قضايا وآراء

أوهام الزمن "المقدس" والتاريخ الفعلي !/ ميثم الجنابي

وإذا كان بالإمكان حصر هذه الإشكاليات بمعايير الفكر المجرد، فان من الصعب إرجاع حقيقتها جميعا إلى قاعدة ثابتة وأبدية. وهي الهفوة الجميلة في منطق الوجود التي تجعل اشد الأفكار صرامة ودقة أميل إلى الإقرار بفكرة الاحتمال، بوصفها الذروة التي يتوصل إليها الفكر حالما يتحرر من رق الخنوع لنفسية وذهنية "قواعد العقائد". مما يعطي لنا إمكانية تحديد "الوهم التاريخي" بوصفه الصيغة المقلوبة للتاريخ الوهمي، أي للتاريخ المحشور ضمن قواعد العقائد السياسية واللاهوتية التي تجعل من الواقع وأحداث الماضي مجرد تمظهرا للفكرة. مع ما يترتب عليه من تصنيع مفتعل لمسار التاريخ الفعلي، ومن ثم قيمته ووظيفته.

بعبارة أخرى، إن خصوصية هذا الصيغة الوهمية تقوم في جعل تصوراتها عن التاريخ مفتاحا أبديا شاملا لفتح الغاز الحاضر والمستقبل والبدائل. الأمر الذي يجعل من التاريخ الفعلي نفسه أوهاما. وهو أتعس أنواع التاريخ لأنه مجرد اجترار لقواعد العقائد. وليس هذا بدوره سوى الصيغة الأكثر جزما وتشددا وانغلاقا للرؤية الأيديولوجية وأوهامها السياسية بشكل خاص. وذلك لأنه حالما تتحول القواعد (الفكرية) أو حصيلة الاستنتاجات التي يجري التوصل إليها إلى عقائد ثابتة عندها يكف الواقع المتغير والاجتهاد العقلي الحر عن الالتقاء في المواقف والتحليل، وعوضا عن ذلك تهيمن الصيغ الجاهزة التي تقاس بها الأحداث. ويصبح الماضي والحاضر والمستقبل مجرد "عينات" تتكشف فيها قواعد العقائد لا الواقع كما هو. الأمر الذي يجعل من هذه العقائد أداة فعالة لتوسيع وتعميم الوهم الأيديولوجي بشكل عام وفكرة الثبات والحقيقة المطلقة فيه بشكل خاص.

ومن الناحية المعرفية عادة ما ترتبط هذه الظاهرة بصعود وهيمنة الرؤية الراديكالية (الدينية والدنيوية) بمختلف أشكالها ومستوياتها. ويمكن رؤية ذلك على مثال تاريخ الغلاة القدماء والمعاصرين، وكذلك في مراحل الانقلابات الكبرى التي تجعل من انهماك القوى الراديكالية للعوام والخواص في الحياة السياسية أمرا لابد منه. وإذا كانت هذه العملية تتصف بقدر من التلازم الطبيعي في التاريخ الفعلي للدول والأمم، فان ما هو "غير طبيعي" فيها يقوم في تحول الراديكالية من قوة اطرافية إلى قوة مركزية. عندها تستفحل مختلف مظاهر اللاعقلانية التي عادة ما يتحول التاريخ فيها إلى "جراب شامل" على كل ما تحتاجه الأهواء السياسية المتحزبة.

وليس مصادفة أن يتلاقي هنا الوهم الأيديولوجي بوهم المقدس، أي تلاقي وامتزاج الفكرة الأيديولوجية (المحكومة أولا وقبل كل شيء بالمصالح الجزئية) بفكرة المقدس. ومن شرارة هذا الالتقاء تنقدح مختلف الأمزجة العنيفة والصور المغرية التي تطابق في بداية الأمر النفس مع "نماذج مثلى" ثم تنتهي في النهاية إلى اعتبار نفسها تجسيدا جديدا تاما لهذه النماذج. ومن الممكن التدليل على ذلك، رغم تباين الصور ومقدماتها ولحد ما غاياتها، في كيفية تحويل صور ونماذج اليونان والرومان في أوج الاستفحال الراديكالي في الثورة الفرنسية، وان يتحول سبارتاكوس إلى بطل الانقلاب البلشفي الروسي (ثورة أكتوبر)، وان يصبح صلاح الدين في مصر الناصرية بطلا قوميا، وحمورابي النسخة الأولية  لصدام في العراق، والحسين وكربلاء رموزا مقدسة زمن الثورة الإسلامية في إيران الخمينية.

