تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

إبداع المرأة بين الخصوصية والسؤال ../ بشرى البستاني

وان هذا الخطاب  يمكن أن يحمل في جملته ما يميزه عن أدب الرجل الذي يتسم بدوره بسمات خاصة هي سمات الذكورة والقوة ..؟ وهل يمكننا من خلال ذلك عدّ إبداع المرأة مختلفاً عن إبداع الرجل، أو مناقضا له، أو مقدماً لصورة أنثوية وحياتية تختلف عن الصورة التي رسمها خطاب الرجل لها وعنها وعن الحياة عبر التَّاريخ، وأسئلة أخرى كل سؤال منها سيتيح فضاءات عدة لأجوبة تتعدد بتعدد قرائها، وتتنوع تنوع المنطلقات التي تصدر عنها تلك القراءات، فكل جواب بالإيجاب سيكون عليه حوار من الطرف الأخر يمانع ويبرهن،أو يتفق ويدلل ، لكن ما يهمنا في هذه القضية هو أن مجرد توجه المرأة بالخطاب هو شروع بالتحرر من أغلال الصمت الذي فرضته اشتراطات عدة وليس الرجل وحده، فكثيرا ما نجد الرجل أو شرائح متعددة من الرجال يدخلون في دائرة الاضطهاد ذاتها حين تكون منظومة الاستبداد واحدة  ، لكن ما وقع على المرأة من أعباء كان أشدّ قسوة بحكم ظروف لا تخفى على الدَّارس، ظروف بدأت مناهضتها بجدية مع بداية النهضة العربية وما صحبها من وعي على الأصعدة كافة، حيث أمسكت المرأة بالقلم وراحت تشكل حالة من الثورة على الواقع باتجاهين، الأول ثورة على الذات التي اعتادت الخوف والرضوخ والتبعية، والتوجس، ذلك ان اختيار الحرية مسؤولية كبرى يتطلب وعيها تواشج شروط ذاتية وموضوعية معا، والثاني ثورة على منظومات القيم التي عملت على التغييب والإقصاء وعلى إبعادها عن مراكز الفعل وميادين صنع القرار، حين أسندت اليها المنظومات التقليدية الجانب العاطفي، وكبلتها بمسؤوليات الخدمة الأسرية، مما ألحق بها أضرارا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، وبالتالي أضرارا سيكولوجية لا حصر لها.

وهكذا، مع إمساك المرأة بالقلم بدأت عملية كسر الحواجز التي منعتها وتمنعها من التواصل وديمومة الفعل، فالكتابة إفضاء والإفضاء تعبير عن امتلاء وثراء، وذلك أول مفاتيح الحل، والكتابة هوية وديمومة وخطاب، والخطاب سلطة، والسلطة حضور بقوة، وإملاء لأوامر كانت مسكوتا عنها، والسلطة صوت، وهذا الصوت بالنسبة للمرأة كان في طي الكتمان خشية أو رهبة أوتقية، والصوت إفصاح وعلامة وكشف عن الذات، إنه الهوية وقد تجلت، و الكلام وقد انبثق من أعماق الغياب مذ ضاع حضورها زمن اكتشاف الزراعة حيث استقرت الأسرة بعد طول رحيل مع الصيد، وحيث قسم النظام الذكوري الأدوار فاختار لنفسه صنع القرار السياسي والاقتصادي ، ومنحها الدور العاطفي متمثلا بالأمومة وخدمة البيت الذي يتزعمه الرجل، ومن هناك بدأت عملية حجبها عن الحياة العامة كما بدأ تغييبها لتظل الأنظمة التقليدية المتسلطة أحقابا منفردة بالتخطيط للحياة وصنعها والتشريع لها وكتابة تاريخها، وتفسير اديانها ، وظلت الأنثى هي التابعة المتلقية بصمت، وإن حضرت فمن وراء حجاب.

**

لكن هل استطاعت المرأة أن تقول كل شئ بالكتابة، وكيف يكون لها ذلك بعد طول منع.؟ وبعد تقليدها وحدها حمل وسام شرف الرجل والأسرة والعشيرة وحتى القبيلة وإلى هذا اليوم، من خلال ازدواجية فكرية – سلوكية تفهم الشرف فهما ذرائعياً يبعده عن مزاياه الأصيلة في النبل وشرف الفعل والعطاء.

لعل الكتابة كانت أكثر رأفة بالمرأة لما تمتلكه الكتابة الأدبية من قدرة على الإخفاء والمواربة والترميز واللبس والتغييب ، بحيث تقول ما تشاء دون أن يمسك عليها أحد يقينا، فقد سبق للمرأة عبر التاريخ أن قطع لسانها وعوقبت بالحجر والطلاق والإقصاء بسبب ما قالت من شعر أو نثر، وحتى في العصر الحديث وجدنا عددا من الكاتبات الأوربيات والعربيات يكتبن بأسماء مستعارة أو بأسماء رجال كما فعلت جورج صاند وجورج اليوت، وكما فعلت بنت الشاطئ كذلك، احترازا من الإشكاليات التي يمكن الوقوع بها لدى التصريح بأسمائهن.

كان ذلك في البداية، وبعدها تجرأت الكثيرات على البوح ثم التصريح بما كان يصعب التصريح به ولا سيما فيما يخص الايروتيك والجسد وما يتعلق به من تفاصيل.

مرة أخرى، هل يختلف أدب المرأة عما يكتب الرجل من أدب.؟ وإذا اختلف فأين يكمن اختلافه في اللغة والأداء والتشكيل أم في المضامين والطروحات .؟

يكاد يجري الاتفاق على أن المرأة أقدر على التعبير عما يخصها من موضوعات بيولوجية وأنثوية فيما يتعلق بجسدها ووظائفه وبأحاسيسها وسيكولوجيتها، أما البنية التركيبية للأدب، فهي تتعلق بما سمّاه رومان جاكوبسن: محوري الاختيار والتأليف، إذ يختار كلٌ من المرأة والرجل مفرداتهما من اللغة لبناء النص الأدبي وتشكيله كلٌ حسب اشتراطات ذاتية تمليها عليه طبيعة موهبته وثقافته ومعارفه وذوقه الفني وطباعه ومدى سعة رؤيته الفنية والحياتية والجمالية معاً، وكيفية النُظم التي يتبناها في تشكيل كل ذلك ، وهذا الأمر يتسع ليشمل جميع المبدعين نساء ورجالا، وإذا كانت الطبائع تتفاوت ما بين الشفافية والقوة والتوازن، فإن السمات النصية ستختلف كذلك بين الشفافية والقوة والتوازن حتى لدى الجنس الواحد من المبدعين.

   أما أهل نظرية التناص فقد اختصروا الأمر من خلال إيمانهم بأنَّ النص ما هو إلا نتاج ما تداخل مع بعضه من نصوص قديمة أو محايثة للنص الجديد، سواء كانت هذه النصوص مكتوبة بأقلام نساء أم رجال، ويحكم النص في عملية التداخل هذه حسب جوليا كرستيفا شرطان، الامتصاص والتحويل للنصوص القديمة بحيث لا يكون النص الجديد نسخا لها ، مجردا من الإبداع، بل لا بد للنصوص المتداخلة هنا من التحاور والمشاكسة والاختلاف للخروج بنص جديد ليس له من القديم غير المثيرات، وإذا كان كل نص أنثوي او ذكوري هو هذا التداخل المتواشج من نصوص لأزمان وحوادث ووقائع كانت من نتاج نساء ورجال مختلفين، فمن الصعب اذن تأشير سمات حاسمة للتفريق بين أدب المرأة وإبداعها، وأدب الرجل وإبداعه، لكن يبقى ما يتعلق بالجانب العاطفي والمشاعري الذي قد يتفوق لدى المرأة على عواطف الرجل قوة وتدفقا أحيانا، والذي يعلله النقد النسوي بطبيعة التنشئة أو التربية المغايرة التي تتلقاها الأنثى من قبل الأسرة ومؤسسات الذكورة التي توجه المجتمع، وليس طبعا في بنيتها التكوينية أو البايولوجية .

وعلى أية حال، سيظل هذا الموضوع مطروحا للنقاش ما دامت المختبرات التشريحية واللغوية والنقدية والنفسية لم يجرِ فيها ما يحسم الأمر في دراسات معمقة وكشفية وتحليلية وإحصائية وموازنات تطرح القضية بشكل علمي، وحين يصح ما يطرحه المختبر التشريحي اليوم من كون تشكيل الخلايا المخية للرجل صندوقية بمعنى أنها تتشكل من ملفات، يختص كل ملف بقضية معينة أو قضايا مؤتلفة المضامين تختلف عن قضية الملف الآخر، بينما تتشكل الخلايا المخية للمرأة شبكيا مما يجعل التواشج لديها سمة خاصة وأصيلة ، سيكون الحسم في موضوع خصوصية إبداع المرأة أمرا متاحا، لأن التعبير لابد منبثق عن مصادر التحسس، انفعالا واستقبالا وبثاً، وسواء جرى هذا الأمر في وقت قريب أم بعيد، أم لن يحدث أصلا، فإن ما تكتبه المرأة وكثيرا مما يكتبه الرجل في هذه الموضوعات التي تبدو ظاهريا متعلقة بقضايا المرأة لكنها في الحقيقة كما أكد علم الجندر تتعلق بمجمل قضايا الاسرة والطفولة والمجتمع الانساني كله ، وأن هذه القضية المهمة ستظل أدبا يشتغل في واحد من حقلين، أنثويا يتجلى في حقل الجمال بوصفه مبحثا فلسفيا، او في حقل النسوية بوصفها مصطلحا سياسياً حاول بتطرف فصل الثنائية الأساسية في الخلق والحياة عن مجمل القضايا العامة للوطن والمجتمع وكثيرا ماعدها ثنائية اختلاف بينما هي بطبيعتها الإنسانية ثنائية ائتلاف وحوارية حب وثراء ، وما سوى ذلك لن يصنف الا في الحيادية والسكون ، على أن ما يجمع الإبداع الذي ينتجه الاثنان، هو تلك الاشتراطات التي لا يكون أو يتشكل إبداعٌ إلا بها؛ من مواهب وقدرات تشكيلية فنية وثراء معارف وإتقان بناء ونظم، وهو ذلك التوجه الإنساني والتطلعات النبيلة التي تحرص على حماية حلم الإنسان من الانكفاء، وحماية روحه النقية من الانكسار وصون كرامته من الانحناء امام العقبات ، ففي هذا الجانب لن يختلف أدب المرآة عن أدب الرجل في أطروحاته حين تكون القضية اكبر من قضية ذكورة وأنوثة ، بل هي قضية الإنسانية المفتقدة في ظروف عدوانية تسحق الجميع بلا استثناء ، وتحرّض الإبداع الحقيقي لدى الأطراف كلها على التحدي وتفعيل روح المقاومة والتواصل .

  أمَّا من يريد البحث عن الفروق والسمات الخاصة فإنه سيجدها حتى لدى المبدع الواحد بين عملين من أعماله أو مرحلتين من مراحله، وإذا كانت نظريات القراءة ومعها التأويلية والتأويل قد انفتحا على الآفاق الرحبة فتعددت الدلالات بتعدد رؤى القراء، وانفتح التفكيك على ما لا نهائية القراءات بالاختلاف والارجاء ودوام التأجيل ، فإن قضية خصوصية أدب المرأة وإبداعها ستظل بؤرة جذب، وسيظل البحث في هذا الموضوع محور إثارة ولبس وانفتاح على تعددية الآراء و الآفاق، وذلك من أهم ما يحرص عليه الإبداع الأصيل .

             

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2016الثلاثاء 31 / 01 / 2012)

في المثقف اليوم