قضايا وآراء

الصعود حتى التلاشي .. وقفة مع الشاعرة الأستاذة د. بشرى البستاني / قصي الشيخ عسكر

وإجادة الشاعرة البستاني لهذين النوعين من الشعر دليل على مقدرتها وموهبتها وثقافتها في الوقت الذي نجد فيه كثيرا من الشواعر يهربن إلىقصيدة النثر التي قد يجد المرء فيها نفسه شاعرا من حيث لايدري إذ نجد الآن الكثير من الشعراء العرب والشواعر الذين  يمارسون واللائي يمارسن الكتابة في هذا النوع فبعض هؤلاء يبدع والعديد منهم يسقط ويضيع ويتلاشى فلا أحد يتذكره.

  أما وفق الترتيب الزمني فيمكن أن نقول إن لميعة عباس عمارة من حيث موقعها الشعري ومنزلتها الأدبية كانت حلقة الوصل بين الرواد المجددين والرائدتين المجددتين د.عاتكة الخزرجي ونازك الملائكة من جهة وجيل من المبدعات اللائي  جئن بعدها  من جهة أخرى   وتأتي في مقدمة هؤلاء  الشواعر الشاعرة المبدعة  الدكتورة بشرى البستاني مع ملاحظة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هي إن الزمن قد يدل في بعض الأحيان على نسبية لاتخضع لقاعدة ثابتة فربما نجد شاعرا ما يعيش في القرن الحادي والعشرين لكن صوره وتعابيره وأسلوبه يندرج ضمن مجموعة شعراء القرن التاسع عشر لذلك اتجه الشعر العربي النسوي في العراق ثلاثة اتجاهات هي: الاتجاه التقليدي فهناك شواعر بعد لميعة لم يبدعن لافي الشعر العمودي ولافي شعر التفعلية، والاتجاه الثاني هو مانجده عند شواعر اتبعن طريق السلامة فمارسن كتابة قصيدة النثر، وشواعر أثبتن وجودهن مثل الشاعرة المندائية ناجية المراني والشاعرة القديرة بشرى البستاني.

وقبل أن أقف مع بعض قصائدها ناقدا ومحللا وشارحا أود أن أذكـِّر بمنهجي النقدي الذي التزمت به ألا وهو سعيي دائما في التقاط كلمة من النص أو جملة تؤثــِّر فيّ أكثر من غيرها قد تكون هذه الكلمة ظاهرة ملحوظة أو مضمرة معنوية أسجلها من مجموع عدة معان أبحر  من أجل التقاطها في أعماق النص.

  لدي قصيدة عنوانها " موسيقى" وهي من مجموعة " أندلسيات لجرح العراق" تقول الشاعرة في بدايتها:

فجأة يسقط الثلج في الصالة المقفلة

فجأة تتداعى الغيوم

تسد النوافذ

لحن أخير يرف على الشرف المطفأة

هكذا تبدأ القصيدة  وحين نستمر في قراءتها نجد أن المقطع الأخير ورد وفق الشكل التالي:

فجأة يتداخل بحر بأفق

وأرض بنهر

تدور الصحارى

وأصعد

أصعد  حتى التلاشي

   لاأخفي أنني كدت أن أعتمد كلمة يسقط لأجعلها محور انطلاقي في تحليل النص غير أني حين أنعمت النظر في القصيدة وجدتني أسيرا بين كلمتين أحدهما في البداية جعلتني أنفعل بالنص وهي كلمة : يسقط  التي احتلت السطر الأول ثم كلمة : يصعد التي احتلت السطر الأخير وجعلتني متفاعلا بالنص ذاته ، وبين الانفعال والتفاعل أي بين السقوط والصعود تحركت مساحة شعرية واسعة بكل صورها وزخمها المعنوي وتداعياتها.

إن السقوط يضاد الصعود والسقوط جاء بعد دفقة زمنية سريعة عبرت عنها كلمة " فجأة" هذه الكلمة المفتوحة التي تدل على شيء غير عادي يتعلق بالتغيير لذلك احتلت كلمة فجأة مساحة واسعة في الرواية والقصة القصيرة والشعر والشيء غير العادي هو سقوط الثلج وسط صالة مقفلة.أهو بيت مقفل دافيء أو يوحي بالدفء على الأقل.أم هي الأرض كلها صالة مقفلة.. ولعله جسد الإنسان من الداخل. عقله وروحه...على أية حال إن هناك انفعالا ما ينتابنا حين نسمع كلمة ثلج يتلخص هذا الانفعال بالبرودة والقشعريرة. إنها قشعريرة البرد، انفعال ما يوحي بكون الأشياء بعد الثلج تتلفع بالبياض . غيم . ضباب. نوافذ مغلقة.كفن ما.. سكون ما..لون واحد.. كل هذه المشاهد تحولها الشاعرة إلى صوت، أو نغم لتبعث فيها الحياة فننتقل من حالة البرودة إلى الشعور بالدفء مع الصوت.

