قضايا وآراء

بين المثقف و"المثقف" مدارات أيديولوجية / صالح الطائي

ومن ثم القيام بطباعة الحوار بشكل كتاب وتوزيعه، لكن ثمة مشكلة كبيرة وعويصة تثقل كاهل المواقع العربية ولاسيما العراقية منها سواء منها تلك التي أنشئت في المهجر أو الموجودة في الداخل، وهذه المشكلة لا تقتصر على الجانب المادي فقط فحسبك أن الكثير من الجوانب الأخرى تتحكم بمسيرة وعمل هذه المواقع بعضها سياسي والآخر فئوي والثالث ديني ومذهبي والرابع سلوكي، ويكاد الجانب السلوكي أن يكون أحد أهم معرقلات العمل لأن الحسد وليس الغبطة هو الذي يحرك القائمين أغلبية على تلك المواقع فيمنعهم من نشر موضوع غيرهم، وهذه مفارقة عجيبة ابتلينا بها بلحاظ أنواع التربية القاصرة التي أُنشئنا وبُنينا تبعا لقواعدها القسرية والمصلحية.

ولذا يبدو أمر تصدي موقع المثقف لفتح ملفات وحوارات مع المثقفين العراقيين وطبع هذه الحوارات على شكل كتب جميلة حسنة التصميم والإخراج والطباعة وتوزيعها مع ما يعانيه الموقع من ضائقة مالية، يبدو أمرا في غاية الغرابة، وغرابته تأتي لتؤشر على أن النهج الذي يسير عليه هذا الموقع الذي تديره مؤسسة المثقف العربي ليس متحيزا إلى فئة أو تابعا إلى جهة أو مرتبطا بعقيدة خاصة تقيده وتحجر عليه وتوقف جهده لخدمتها.

لقد حاز موقع المثقف على قصب السبق من بين المواقع العربية والعراقية الأخرى لأنه تمسك بعراقيته وفضلها على فئويته وتمسك بإنسانيته وفضلها على قوميته وتمسك بكلمة الحياد فجعلها شعارا له ترسم لوحته ألوان كل الأطياف.

من غير إصدارات مسئوله الباحث ماجد الغرباوي أصدر موقع المثقف  على حد علمي خمسة إصدارات بهذا الشكل المائز كان نصيبي منها اثنان، الأول عن تكريم الأخ الفاضل والصديق العزيز المربي والمفكر الدكتور عبد الرضا علي، وقد كتبت عنه في حينه ما قدرت عليه ولم أفه حقه لأنه اكبر من أن تحتويه بساطة مواضيعنا، والآخر عن الحوار المفتوح مع المفكر والأديب الرائع سلام كاظم فرج، ومن حسن الصدف أني التقيت بهذه الشخصية الرائعة الفريدة في بقعة طاهرة من أرض العراق، في كربلاء المقدسة، في صحن الإمام العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ليتحقق احد أحلامي الذي راودني قبل عام أو أكثر ورأيت فيه أني التقيت بسلام في دوحة غناء في مدينة الكاظمية المقدسة تحت كرمة وفيرة الظلال تقع بين نهر دجلة والمرقد المقدس.

وفي اللقاء الأخير الذي حضره الكاتب السياسي الأستاذ رائد عبد الحسين السوداني والشاعر الأكاديمي الدكتور محمد تقي جون والشاعر والأديب الكبير حمودي الكناني في ضيافة الأديب الكبير علي حسين الخباز حصلت على نسختي من كتاب (مدارات ثقافية) الذي كان لي شرف الإسهام في حلقاته الحوارية في الصفحات من 19 إلى 30 ضمن الحلقة الأولى من حلقات الكتاب.

وقد تسنى لي قراءة الكتاب على مهل في صباح اليوم التالي لأجد زخما من الثقافات الواعية الخيرة تتصارع في حلقة الفكر الإنساني الناهض لتؤسس لمنهج حواري ثقافي إنساني متحضر ووجداني نحن بأمس الحاجة إليه بعد أن نسيناه أو كدنا ولاسيما بعد أن تخلينا مجبرين أو مدفوعين عن نهجه الآدمي واستعضنا عن روحه الإنسانية بحوار الطرشان والمجانين والخرسان فحّكمنا السلاح والمفخخات بيننا فتحولنا إلى عدوين والشيطان ثالثنا، وأمسينا قطبين مغناطيسيين تتنافر اتجاهاتهما لا يمكن أن يلتقيان إلا بوجود وسيط ثالث يقف بينهما ليلتصقان به.

كان الحوار المفتوح مع المفكر سلام كاظم هو الوسيط الأمثل الذي استقطب كل الاتجاهات والأقطاب وصهرها في بوتقة الجهد الإنساني المبني على سمو الفكر، فتعلقت الأقطاب به كل منها على هواه سواء من جانبه الموجب أو جانبه السالب ولكنها رغم التمايز الكبير اجتمعت وكونت صهارة واحدة تحمل ألوان العلم العراقي وبعض ألوان الأعلام العربية فبدا شعبنا وبدت أمتنا الممزقة وكأنها نجحت في التوحد في فضاء افتراضي بعد أن تعذر اجتماعها على أرض الواقع.

وجدت في مضمون الحوار العقلائي بين المحاورين وأسئلتهم والمُحاوَر وأجوبته قفشات ذكية لماحة، وأسئلة تقليدية، ثقافية، سياسية، شخصية، كيدية، عقلانية، استفزازية، وكان سلام كاظم يتعامل مع القفشات بحكمة ويجيب على الأسئلة كلها بنفس الأسلوب التوافقي المعروف عنه، وبنفس النفس الإنساني الرائع الذي يشتهر به، كان يقتضب أو يطنب فلا يفوتك المعنى بسبب اقتضابه ولا تزداد إلا متعة في إسهابه مستخدما الذاكرة المملوءة بالمفاجئات والخزين المعرفي المتكدس من تجربته الحياتية والسياسية والثقافية والأدبية، ومن خلال التلاقح الفكري الناضج تحول الكتاب إلى روض غنّاء مفعم بالحِكمِ ومثقل بهموم الوطن والأمة، ثم زادت في تألقه المقدمة التي كتبها الأستاذ ماجد الغرباوي فأصبح بمجموعه زهرية ورد فواح وشجْيَ طير صداح نرى من خلاله همومنا التي أوجعتنا بعيدة يحيطها الضباب، وأحلامنا التي ننتظر تحققها ماثلة أمامنا قريبة منا.

تحية إكبار وإجلال لموقع المثقف والقائمين عليه وللأستاذ سلام كاظم فرج ولكل من أسهم في ملف الحوار، وأتمنى وأنا أخوض هذا الغمار أمنيتين، حيث كنت أتمنى لو يستمر العمل بهذا المنهج الناضج الرائع، وكانت أمنيتي أن احصل على كتابي شاعر العرب الكبير صديق عمري الحبيب يحيى السماوي، ونخلة البصرة السامقة الأديبة الرائعة وفاء عبد الرزاق، وعسى أن تتحقق هذه الأمنيات البسيطة الساذجة إذا ما كان في العمر بقية.

 

صالح الطائي

2/2/2012

في المثقف اليوم