بعبارة أخرى، إن الجميع تتذكر بعاطفة جياشة وتستعيد ذكريات الماضي "المقدسة". بمعنى أنها تتعالى على التاريخ الواقعي الذي تصنعه بأيديها من خلال جعله كبش فداء "العقائد الكبرى". وهي عملية طبيعية ملازمة لصناعة الأيدي وليس العقول. من هنا انعدام التاريخ الفعلي وصعود التاريخ "المقدس" أو تاريخ الأوهام الأيديولوجية. فالتاريخ الفعلي لا يعرف المقدس، لأنه لا مقدس من حيث الجوهر في التاريخ، باستثناء ما هو غير قابل للابتذال.

لكن مفارقة الظاهرة الراديكالية تقوم بالذات في الانغماس المتعاظم في أوحال الأوهام الأيديولوجية مع كل تركز في هرم السلطة. والمشترك بينها على امتداد تاريخ الظاهرة هو تلاحم أربعة عناصر كبرى هي كل من ثبات العقائد، واليقين الجازم، والهيام بالمقدس والصيام عن كل ما سواه! وأخيرا ضمور الرؤية العقلانية النقدية. وعادة ما تصنع هذه العناصر منظومة اللاهوت الفاعلة في الأيديولوجية النظرية ومختلف أشكالها ومستوياتها العملية (السياسية). مع ما يترتب عليه بالضرورة من تفعيل منظومة للذهنية السياسية محشوة بقواعد العقائد الثابتة، وقوتها المانعة لأي بديل آخر، وجبريتها الجازمة تجاه المستقبل، وممانعتها الحازمة تجاه كل ما يختلف عنها ويعارضها، أي كل ما يجفف قدرتها الحية في التعامل مع الواقع والمستقبل بمعايير الاحتمال العقلاني. من هنا تحول "المقدس" إلى وحش شرس، مع أن مغزاه بالنسبة للعقل النير والضمير الحر شيئا معاكسا تماما.

وليس مصادفة أن تصبح الكثير من الأعمال الإجرامية التي جرى ويجري اقترافها في تاريخ العراق الحديث والمعاصر جزءا من تاريخ "مقدس". فقد مارست التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية مختلف أصناف الإرهاب الشامل تحت شعارات لا تتمتع بأية رؤية واقعية وتاريخية، ومع ذلك حاولت أن تعطي لها أبعادا ما فوق تاريخية من خلال ربطها "برسالة خالدة" لأمة لم تتكامل بعد! أما النتيجة فهي الإفساد الشامل لفكرة القومية العربية وتشويه محتواها وتخريبها الفعلي. وهي رؤية تشاطرها الكثير من الحركات الدينية والدنيوية، اليسارية واليمينية، القومية والاشتراكية في العراق. مما يعطي لنا إمكانية القول، بأن ضعف الرؤية الواقعية والتاريخية المشار إليه أعلاه يختبئ في معظم جوانبه وراء البحث عن صيغة أسطورية تلتهم كلمات "المقدس" من اجل تبرير ضعفها البنيوي في ميدان العمل السياسي وبالأخص فيما يتعلق منه ببناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهو ضعف لازم، في تاريخ العراق المعاصر، كيفية تشكل الدولة الحديثة وابتعادها المتزايد عن كينونتها السياسية ومضمونها الاجتماعي. وضمن هذا السياق يمكن فهم "الجرأة" التي تميز كثرة من الأفعال الإجرامية التي يجري اقترافها وتقديمها على أنها جزء من الدفاع عن "المقدسات" عند الغلاة الجدد!