أعود بعد ذلك إلى النهاية حيث الكلمة الضد وهي " الصعود" هناك النزول كان من السماء حيث الغيوم والضباب اللذان دفعا بنا إلى الانفعال، وهنا وجدنا صحراء وبحرا ونهرا. الصحراء يبس ولامطر ، والبحر سعة وملح ، والنهر عذوبة وارتواء، أمور كلها لاتستطيع الارتقاء منفردة. إن الثلج يجعلني منفعلا لكن النهر يتفاعل بي. الغيم انفعال والصحراء عمقي وتراثي وأصلي فهي التفاعل بحد ذاته هي أنا ، نحن ثلاثة في واحد الصحراء والبحر والنهر الأفق امتدادنا اللامتناهي لايمكن أن ننفصل قط وليس هناك أمامنا من حركة أخرى. مادمنا نحن الأفق فلاحركة لنا تنحو لاتجاهات معروفة سلفا  تدعى شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، أمامنا فقط حركة عمودية  لكن بأي اتجاه؟

   هنا أعود ثانية إلى المقطع الأول، فأذكر أن الشاعرة  حولت المشهد من لون واحد هو الثلج الذي سقط إلى صوت " نغم"  وجعلت تدفق القصيدة من حيث تداعيات الصور كالآتي:

أمد ذراعي

أمسك مايتناثر من ندف النغم

الشمس تومض تنفتح النافذة

فجأة

إذا ً كانت الحركة من الاعلى نحو الشمس . الغيوم لم تسقط على الأرض لم تصل الصحراء والبحر كما الفناه عن الغيوم التقليدية التي تحدث عنها أبو تمام:

ديمة سمحة القياد سكوب  مستغيث بها الثرى المكروب

بل قلبت الشاعرة الصورة وشكلت بريشتها اللغوية الموسيقية صورة أخرى هناك شمس في المنتصف مكانها على امتداد بين الغيوم والصحراء، فالثلج يهبط أو يسقط على تلك الشمس والصحراء تنتقل نحوها .إن هناك مساحة من الحركة والصوت أسفل هذه الشمس :

فجأة

وترف البلابل

يهدر موج عصي

تغادر روحي قضبانها

فجأة

 يتداخل  بحر...

هكذا إذا ً هناك حركة من أعلى إلى أسفل بداية القصيدة ثم مركز يستقطب اتجاه السطور احتلته الشمس أما حركة الصعود من الأعلى إلى الأسفل فقد تفاعلت في البدء باتحاد سمته الشاعرة " التداخل" ولو حدثت الحركة إلى الأعلى باتجاه الشمس مباشرة لكانت حركة ميتة لكن الشاعرة رسمت صورة مفعمة بالحركة واللون والصوت :

تفتح النافذة ضوء عام يحتوي على جميع الألوان.

يهدر موج .... صوت قوي فإذا كان الثلج يمثل سقوطا هادئا بصوت خفي نكاد لانحس به فإن الموج صوت قوي يتناغم مع حالة الصعود.

تهفو الغصون دلالة على الحركة الناعمة غير العميقة المنبعثة من عمق القوة.وترف البلابل حركة أخرى تعني الانطلاق من مكان ضيق إلى مكان أوسع.

لقد وضعت الشاعر كما قلت كلمتين متناقضتين في البداية والنهاية هما يسقط ويصعد لكنها لم تغفل المواءمة بين كلمتين قد تبدوان بعيدتين  أما حين نتمعن فيهما فنجد أن إحداهما احتلت مكان الأخرى هما: كلمة " الشمس " مركز القصيدة وكلمة " روحي ".كلمة " الشمس " تبعد مركزيا خمسة أسطر عن الثلج وبالمقدار نفسه تبعد عن بديلها كلمة " روحي". إنه ميزان عجيب جعل الثلج يسقط على الشمس وهو في الحقيقة هواجس باردة ارتقت نحو الضوء عبر النغم، وكانت هناك روح هي شمس تفاعلت مع البحر والنهر والصحراء روح تشبه ذلك الشخص الذي يفتح القضبان في لوحة الرسام الشهير جواد سليم، فتندفع نحو الأعلى حيث النقطة المركزية تحمل معها الهدير القوي ورفيف الغصون الناعم ورفرفة العصافير العذبة.

والحق إننا نقف أمام ثلاث لوحات كل لوحة تتحكم بها كلمة ما تثير في النفس تداعيات مختلفة:

اللوحة الأولىنافذة قاعة مغلقة ويد تفتحها

كلمة اللوحة المركزية هي الثلج

اللون الذي يعنى به الرسام هو الظل القاتم . إن عمق اللوحة يعتمد على الظل ونقطة التلاشي كلما نظرت العين إلى خلفية اللوحة ازداد القتام بدرجة مكثفة.

اللوحة الثانية كلمة اللوحة المركزية هي الشمس

نافذة مفتوحة ضوء ساطع حركة للبلابل وهناك موج على الساحل إذا ً هناك ريح حركت الموج وهناك أيضا شمس ساطعة  وأغصان تتحرك.لون اللوحة  يتحكم بعمق الصورة فنقطة التلاشي لايحددها أي خفوت للضوء.

اللوحة الثالثة الكلمة المركزية للوحة بمفردها هي أصعد

الكلمة المركزية للقصيدة كلها بصفتها لوحة متكاملة هي أصعد أضا.

عناصر الصورة الأساسية هي البحر والصحراء والنهر، والأفق هو الخطوة لتوحد تلك العناصر الثلاثة بحركة أفقية عبرت عنها الشاعرة بكلمة تداخل وهنا لنجد الرسام حين يرسم اللوحة يجعل اللون الأزرق هو الغالب لسعة البحر والنهر والأفق الزرقة هي التي تتحكم ببعد الصورة والتحكم بالظل ويرسم أيضا تلك العناصر متقاربة غير متباعدة بدلالة كلمة  "التداخل " ، فهناك سقوط هاديء من الثلج  ، ونجد حركة سريعة للغصون والريح والبلابل في لوحة المنتصف،وهنا وحركة ناعمة تجسدها اللوحة السفلى يمكن أن نطلق عليها الحركة الخفية لتتحول الاشياء بعدها إلى عامل واحد يتحرك نحو الأعلى.

 

قصي عسكر

نوتنغهام

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2019 الجمعة 03 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم