على موهبته الخفية ( في الحكايات القروسطية يعيش ابن الملوك بين الفلاحين الذين قاموا بتبنيه ثم من علامة غامضة ومباركة يتم التعرف عليه فجأة). ويعقب ذلك تشكيل طائفة من الأتباع وهو شيء رمزي، ولكنه ليس كيانا حقيقيا تم اختزاله إلى مفرد، فهو دائماً يعبر عن مواجهة غير متكافئة بين السيد والتابع - فالرجل الكبير يعتقد أنه يقدم كل شيء للبالغ والذي يمتلك ، حقا، كل شيء.

ثم من أول صدام تنعكس العلاقة: فالطفل، الذي يحمل الإشارة، يتحول إلى سيد للسيد، ثم يقتل الطرف الثاني رمزيا، لأن حقبة السيد كانت مجرد اغتصاب، وحقوق الراعي الذي ليس له اسم تكون مصانة. لقد ترك فيروشيو الرسم بعدما رسم ليوناردو ملاك تعميد المسيح، وبدوره انسحب غيرلاندو الذي تقدم به العمر، لمصلحة مايكل أنجيلو.

ولكن يفرض الحصول على السيادة أيضاً مشكلة أخرى. على الفنان أن يمر باختبار شعوذة وفتنة آخر، وهو في هذه الحالة اختبار طوعي. مثل البطل الذي يقاتل بدرع أسود، يجب أن تكون خوذته متأهبة، وكذلك الفنان يخفي عمله ولا يكشف عنه إلا بعد أن ينتهي منه. وهذا ما قام به مايكل أنجلو بالضبط في عمله دافيد وهو ما قام به أوشيلو في جداريته التي تعلو بوابات سان توماسو. وهكذا يتم تسليم مفاتيح المملكة وهي لديميورجي.

الفنان يرسم عالما هو القرين، المنافس القوي، الخاص بنا. وفي الغموض المرافق للوهم، هذا العالم يأخذ موقعه وتكون له نفس القيمة التي هي لنا. وفي اللوحات المستديرة لسير بيرو ليوناردو تجد رسوما لوحوش لها قوة مرعبة هائلة مثل الرعب المتوفر في الطبيعة. وبالتالي، في هذا الكمال الذي يفرضه المثيل، يتم تلبية الوعد: الإنسان تبلغه الرسالة، كما هو حال فيليبو ليبي في الأسطورة، فقد تحرر في اليوم الذي رسم فيه لوحة تصور سيده بحالة مشابهة للخيال الفوق طبيعي.

استقبل عصر النهضة فردية الفنان بطريقة الإدراك الملحمي. وقد ارتبط هذا الإدراك بصور استحاثية ترسم البطل القروسطي، وبموضوعات تعود للإغريق ولدورتهم الابتدائية. وعند هذه الحدود برزت البنيات الغامضة والمحملة أكثر مما تحتمل بأسرار واكتشافات، بقوة الوهم المسموم، وبالعودة للطبيعة والتي هي أساسا الآخر، وبممر إلى أرض جديدة والتي كشف عنها الغطاء ليتبين أنها النفسه. وقد برز الفنان من خلف قرون طويلة من الأغنيات الملحمية القديمة التي ليس لها مؤلف وذلك باستيعاب تلك القوى ومعاني كل تلك القيم الملحمية نفسها. وقد انتقل البعد البطولي من البطل إلى الواحد الذي يحمل أعباء مهمة تمثيله، وذلك في وقت كانت فيه الثقافة الغربية ذاتها عالما تمثيليا. ولم يستمد العمل الفني بعد ذلك روح معناه الجوهري من كونه نصبا والذي تم توصيله كذاكرة منحوتة من الحجارة ومستمرة عبر العصور. ولكنه الآن أصبح من تبعيات الأسطورة التي ذات مرة حازت على التكريم. لقد كان هذا نفسه " عملا أو صنيعا بطوليا " لأنه يضع الحقيقة الأبدية في الرجال وفي أفعالهم الدائمة وأيضاً لأنه يشير إلى النظام المدهش لحياة الفنان باعتبار أنه مسقط رأسه ( مكان ولادته) الفعلي. لقد كان الرسام أول احتواء ذاتي للبطل. وبورتريه الأشخاص لم تعد مشاركة مثمرة يقدمها الفنان في زاوية لوحته، في المنظر الذي يقدمه. و أصبح في مركز اللوحة ، روح العمل ، مهمة و وظيفة العمل، حيث يمكن للبداية دائماً أن تتحد مع النهاية، و في التحول البطولي الشامل للواحد المطلق الذي سمح للأبطال أن يظهروا تحت الشمس وأن يستمروا .

بهذا الصنيع البطولي، يؤسس الفنان لعلاقة بين النفس والنفس مع أنه لا يمكن للبطل أن يفهم ذلك. وهكذا تصبح البطولة الخباء الأساسي - عند المقدمة لما يظهر ولما يمكن تمثيله - كطريقة لضمان أداء شيء واحد، لنفسه وللآخرين، مع التأكيد على حقيقية العمل كتحذير من الوحدة المستبعد التوصل إليها. إنها وحدة تنفتح من عمق أساساتها، وهذه هي الإمكانية التي تسهل كل الانقطاعات. وتسمح بظهور " البطل المضعضع " الذي حياته أو عواطفه في مشكلة متواصلة مع عمله ( و مثال ذلك فيليبو ليبي الذي تأثر من أعماقه بلوحة رسمها لامرأة لم يتمكن من الحصول عليها، ليشبع " عاطفته"). ثم هناك " البطل الغريب"، الذي يفقد نفسه في عمله ويفقد أيضاً القدرة على النظر في العمل ذاته ( على سبيل المثال أوشيلو، والذي " يمكن له أن يكون فنانا بغاية الأناقة والأصالة منذ وهب جيوتو وقته الضائع في دراسة هذه الجوانب للصور البشرية والحيوانية").

وهناك أيضاً " بطل نسيء فهمه"، وهو مرفوض بعد التدقيق به ( مثل تينتوريتو الذي استبعده تيتان وأمضى معظم حياته ملعونا من قبل رسامي البندقية). هذه الأرواح التي تابعت بالتدريج أثر الخط القائم بين خيرات الفنان وفضائل الأبطال، ساعدت على صعود الجانب الغامض الذي هو سؤال للواحد في نفس الوقت وبمفردات متنوعة مستمدة من العمل ومما ليس هو العمل. وبين الموضوع البطولي والمسافة ،التي يضيع فيها، ينفتح مجال كان القرن السادس عشر قد بدأ يشتبه به، وقد درسته حقبتنا بروح مرحة مع الاحتفاظ بروح الإنكار الجوهري. وفي النهاية الفراغ هو الذي يقع تحت سطوة جنون الفنان، الجنون هو الذي يطابق بين الفنان وهويته وعمله ويحوله إلى غريب عن الآخرين - من وجهة نظر كل أولئك الذين استمروا بالصمت - وهو أيضاً الذي يضع الفنان خارج ذلك العمل نفسه ويحوله إلى أعمى وأصم تجاه الأشياء التي يراها وحتى تجاه كلامه الشخصي.

لم يعد الموضوع ثورة أفلاطونية تحول اللاإدراكات الأساسية إلى حقيقة وهمية وذلك لتضعه في الضوء الساطع الذي ينبعث من الآلهة، ولكن شرط أن تكون له علاقة من درجة ثانية حيث أن العمل الفني وغير الفني يشكلان مظهرهما في لغة الداخل المعتم. وعند هذه النقطة، هذا الاستثمار والتوظيف الغريب الذي ندعوه " سيكلوجيا الفنان" يصبح ممكنا، وهو توظيف مسكون دائماً بالجنون حتى لو أن الأبعاد الباثولوجية غير متوفرة ( غائبة).

لقد نقش على مرجعيات تلك الوحدة البطولية المتألقة ما أعطى الاسم لأوائل الرسامين، ولكنه أيضاً كان يقيس عزلتهم ونفيهم ولا إباليتهم. إن البعد السيكلوجي لثقافتنا يندرج في نفي الإدراك الملحمي. ونحن الآن متورطون لو أردنا الاستفسار عما كان عليه الفنان، في هذا الممر الطويل والواهم الذي يسمح بنظرات مجردة نلقيها على التحالف الأبكم والقديم بين العمل و" الآخر غير هذا العمل" حيث دورات بطولته الطقوسية وغير المتبدلة كانت ذات مرة موضع اهتمامنا بفضل فاساري.

إن فهمنا للخطاب يحاول أن يستعيد لغة هذه البنية الواحدة. ولكن هل هذا قد ضاع من بين أيدينا؟. أم أنه مندمج تماماً وقد أصبح غير متاح لنا في الخطاب الكنائي المنصب على " العلاقة بين الفن والجنون؟". في تكراريته ( الإشارة لفينشون) ، في عوزه وجوعه ( أفكر بفريتيت الطيب وآخرين سواه) . مثل هذه الخطابات تكون ممكنة فقط بسبب هذه الوحدة. وفي نفس الوقت، هذه الوحدة مغطاة باستمرار، وغير مقبولة، ومشتتة عبر هذه التكراريات. إنها الوحدة التي تستلقي ساكنة بين هذه الخطابات وتفرض من قبلها في لامبالاة صارمة.

المصدر بالفرنسية :

Michel Foucault. (1971). 'Le "non" du père'. In Dits et Ecrits vol I. Paris: Gallimard, pp. 192- 5.

من كتاب : الاستاطيقا، الأسلوب و المعرفة بالإنكليزية. ص 8 - 11.

دققت الترجمة الإنكليزية كلير أوفاريل Clare O'Farrell .2004. و هي أستاذة فلسفة المعرفة في جامعة كوينز لاند بأستراليا. و رئيسة تحرير مجلة دراسات حول فوكو.

2012

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2015الاحد 29 / 01 / 2012)

في المثقف اليوم