ما سبق نستطيع القول، بان تاريخ الأوهام المقدسة هو تاريخ الوعي الأيديولوجي بشكل عام والراديكالي بشكل خاص بمختلف أشكاله وأصنافه وألوانه ومستوياته. وفيما لو حاولنا تكثيف هذه الخلاصة فيما يتعلق بعلاقة السياسة والمقدس في العراق الآن فانه يمكن صياغتها بالشكل التالي: إن المقدس الأوحد للراديكالية هو يقينها الخاص بما تعتقده. مما يجعل من أفعالها تضحية دائمة لا غاية منها سوى "البرهنة" على "صحة" و"عظمة" عقائدها وشعاراتها المتعالية في سماء الأوهام. إلا أن الراديكالية لا تتحسس الآلام لأنها تجرّب كل نماذج الكسر العنيف على الآخرين، ولا تستمع لأي تأوه واعتراض ونقد لأنها تجد في الآهات نغم الوجود، وفي الاعتراض حجرة على قارعة الطريق، وفي النقد تشكيكا باليقين. كما أنها لا ترى الماضي لأنها تحتقر تجارب الأسلاف، ولا تشاهد الحاضر لأن عيونها شاخصة صوب مستقبلها فقط، ولا تشم نتانة الاستبداد المترتب على استهتارها بالحق والحرية لأنها مصابة بزكام التأفف من الهواجس والخواطر والأفكار المخالفة لها، ولا تتذوق طعم الحياة لأن ما يثير غريزتها دماء "الأعداء". أما الحصيلة فتقوم في تحول العقل عندها إلى هوى، والهوى إلى هوس، والهوس إلى هراوة. وهي نتيجة يمكن التدليل عليها في حال جمع الكلمات والعبارات والشعارات والتبريرات التي رافقت كل أشكال وأنواع الأيديولوجيات الراديكالية العراقية الحديثة والمعاصرة، الدنيوية منها والدينية. والشيء نفسه ينطبق على نماذج الصراع الحالي في العراق أيضا بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية.

لكننا نستطيع في الوقت نفسه رؤية الآفاق المسدودة لهذه الظاهرة. وبالأخص ما يتعلق برؤية مؤشرات انحلال تأييد الرابطة العقائدية (الأيديولوجية) بين المقدس والسياسة في الوعي الجماهيري. وهي إحدى الضمانات الكبرى لكي لا تكون السياسة جزءا من المقدس ولا المقدس جزءا من السياسة. بمعنى ضرورة إدراك مقدمات وحدود ووظيفة كل منهما على حدة، السياسة باعتبارها علم وفن إدارة شئون الدولة والمجتمع بمعايير الحقوق والاجتماع المدني، والمقدس باعتباره كل ما لا يخضع لابتذال الدعاوى العقائدية والمصالح الضيقة أيا كان شكلها وهدفها المعلن.

فالتجربة التاريخية للعراق في مجرى القرن العشرين كله تجعل من الضروري الإجماع الملزم للحركات الاجتماعية والسياسية على مبادئ عملية بالنسبة لبناء مكونات تيار المعاصرة. ولعل أهمها هو الاقتصاد الديناميكي، والنظام الاجتماعي العادل، والثقافة الإنسانية الراقية، والعلم المتنور، والتكنولوجيا الرفيعة. وهذه جميعا تفترض إعادة تأسيس وبناء منظومة التربية والتعليم على أسس عقلانية ونقدية شاملة. وبدونها يصبح من العبث الحديث عن بديل شامل فيما يتعلق بالرؤية التاريخية وإعادة نفيها بمعايير الاجتهاد العقلاني الحر.

والخلاصة العامة بهذا الصدد هي أن حقيقة التاريخ خارج المقدس. والمقدس لا علاقة له بالتاريخ إلا من حيث كونه صورة قابلة للاندماج في مساعي القوى الإنسانية للتحرر من العبودية المباشرة وغير المباشرة للسلطة المغتربة (سواء كانت في جهاز منظم، أو قوة عشوائية مخربة، أو عقيدة مكبلة للعقل، أو نص يرتقي إلى مصاف "المقدس")، باختصار إلى كل ما يمكنه أن يعمل على ابتذال الحرية وتخريب شروط التمسك بقواعد المنطق العلمي والعقل النقدي.

غير أننا نعرف جيدا بأن للأوهام قوتها الجارفة التي تقهر أحيانا حتى الحقائق الكبرى. وهي مفارقة غريبة لكنها معقولة بموازين التاريخ والواقع والوعي. فقد وقف الفكر الفلسفي على الدوام أمام إشكالية تحديد الحقيقي من الزائف. وإذا كان من الممكن إدراكهما في المنطق بمقولات الصواب والخطأ، فان هذا التمايز يتلاشى أمام الرؤية الوحدانية للتاريخ والنشاط الإنساني الخارج عن شكليات المنطق وحدوده الضرورية في بناء العبارة والمعنى. غير أن هذه الوحدانية نفسها جعلت من الحقيقي والزائف محور اهتمامها الجوهري، لأنها أرادت من وراء ذلك كشف المعنى المفترض أو الغاية المتسامية أو الوجوب الوجودي والأخلاقي في الظواهر والأشياء والأفعال. وإذا كانت الرؤية الدينية قد افترضت المعنى والغاية والوجوب وراء الحياة وجسدته بمفاهيم الوعد والوعيد والثواب والعقاب والجنة والنار دون أن تهمل حدوده الأرضية (على الأقل في الإسلام) فإن النظريات التي جعلت من المطلق الإلهي ميدانا لتأمل الحرية الإنسانية واضطرارها المجبور، حاولت من خلال نماذجها المتنوعة صياغة الأسلوب المناسب في إدراك علاقة "الحقيقي" و"غير الحقيقي" في التاريخ. ومن حصيلة هذه المحاولات ظهرت مختلف التفسيرات والتأويلات السياسية التي ارتدت لباس الأيديولوجيا العملية لكي تثبت لنفسها وللآخرين على أن ما تقوله هو الحقيقة النهائية والغاية المتسامية للوجود. وبهذا نقف من جديد أمام الفكرة القائلة، بأنه ليست الحقيقة فقط غير متناهية، بل والأوهام أيضا!

إذ تبرهن التجارب التاريخية للأمم والحضارات على أن للأوهام قوة تعادل أحيانا قوة الكوارث الطبيعية. وتزداد قوتها تدميرا عندما تتلألأ من خلال ما يمكن دعوته بالقيم والعبارات "المقدسة". مع أننا نعلم انه لا قدسية في اللغة والقيم بحد ذاتها، باستثناء تمثل وتمثيل الفضائل التاريخية القادرة على تأسيس التحرر الشامل والسعادة. وهو تمثل وتمثيل تسعى لتحقيقه مختلف القوى الاجتماعية والسياسية على امتداد التاريخ. إذ ليس التاريخ العالمي والسياسي منه بالأخص سوى المسار التي تتكسر في دروبه مساعي البشر لتحقيق الأحلام "المتسامية". الأمر الذي يبرهن على أن "الحل النهائي" في كل فعل تاريخي كبير هو وهم تاريخي، وان "الحل النهائي" الحقيقي يفترض الإقرار بعدم تناهي الحلول وشرعية البدائل والاحتمالات المتنوعة. ويعكس هذا الاستنتاج طبيعة الخلاف التاريخي الذي طبع وما يزال يطبع الفكر في مختلف مدارسه واتجاهاته وأصنافه. بمعنى الخلاف بين أيديولوجيا الأوهام الكبرى وبين الرؤية العقلانية للتاريخ ومساره الواقعي.

وليس المقصود "بالأوهام المقدسة" هنا سوى تلك التي ترتقي إلى مصاف العقائد الإيمانية المتوارثة والمقتلعة من جذورها الأولية. وبالتالي فإنها عادة ما تجعل من وقوعها "الواعي" في اسر العقائد الموروثة مصدرا للتفاخر والاعتزاز، مع ما يترتب على ذلك من استعادة "حية" لمسار الأحداث القديمة وتذوقها الجديد خارج إدراك معنى الحقيقة القائلة بأنه لا تكرار في الوجود. إذ لا تكرار بتاتا! وتؤدي هذه الممارسة بالضرورة إلى استلهام العبارة لا المعنى، واستنساخ الرمز لا محتواه الثقافي (التاريخي) ومن ثم الولع بترهات الماضي عوضا عن بذل الروح المعاصر من اجل حل الإشكاليات الواقعية الكبرى القائمة أمام المجتمع والدولة. وعادة ما تؤدي الأيديولوجيات الكبرى المصابة بمرض "الأوهام المقدسة" الى هذه النتيجة. وذلك لانها تنطلق في رؤيتها للواقع من يقينها الجازم بأن ما تستلهمه من الماضي هو الوحيد المقدس، وبالتالي فإن ما تقوله وتفعله وتسعى إليه هو غاية "نهائية" للوجود. بينما لا تدرك هي الحقيقة البسيطة القائلة، بأنه لا نهاية في الوجود، وان أقصى ما تسعى إليه لا يتعدى كونه رؤية عابرة وتعبيرا عن غايتها الخاصة. إذ ليس هناك من غاية نهائية للأيديولوجيا أيا كانت سوى تجسيد ما تعتقده غاية عليا. وليس هذه الغاية العليا في الواقع سوى تصوراتها عما تقف عند حدوده التاريخية فقط. فالأحداث والأفعال والممارسة السياسية والمهمات العملية هي أمور محدودة على الدوام. ولا يمكن للأيديولوجيا أيا كانت أن تتعدى في أحكامها وتقييمها للأحداث هذه الحدود. وهي حقائق لا يمكن للأيديولوجيات العملية "الجماهيرية" أن تتمثلها وتمثلها.

إذ تبرهن التجارب التاريخية لجميع الأمم والحضارات على أن الأيديولوجيات الكبرى حالما تتغلغل في الوسط الجماهيري فإنها تؤدي بالضرورة إلى ابتذالها وإضعاف مستواها النظري. وترتبط هذه النتيجة بواقع انتشارها الواسع بين أناس يفتقدون عموما إلى التأهيل المعرفي. مما يؤدي إلى تغيير المضمون الفعلي الأولي لما كانت تريديه هذه الأيديولوجية، وفيما بعد إلى استفحال دورها التخريبي. وليس غريبا أن تتحول الأيديولوجية الثورية إلى أداة للقمع الشامل، بينما تصبح الأيديولوجية القومية (كما هو الحال عند البعث) أيديولوجية التخريب الشامل للروح والجسد الفردي والاجتماعي والدولتي والتاريخي والثقافي.

وتميز هذه الظاهرة في الإطار العام آلية فعل العقائد الكبرى في الوسط الجماهيري، بغض النظر عن مستوى التطور الاجتماعي الاقتصادي والثقافي. كما انه "القدر" الذي ميز على الدوام الأديان العالمية والنظريات العقائدية الكبرى بفعل سيادة المبادئ الموحدة (الواحدية والوحدانية) فيها. وأعطى ذلك للجميع إمكانية الانتماء إليها والبقاء ضمن حيزها رغم تباين المعارف والأذواق. بمعنى عدم تعارض البقاء ضمن حيز "الإيمان" والارتقاء إلى مصاف المرجعية في العلم والعمل. وإذا كانت هذه العقائد ما تزال تفعل فعلها في استثارة وتنظيم القوى الاجتماعية والسياسية والروحية، فأنها تفرز مع ذلك عناصر التقليد والتقييد بسبب وجودها في "نظام الفوضى"، أي في ظل ضعف وهشاشة البنية الحقوقية للدولة، مما يؤدي في الأغلب إلى جعلها أداة بيد البيروقراطية الحزبية (السلطوية والمعارضة). وليس مصادفة أن يؤدي ذلك إلى انتشارها بين اكثر الناس جهلا بمبادئ العقيدة وأبعدهم أحيانا عن أخلاقياتها المعلنة.

وتطرح هذه الحالة مهمة تجاوز الأيديولوجية العقائدية بالشكل الذي يذلل إمكانية تحولها إلى مبادئ ثابتة. بمعنى تذويب عناصر العقيدة في الرؤية السياسية المتجددة والمتبدلة والمتغيرة لا جعلها أيديولوجية ملزمة. وهذا يستلزم بدوره تحرير الأحزاب من الأيديولوجيات المقننة، والتمسك بمبادئها المتسامية العامة فقط. فبقاء الأحزاب السياسية كقوى سياسية فاعلة يشترط عدم تقيدها "بمنهجية" أيديولوجية صارمة. وذلك لان ميدان فعل الأحزاب خال من المنهجيات، إضافة إلى صعوبة بل واستحالة حدّ المنهجية بمعايير السياسة. أما الإلحاح والانهماك في التنظير لها والجهادية المبدئية من اجلها فانه لا يؤدي إلا إلى صنع أساليب متنوعة للقمع المباشر وغير المباشر وهمجية مكتفية بذاتها. وهو قمع عادة ما يتخذ صيغة التبرير "المقدس" بعد سكبه بعبارة "الخلود" و"الخالد".

***

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2019 الجمعة 03 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم