قضايا وآراء

مصدق الحبيب .. معزوفات عن براءة جسد الأنثى / زيد الحلي

وكان الى جانب ذلك ينشر رسومات على صفحتها الأخيرة لم تثر أهتمامي في وقتها ، ربما لأنه كان في اول مشواره الفني والثقافي .

وأنقطعتُ عن متابعة نشاطاته، مثلما أنقطع وصل حبل ود الجبهة الوطنية في العراق وأنفرط عقدها لأسباب ذاتية في أكثرها، وموضوعية في أقلها، فأنسحبت صحيفة "طريق الشعب " من أكشاك الباعة وأختارت الصدور سرياً مثلماعاد الحزب الشيوعي العراقي التي كانت تصدر الصحيفة بأسمه الى العمل السري، ولا أعرف إن واصل عمله فيها في فترة الإصدار تحت سطح الأرض ..

ومنذ ذلك الحين وحتى الأمس القريب، غابت أخبار "مصدق الحبيب " عني، وكنتُ أظن ان الرجل فقد القدرة على المواصلة او نضبت منابعه و.. و.. غير ان الايام أثبتت ان الخلل فيّ بعدم متابعة هذه الشخصية التي توسعت مساهماتها الثقافية في الخارج فيما انا كنتُ في الضفة الآخرى حيث لم أكن مطلعاً بعد على عالم الأنترنيت بعالمه الفسيح ..

وأعرف بعدئذ ان " مصدق الحبيب " غادر العراق، مثلما غادر غيره، وحط في بلاد الغربة، مواصلاً النهل من بئره الثقافي المتنوع، مشكلاً معلماً فنياً بارزاً، غاذاً السير في متفرعات الابداع، مؤكدا اصالته في الرسم والكتابة والخط وربما فنون اخرى، وكان هذا الفنان ودوداً في نسج حبل التواصل مع ابناء جيله، وكثيراً ما غمرني بكلمات الود في تعليقاته التي تعقب نشر بعض ما أكتب ..

وبت أطلع على ابداعات مصدق الحبيب  من كتابات ورسومات وخطوط من خلال بعض المواقع الألكترنية، حاسباً إنها كل نتاجاته، لكني كنتُ واهماماً لا سيما حين قدم لي زميلي الصديق الناقد د.حسين سرمك كراسة أنيقة من القطع الكبير بـ 168 صفحة بعنوان (معزوفة الألوان / أعمال تشكيلية مختارة لمصدق الحبيب) ضمت أعمالاً فنية وخطوطاً وافيشات افلام ولوحات دعاية لم أرها رغم مضي سنتين على صدورها .

كانت مفاجأة جميلة لي، ان تمسك يد عراقية بفرشاة بأعلى التقنيات والثقة بالنفس لتشكل حديقة غناء ولا أروع من أعمال تشكيلية جديدة في المحتوى والشكل والريادة . 

   ولمستُ وانا أمعن النظر في الكراسة ان الفنان مصر على التأكيد  بأن لكل فنان رؤيته الخاصة لتجسيد العمل الفني..ولكل أنسان رؤية خاصة للحياة.. ومصر أيضاً على ان يقول لنا إنه موجود في رسم الوجوه بطريقة خاصة به، فقدم الجواهري والسياب وجواد سليم والزعيم عبد الكريم قاسم وغيرهم بألق فني بارز، مثلما أكد على وجوده متميزاً في تصميم اغلفة الكتب والإعلانات التجارية بأسلوب حديث كانت فيه المرأة ورسوم الأطفال والحيوانات هي المحور بأشكال كارتونية جميلة ... ولم ينس كونه من المتابعين والمهتمين والممارسين للخط العربي والتشكيل، فأنجز كتابه المهم (الفن والحرية والإبداع )..

01-musadaq

قلم الرصاص عند الفنان كان ناطقاً، وسمعته من خلال عشرات الأعمال، وكذلك الألوان المائية والزيتية، أما قصبة الخط، فقد كانت طوع بنانه، فتناغم معها، مقدماً لوحات تنتمي للزمن الجميل ... زمن سيد الخط العربي هاشم الخطاط . ويبدو إن موهبة الخط عند الفنان جرّته الى أكتشاف المتعة والضرورة كونه من الاعمال الجمالية الفردية والاجتماعية كونه يمس مشاعر الناس ويدغدغ رؤاهم،  ويجمع بين العذوبة والفائدة وبين العام والخاص، وأستطاع بهذا الفن ان يحمل الينا تصوراته دون معوقات وحواجز وبرشاقة، مبتعداً عن التعرجات، معلناً أكتشافه أسرار الخيوط الدقيقة لفن التشكيل برؤية أدبية . . وفن الخط هو الفن الوحيد الذي يتكلم عن صاحبه من دون وساطة بخلاف الفنون الأخرى . 

 ويشعر من يتابع الأعمال المنشورة ان الفن عند " مصدق" ليس تجميعاً صورياً مباشراً بل هو ومضة، شبيهة بلمحة بصر، وكيف يمكن تجميد هذه اللمحة لتقف أمام ما يريد ان يعبر عنه العمل وقفة اندهاش وتعاطف،  ومهمة الفنان هي الإدراك والإحساس وعلى المشاهد التفسير والتحليل .

ولاحظتُ ان الفنان، حاول ونجح في محاولاته، في بتر الزوائد والأدران والإسهابات غير المبررة في جميع لوحاته، ولو كان غيره رسمها لبانت الكثيرمنها..

 استطاع هذا الفنان ان يحلق بنا ويأخذنا في سفرة الى الشموخ الفني، ويدهشنا بلوحات ومعان كثيرة .. ووجدتُ الكراسة غنية باللوحات وغنية في تنوعها، رغم كونها تبدو وكأنها موضوعة للمتخصصين في الأعمال التشكيلية، لكن ليس بلغة اكاديمية، بل بلغة التاريخ من غير رتابة السرد وريشتها واضحة بدون تقعر في تعبيراتها .

ولستّ خجلاً من القول إنني كنتُ أتوقع ان ترى عيني اثناء سباحتي في كراسة الفنان، لوحات ورسومات تتحدث عن الفقر والأمية والإنسان المسحوق، بانياً ذلك التوقع على تصورات سابقة لمنهجية فكر وأديولوجية الفنان السياسية، غير أنني وجدتُ شيئاً مغايراً تماماً، فيه من الترف الشيء الكثير، وليس في ذلك مثلبة، انما هو تأكيد الى ان العالم يتغير في ظل (العولمة)  وتتوسع رقعة الجمال حين يجد المرء ان ماكان يناضل من أجله وجده متحققاً في بلاد .... رأسمالية !!.

 

الحداثة والتراث

وبغض النظر عن ملاحظتي هذه، أقول ربما ان احساس الفنان مصدق، بما تستحضره ذاكرته وما طرأ عليها نتيجة الغربة، هو الذي شكل شخصيته الفنية بصورتها النهائية.. وهذا الإحساس هو الذي قاده الى صيغ حياة متخيلة، لكنها تقترب من واقع يحبه ويشتهيه ... حياة فيها أنتقال من جو او واقع ما،  الى واقع او حالة أخرى مخالفة دون ان تفقد حرارتها او صدقها مع التعامل مع الواقع ودون ان يؤثر ذلك على التماسك الفني لأعماله، فأستطاع ان ينسل شعرته من عجين آرائه بحرفية عالية !

وانا مع الفنان (كفاح الحبيب) الذي قدم للكراسة بكلمة عنونها " ما بعد الحدائة وتزاوجها مع الفن الإسلامي " حين قال (ان مصدق الحبيب ركز على ريازة الصنعة بوجهيها الشكلي واللوني لا بإعادة الإنتباه الى سحر التكعبية حسب، بل انه يجدد من زاوية ما، فعل مشهد الخمسينيات في الفن العراقي المعاصر الذي قاده الخالد جواد سليم في انجاز رسم غارق في محليته بقالب تقني اوربي) لكني لست معه حين يقول (هذه الاعمال تقدم تضافرا لافتا لمغزى التبادل التعبيري ما بين إيقاع حركة الاشكال التي تؤلفها التقاطعات وتصاعد النبرة اللونية المغلفة لها، سواء من تدرجات لون واحد ــ توافقية ضوئية ــ او من تناقضات حادة ما بين الأحمر والأخضر والأزرق ــ تضادات تركيبية ــ) ففي الأعمال التي ضمتها الكراسة وجدتُ ان مصدق الحبيب عبر عن رؤية تاريخية لجمالية الحضارة والبحث في جوهر ذلك التاريخ واكتشافه من جديد ودفعه الى الأمام لتفهمه الأجيال في مختلف تعاقباتها، ويعتبر الخط  الذي أمتلك ناصيته الفنان  بأقتدار ووضّفه بشكل لافت، فن الدقة والتفاصيل وهو يربي العين على احترام الأجسام الدقيقة، وما اكثر (الأجساد) التي متّعنا بها الفنان في أعماله ! 

 01-musadaq2

البراءة وجسد الأنثى .

ان قضية الحداثة ليست في التعامل مع التراث او في رفضه، بل هي اصالة ودراسة وموهبة، مثلما هي تحرر وانطلاق، وأظن ان مصدق الحبيب أبطل وفق هذه الرؤية كل دعاوى رفض التعامل مع التراث بحجة التخلف عن ركب الحضارة، وأحسستُ ان اعماله تنبض نبضاً حياً .. أكاد أسمعها حين أمعن النظر فيها، وللفنان جرأة، أحسدها عليه حين أستخدم جسد المراة في رسومات عدة، وكأن لا وجود للبراءة والعذرية في هذا الجسد . بل ان البراءة فيه مقتولة، والقاتل هو شبق وأشتهاء الرجل .. كرر الفنان رسم المرأة بمختلف اوضاعها  الى الحد الذي بالكاد فيه  حصلنا على رسومات  للنشر، ورسوماته لجسد المرأة تمت على وفق رؤية حيوية  توحي بأنه يمتلك عدة ينابيع للرصد النفسي عن المرأة، ومما لايدع مجالاً للشك ان الفنان يعتقد ان له باع طويل في عالم المرأة ، لكنه نسى ان الشيطان هو أستاذ الرجل وتلميذ المرأة !!

 لقد جاءت رسوم المرأة وجسدها بتجسيد عالي المستوى ولايمكن سوى القول ان الفنان معجون بتفصيلات جسد الانثى، وكأنه يقول لنا ان عين التشكيلي لا تخطئ ابدا، وهذا التجسيد في اعمال الفنان ليس أطارا رتيباً او أستطرادا شكلياً، بل انه تجسيد كالنهر، متدفقاً في نسيج الرؤيا، فاعلة ومفعلة ..  

ان لوحات مصدق تحمل أبعاداً، غنية للغاية، كما تحمل رصيداً فنياً في الرصد والأداء والتدفق الداخلي لأفكار ظلت حبيسة في جوف الغاطس من مراحل الحياة الأولى للفنان والتي عشناها جميعاً كأبناء جيل واحد، وكأني ألمس روحه تنساب منه على الورق لترقص  بين الخطوط سواء كانت حادة، منكسرة، ناطقة بالحزن، صارخةً بألم ومعاناة القسوة أو كانت رقيقة، متمايله، برشاقة تعبر عن مشاعر في مرحلة وحالة ما.. لقد حاول الفنان في أعماله التأكيد على انها تستمد قوتها من ألتصاقها بمن يتابعها، حتى لو لم يكن هذا المتابع عاش او عايش ما يشبه تلك الاعمال، فسعى الى ان توحي بأنها تعنيك وتمسك حتى في أدق خلجات النفس وأخص خصوصيات الحياة .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2019الجمعة 03 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم