قضايا وآراء

المخدرات .. حرب استهداف القيم وتفكيك المجتمع .. دراسة اجتماعية – سياسية / قاسم حسين صالح

واخذت تزداد بعد ان توافرت كل الأسباب: النفسيةوالأسرية والاقتصادية والاعلامية.بل انها بدأت تزرع في العراقفتقارير الاستخبارات الامريكية تشير الى ان انقطاع التمويل المالي عن الجماعات الارهابية ادى الى توجه هذه الجماعات الى زراعة اشهر نبتة مخدرات (الداتواره) في مناطق من محافظة ديالى .وتضيف بان الهيروين والمايجوانا بدءا يدخلان العراق عبر الحدود المشتركة مع ايران على يد عصابات اتجار غير مشروع تنشط في اواسط آسيا، ما اضطر الحكومة العراقية لاستيراد كلاب مدربة واجهزة كشف عن المخدرات المركبة ادى الى الاستيلاء على كميات كبيرة من المواد المخدرة وتدمير انواع مختلفة منها .وما يزيد من تعاطي المخدرات في العراق انه يشكل ممرا رئيسا لخطوط نقل المخدرات العالمية عبر افغانستان وايران لاسيما بعد ما حصل من فوضى وانفلات امني عقب التغيير هيأ فرصة نادرة لمافيا العصابات الدولية بتحويل طريق الحرير القادم من آسيا عبر العراق ممرا للمتاجرة بالمخدرات ومحطة عبور نحو دول الخليج واخرى اقليمية.

وتشير الاحصاءات الصادرة عن جهات رسمية الى زيادة عدد المتعاطين للمخدرات والمدمنين عليها،  بل ان مدن عراقية تعد محافظة وذات طابع ديني مثل (كربلاء) جاءت بمقدمة المحافظات العراقية في نسبة المتعاطين للمخدرات.

ومع اهمية المخاطر الاجتماعية والاقتصادية لتعاطي المخدرات،  لكن اوجعها انها تؤدي الى موت تدريجي او مفاجيء،  وابشعها انها تضطر المتعاطي لارتكاب جرائم السرقة والقتل،  واقبحها انها تدفع بعض المتعاطين والمدمنين  الى الخيانة الزوجية، وممارسة البغاء والدعاره والقواده،  واكراه محارمه على الزنا..بل والزنا بالمحارم !.

في هذه الورقة سنتعرف ايضا على التفسيرات النظرية المختلفة لتعاطي المخدرات،  وخصائص المتعاطين لها،  وما اذا كان لها علاقة بالتحضر وزيادة انتاج النفط !.

مشكلـــة الدراســــة:

حظيت ظاهرة تعاطي المخدرات باهتمام كبير في العقدين الاخيرين من قبل علماء النفس والاجتماع والقانون وصنّاع السياسة،  لما تحدثه المخدرات من تحلل للقيم وتدمير للاخلاق،  ولآن انتشارها بين سكان شعب ما يؤدي ليس فقط الى الاضرار بالصحة الجسدية والنفسية للمتعاطين لها،  بل انها تؤخر او تعرقل منجزات الدولة وخططها التنموية وتضعف امنها الداخلي والخارجي ايضا حين توظّف المافيا الدولية للمخدرات في قضايا سياسية تكون الدولة منشغلة عنها بقضايا تعدها اخطر مثل الارهاب كما هو الحال في العراق.

ولقد جاء في الأسباب الموجبة لأصدار قانون جديد في العراق بعنوان (قانون المخدرات والمؤثرات العقلية لعام 2011) بأن قانون المخدرات رقم 68 لسنة 1968 مضى عليه مدة طويلة  "واقتضى الأمر تحديثه من أجل مواكبة أحكام المعاهدات الدولية ذات العلاقة بالمخدرات، ولمواجهة تغلغل الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية على نحو مطرد..ولقمع نشاطات اجرامية تعمل على تضليل بعض فئات الشعب وتشجيعهم على تعاطي تلك المواد التي تشكل تهديدا خطيرا لصحة البشر ورفاهيتهم وتلحق الضرر بالأسس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية في المجتمع.."

والاخطر،  ان النمو المضطرد لتعاطي المخدرات يؤدي الى تفكيك الروابط القائمة بين الفرد والمجتمع،  وتراجع سلطة المعايير الاخلاقية التي تعدّ نماذج موجّه للسلوك،  وزيادة حالات الانحرافات السلوكية بين المراهقين والشباب بشكل خاص .والذي لا ينتبه اليه كثيرون ان الأسباب التي تدفع الى تعاطي المخدرات اصبحت متوافرة في العراق بشكل مثالي!. فالدراسات تشير الى ان الفرد يلجأ لتعاطي المخدرات في الحالات الاتية :

• موت احد افراد الاسرة،  او شخص عزيز عليه فيلجأ لها لنسيان الازمة .

ولا يوجد ناس في اي مجتمع بالعالم فقدوا اباءهم او احبتهم في انفجارات ارهابيه واحتراب طائفي كالذي حصل في العراق،  فضلا عن حالات التهجير والهجرة خارج الوطن.

• انهيارات اجتماعية كبيرة وخطيرة :تفكك أسري، طلاق، وما يقرب من ثلاثة ملايين يتيم بين اطفال ومراهقين وشباب فقدوا اباءهم في الحروب،  وعدد مماثل من الارامل.

• عدم الرضا عن الحياة والقلق من المستقبل وكثرة البطالة التي زادت نسبتها بين الشباب بشكل خاص.

• وجود اجانب يتعاطون او يتاجرون بالمواد المخدره.

• توافر المواد المخدره وسهولة الحصول عليها .

• تطرف ديني وضغوط نفسية يقابلها انفتاح غير منظبط على الاعلام الغربي يدفع بشباب ومراهقين الى تعاطي مخدرات صار الحصول عليها سهلا.

نضيف الى ذلك ما اكدته دراسات اجنبية وعربية من ان انتشار المخدرات يرتبط بدرجة الانفتاح على الثقافة الغربية، والعراق يعد البلد رقم (1) في المنطقة الذي انفتح على هذه الثقافة عبر قنوات فضائية بما فيها اباحية، واختلاط دام تسع سنوات بافراد قوات الاحتلال .

ومن المفارقات ان الدراسات أشارت ايضا الى أن الرواج النفطي يؤدي الى زيادة تعاطي المخدرات في البلد المنتج للنفط، بمعنى ان الثروة النفطية تؤدي الى الرفاهية، وهذه تؤدي الى ثقافة استهلاكية تفضي بشرائح اجتماعية الى تعاطي المخدرات.فلقد اشارت دراسة اماراتية الى ان نسبة تعاطي المخدرات في دولة الامارات زادت بزيادة انتاج النفط في السنوات الأخيرة. واضافت في اشارة الى الانفتاح على الثقافة الغربية، بأن مدينة دبي تاتي بالمرتبة الأولى من حيث عدد المقبوض عليهم في قضايا مخدرات تليها مدينة ابو ظبي ثم الشارقة. ومع ان ثروة العراق النفطية الهائلة لا تذهب الى الشعب في حالة من التوازن، فان هنالك شرائح اجتماعية صارت بفضلها مرفهة بينها شباب(محدثو نعمة) يمتلكون وفرة من الثروة وانفتاحا على قيم غربية وثقافة استهلاكية وخللا في التوازن الاخلاقي..تخلق حالة نفسية تفضي بعدد كبير منهم الى تعاطي المخدرات.

والمشكلة عندنا اننا لا نمتلك قاعدة معلومات عن واقع المخدرات في مجتمعنا، ولا نمتلك اجابات تمكننا من وضع خطة عن التساؤلات الآتية:

• ما حدود ظاهرة المخدرات في المجتمع العراقي؟

• ما هي خصائص المتعاطين للمخدرات؟

• ما العوامل الاجتماعية الفاعلة في انتشارها؟

• الى اي مدى تؤثر ظاهرة تعاطي المخدرات في اضعاف التزام الفرد بقيم المجتمع وتقاليده؟

• ما العلاقة بين انتشار تعاطي المخدرات وانتشار الانحراف بمختلف صوره؟

• ما العلاقة بين تعاطي المخدرات والاحجام عن المشاركة الفاعلة في التنمية والقضايا المجتمعية؟

•    وهل هنالك ثمة علاقة متبادلة بين اكتساب قيم  جديدة مضادة للقيم الاجتماعية وبين تعاطي المخدرات؟

تفسيرات نظرية.

ما الذي يضطر الانسان لتعاطي المخدرات؟

هذه قضية شغلت اهتمام الاخصائيين النفسيين والاجتماعيين، وتوصلوا الى تفاسير نظرية مختلفة نوجز اهمها بالآتي:

• الثقافات الفرعية: تفترض نظرية الثقافة الفرعية للأنحراف  Deviant  Subcultures وجود ثقافات مختلفة داخل المجتمع الواحد، وأن المنحرفين يتبنون نسقا من القيم يختلف عن نسق الثقافة السائدة في المجتمع، وأنهم غالبا ما يكونون من الفئات الشعبية المحرومة الذين لم تتوافر لهم فرص حياة تعليمية واجتماعية  كالآخرين، فيدفعهم شعورهم بالاضطهاد الى ممارسة انحرافات سلوكية :سرقة، اغتصاب، عدوان، تعاطي وبيع مخدرات.

• انعدام المعايير:منذ نصف قرن طرح عالم الاجتماع ميرتون نظرية أسماها (الأنوميا) ويعني بها التعبير عن الاحساس بانعدام المعاييرالتي اذا ما سادت في المجتمع فانها تحرم مجموعات اجتماعية من تحقيق مصالحها، ويؤدي هذا الاحساس الى ظهور شخصيات مضادة للمجتمع من بين افراد هذه المجموعات.ونبّه ميرتون الى ان المجتمعات التي تضع قيمة كبيرة على الأمور المادية ومسائل الترف، ولا تتمتع بها الا القلّة او مجموعات معينة في المجتمع، عندها تبرز حالة " الأنوميا" او انعدام المعايير وفقدان حالة المساواة، فتشعر الجماعات بأنه ما دامت مكافآت هذه المجتمع ليست متوافرة للجماعات كافة بحالة سوية فانها تتجاوز قيم المجتمع ونظامه وقواعده وتخرق محرماته ومنها تعاطي المخدرات والاتجار بها.

• الانسحاب الاجتماعي:ترى هذه النظرية أن متعاطي المخدرات هو في حقيقته شخص حرم او عجز عن تحقيق أهدافه بوسائل مشروعة فاضطر الى الانسحاب عن المجتمع .وقد يكون هذا الشخص مبدعا (اديب او فنّان بشكل خاص) منعته تقاليد او قوانين المجتمع من التعبير عن أفكاره وتحقيق منجز ابداعي..فيدفعه احباطه واغترابه عن مجتمعه  الى تعاطي المخدرات.وقد يكون من النوع المتمرد او المتزمت الذي يصعب عليه التكيف لمجتمع غير متوافق معه نفسيا فينسحب عنه وتضطره عزلته الى تعاطي المخدرات لتخلق له عالما بديلا ينسيه عالما هو فيه نابذ أو منبوذ.

• الوفرة الاقتصادية: تقوم فكرة الاقتصاد الريعي على افتراض أن العيش على المورد الريعي يهيء وفرة اقتصادية دون جهد في الانتاج، يؤدي بالنتيجة الى خلق حياة مرفهة واساليب استهلاكية معتمدة على دخل بلا جهد ينجم عنها انماط من السلوك المنحرف ..بضمنها الأقبال على المخدرات. وتفيد دراسات بوجود علاقة بين الوفرة الاقتصادية وتعاطي المخدرات وضعف القيم، بينها دراسة مصرية افادت بأن الهيروين زاد انتشاره في مصر بسبب الانتعاش الاقتصادي الذي ترتب على ارتفاع سعر القطن المصري الذي كان في العشرينيات يشكل المحصول النقدي الرئيسي للبلاد، وتراجع بعد الكساد العالمي الذي عم البلاد في الثلاثينيات.ودراسة اخرى حديثة في الامارات تفيد بزيادة نسب تعاطي المخدرات بعد الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته البلاد في تسعينيات القرن الماضي.

تلك نظريات لباحثين أجانب، نضيف لها  من واقعنا الاجتماعي العراقي نظرية نمنحها أسم:

نظرية التيئيس الانتحاري :تفترض نظريتنا هذه أن النظام السياسي حين يكون ولاّد أزمات فأن الانسان يمر بعملية نفسية دائرية بين :أزمة، انفراج ..أزمة، انفراج...تفضي به الى تيئيسه من أن النظام السياسي عاجز عن تأمين حاجاته، وأن الواقع لن يقدم له حلاّ لمشاكله..فيلجا من استنفد طاقته في تحمّل الضغوط ووصل الحالة القصوى من الملل وكره الحياة الى تعاطي المخدرات لانهاء حياته بعملية انتحار تدريجي لاشعورية.

نكتة..لها دلالة!!

في 18 كانون الثاني 2012 عقدت في اربيل ورشة عمل لمناقشة مسودة مشروع قانون المخدرات في الاقليم حضرها وزيرا الصحة والثقافة في حكومة الاقليم ووفدان من وزارتي الصحة والتعليم العالي في الحكومة الاتحادية وقضاة واختصاصيون اخرون. وقد تضمن القانون مادة تقضي بمنع بيع المسكرات. وحين جاء دورنا في المداخلة قلنا ان احد اسباب عدم تعاطي العراقيين للمخدرات هو تناولهم للعرق العراقي..وعلى حد تعبير احدهم: لماذا يلجأ العراقي للمخدرات ولديه حليب السباع!.

والنكته،  ان نائبة في البرلمان العراقي طالبت الحكومة والبرلمان بتحريم بيع الخمور من زاخو الى الفاو. فعلّق احدهم بقوله ان هذا يذكرني بقصة "عرقجي عراقي" خلاصتها: انه كان يأتي كل ليلة بربع عرق هبهب ويعمل لنفسه "مزّه" ويجلس في بيته يشرب حتى الثماله. وبدل ان يسمع ام كلثوم او داخل حسن تنهال عليه زوجته،  وكانت قبيحه جدا،  بعبارات التحقير والتشهير: (ابو العرك..يلما تستحي.. امخلص فلوسنا عالعرك.. وعيفنا كاتلنا الجوع.. يلفاضحنه بين الناس...).

وفي ذات ليلة قال لها كلمة كان لها مفعول السحر بحيث لبست له في الليلة التالية الاحمر.. وعملت له "المّزه" بنفسها. فحين انهالت عليه بالعبارات اياها التي تبدأ بـ "ابو العرك".. رفع كأسه وقال لها :

(لج دسكتي.. مو هو هذا المحليج بعيني)

ارتاح الحاضرون للنكته وارتاحوا اكثر لاقتراح رفع المادة الخاصة بالمسكرات لسبب مشروع هو:

دعوا العراقيون يسكرون كي ينسو همومهم!!.

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2015الاحد 29 / 01 / 2012)

في المثقف اليوم