قضايا وآراء

بحث في المشكلة الأخلاقية / هند الرباط

وأصبح الاهتمام بالمشكلات الأخلاقية مجرد حديث يتجاذبه  رجال التربية دون أن يحاولوا إثارة القضية على الصعيد الفكري البحت، ولم يكن من  قبيل الصدفة أن تكون (الأخلاق) هي آخر مادة فلسفية تناولتها أقلام المفكرين  العرب في الأعوام الأخيرة إذ قد وقر في نفوس الكثيرين أن حل المشكلة الاقتصادية  سيكون هو الكفيل  بحل المشكلة الأخلاقية وكأن التفكير في الأخلاق مجرد ترف فكرى لا يذكر إلا في الأزمات!!!

 

وأمّا الذين ارتأوا أن المهم في الأخلاق هو القدوة والمثال لا الأحاديث والأقوال فقد راحوا يعلنون عدم جدوى الأخلاق النظرية بحجة أنْها مبحث عقيم لا غناء فيه ولا طائل تحته وهكذا قذف بمادة الأخلاق إلى زوايا النسيان.

 

بيد أن بعض رجال الفكر الإنجليزي المعاصر أمثال مور واير واستيفنسون لم يلبثوا أن حوّلوا اهتمام فلاسفة الأخلاق نحو اللغة المستخدمة في كتابات أهل الأخلاق الفلسفية فراح الباحثون يحللون القضايا الأخلاقية ويكشفون عن طابعها الوجداني ويقارنون بينها وبين اللغة المستخدمة في العلم أو المنطق مثلا،

وهكذا تحوّل اهتمام الباحثين من المشكلة الأخلاقية بمعناها المحدد إلى مشكلة أخرى ميتا - أخلاقية ألا وهى مشكلة لغة الأخلاق.

 

وكان من نتائج هذا التحوّل أن دعت الحاجة إلى التمييز بين الجانب العلمي للمشكلة الأخلاقية أي جانب النظرية الأخلاقية من جهة والجانب العملي أو التطبيقي للمشكلة ألا وهو جانب الحياة الخلقية من جهة أخرى ومن ثم فقد استحالت الأخلاق إلى ميتا - أخلاق وحلت مشكلة اللغة الأخلاقية محل مشكلة الحياة الأخلاقية.

 

ولئن يكن من العسير على الباحث المنطقي أن ينكر أهمية تلك الدراسات اللغوية إلا أن أحداً لا يتصور أن تقضى مثل تلك الدراسات اللغوية على صميم المشكلة الخلقية بوصفها إشكالاً حياً يعيشه موجود تاريخي لا يكاد يكف عن التساؤل "ما الذي ينبغي لي أن أعمله" فليس في استطاعة الأبحاث المنطقية التي يجريها بعض الفلاسفة على لغة الأخلاق أن تقضى بجرة قلم على المشكلة الخلقية الحقيقية بكل ما تنطوي عليه من جدية وخطورة وقلق.

 

بيد أن ظاهرة التهرب من الذات قد حدت بالكثيرين إلى العمل على إسقاط المشكلة الأخلاقية من حسابهم الخاص فقضت على الحياة الباطنية للكائن البشرى وجعلت منه إنساناً خاوياً

والواقع أنه إذا كان ثمة شيء قد أصبح الإنسان المعاصر مفتقراً إليه، فما ذلك الشيء سوى الوعي الأخلاقي الذي يمكن أن يوقظ إحساسه بالقيم.

 

وحسبنا أن نمعن النظر في حياة الإنسان المعاصر لكي نتحقق من أنها سطحية وخاوية يعوزها عمق الاستبصار وينقصها كل إحساس بالمعنى أو القيمة خصوصاً وأن الحياة الآلية الحديثة قد جعلت من وجود المخلوق البشرى وجوداً مزعزعاً لا سكينة فيه ولا تأمل بل مجرد حركة وسرعة وتعجل وقد لا تخلو حياة الإنسان المعاصر من جهد ونشاط ولكنه جهد لا غاية له ونشاط لا هدف له، اللهم إلا إذا قلنا أن هذا الهدف هو التنافس الذي لا يخفي وراءه أي تأمل أو تفكير

وإذا حاول الإنسان المعاصر أن يتوقف لحظة سيجد نفسه محمولاً على تيار اللحظة التالية دون أن يملك من أمر نفسه شيئاً

ولهذا أضحى الإنسان المعاصر موجوداً قلقاً متهوراً كما أصبح كائناً سطحياً لا شيء يلهمه ولا شيء يحرك كوامن وجوده الباطني.

والحق أن رجل الأخلاق هو على النقيض تماما من الرجل المتعجل المتهور

وقد كان القدماء يسمون الحكيم باسم الرجل العارف ولكنهم كانوا يعنون بالمعرفة هنا (الذوق) فكان الإنسان العارف في عرف القدماء هو الإنسان المتذوّق، والفيلسوف الألماني الكبير نيكولاي هارتمان يشرح لنا معنى الإنسان المتذوق فيقول إنه المخلوق ذو البصيرة الذي يصح أن نطلق عليه رائي القيم.

ولو أننا فهمنا الأخلاق بمعناها الواسع لكان في وسعنا أن نقول أن رجل الأخلاق هو ذلك الإنسان الذي يتمتع بقوة نفاذة تعينه على تذوق قيم الحياة بكل ما فيها من وفرة وامتلاء.

ونستطيع أن نقول إننا هنا بإزاء حساسية أخلاقية تتفتح لشتى ضروب الثراء الكامنة في الحياة وتنفذ إلى أعماق القيم الباطنة في الوجود.

 

وليست مهمة فيلسوف الأخلاق سوى أن يأخذ بيد الإنسان المعاصر لمساعدته على استرداد تلك الحاسة الأخلاقية حتى يعاود النظر من جديد إلى عالم الأشياء والأشخاص بعين نفاذة ترى القيم وتدرك المعاني وبذلك ينفتح أمامه ذلك العالم الروحاني الذي أغلقه هو نفسه في وجه نفسه.

 

وإذا كان الكثير من الفلاسفة قد درجوا على تصوّر الأخلاق بصورة العلم المعياري الذي يحدد لنا السلوك الفاضل أو ما ينبغي أن يكون فمن واجبنا أن نضيف أيضا أن الأخلاق فلسفة علمية تفتح أمام الإنسان ملكوت القيم وعلى ذلك فالأخلاق لا تلقن الفرد بعض الأحكام الجاهزة بل هي تعلمه دائماً كيف يحكم وتوجّه انتباهه نحو العنصر الإبداعي في ذاته فتتحداه طالبة إليه في كل مرة أن يلاحظ ويحدس ويتكهن، وتدعو الإنسان إلى التصرف في كل مناسبة وفق ما يقتضيه الموقف بحيث يجيء سلوك الإنسان سلوكاً أصيلاً جديداً ومبتكراً.

 

فالفلسفة الأخلاقية لا تريد أن تحتبس الإنسان داخل بعض الصيغ الميتة الجامدة بل هي تريد له أن يتقدم باستمرار نحو المزيد من الحرية والمسؤولية والقدرة على توجيه الذات.

 وإذا كان الكثيرون قد توهموا بأن الأخلاق لا تزيد عن كونها مجرد نداء الواجب وأنها تصدر بعض الأوامر والنواهي وتضع بعض الوصايا والقواعد، فمن واجبنا أن نقول أن رسالة الأخلاق الحقيقية هي تحويل العالم من المرتبة الطبيعية البحتة إلى المرتبة الأكسيولوجية (الأخلاقية) الحقيقية، وليس معنى هذا أن الإنسان هو خالق القيم إنما الإنسان هو همزة الوصل الوحيدة بين الواقعة والقيمة ،فهو الجسر الحقيقي الذي تعبر فوقه الطبيعة لكي تستحيل إلى ملكوت القيم،

والحق أن للأخلاق الفلسفية وظيفة إيجابية إلى أعلى درجة لأن واجبها أن تربى المربي نفسه حتى يصبح أهلاً لتربية النشء، وهذا ما فطن إليه أفلاطون قديماً حينما قال أن الأخلاق هي مربية الإنسانية.

معنى هذا أن الأخلاق تضطلع بمهمة المساهمة في إيقاظ الإحساس بالقيم لدى الإنسان، وسيبقى المربون الحقيقيون قلة دائماً ولكنهم بلا شك ملح الأرض على حد تعبير السيد المسيح عليه الصلاة والسلام.

لأنهم وحدهم الذين يرون ثم يعلِّمون الآخرين كيف يرون.

 

بقلم :هند الرباط / كاتبة وشاعرة مصرية

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2016الثلاثاء 31 / 01 / 2012)

في المثقف اليوم