قضايا وآراء

الكينونة الروحية للنبوة المحمدية / ميثم الجنابي

فهي ليست نتاجا لانتشاره بفعل الفتوحات الإسلامية، كما لم تكن نتاجا للوحدانية الدينية. لقد تحول الإسلام إلى ديانة عالمية بفعل تجسد عقيدته ووحدانيته في نظام ثقافي شامل لوجود الفرد والجماعة. وفي مجرى هذه العملية التاريخية المعقدة التي اشتركت فيها شعوب وقبائل الأرض آنذاك استطاع أن يرسي لنفسه أسس حضارته الخاصة.

وكما ارتبطت ملامح هذه الحضارة بشخصية النبي محمد، فان "مصيره التاريخي" لم يكن معزولا عن تطور هذه الحضارة وصراعاتها. فقد أبدعت في مساعيها هذه نماذج عن رؤيتها وتأملها وتفاعلها واندماجها بالشخصية المحمدية دون أن تتقيد بحد محدود فيها. وعبّرت عن وجدانيتها في سيول قدراتها الفكرية المتجددة. وهي عملية تكشف أيضا عن أن تهّيب الفكر عن تأمل تاريخ أسلافه العظام وشخصياته الكبرى، تؤدي إلى انهماك قدراته الذهنية في حبك خيوط المصير المجهول، ومن ثم تعرضه لأشد النوازع المذهبية والعقائدية تطرفا. وليس من النادر أن تصبح الكراهية صنو المحبة في إعاقة رؤية حقيقة الأشياء والظواهر. واكثر ما يتجلى ذلك في الموقف من الأفراد والشخصيات التاريخية الكبرى. غير أن محبة  هذه الشخصية أو تلك تبقى اكثر قربا إلى الموضوعية من الحقد الجاهل. فالمحبة المجللة بالاحترام تساهم في خلق قيم الروح الإنساني، بينما تؤدي الكراهية إلى إفراغ الإنسان من إنسانيته، وذلك لتحويلها الحقد البهيمي إلى غريزة "اجتماعية ـ ثقافية".

لذا فان أي ادعاء بتمثيل مصداقية التعامل مع الحقيقة التاريخية للنبي محمد، تستلزم أولا وقبل كل شيء وضع ملابسات التاريخ الجدلية جانبا والبدء بتحليل المادة "الوثائقية" لاستقرائها "المنطقي" في وحدانية التاريخ والانتماء الوجداني للثقافة. وهو موقف يفترض الانطلاق من المقدمة "الوثائقية" الأولى والبحث فيها عما يمكنه أن ينطق بحروف الوحدة المتجددة لرؤية الشخصية المحمدية وتأمل إبداعها في الكل الإسلامي.

حددت الفكرة الدينية عن الإرادة الإلهية وبعث الرسل والنبوة منذ بداياتها الخطوط الميتافيزيقية لشخصية النبي محمد. وقد فتح ذلك المجال أمام إمكانية ظهور وتبلور مختلف التصورات والآراء التي اعتبرها هو نفسه منافية للتوحيد. وكانت هذه التصورات والأحكام نتاجا للتطورات الفكرية ـ الثقافية عنه. وقد لا تنعكس فيها الشخصية المحمدية كما هي ولكنها حاولت تمثلها بمستويات وأساليب مختلفة. وكانت بهذا المعنى نتاجا للتجزئة الحضارية التي لا بد منها في مجرى تكون المنظومات الفكرية اللاهوتية والفلسفية.

فالشخصية المحمدية هي وجود جوهري في الوعي التاريخي (العربي والإسلامي). ومن ثم فهي غير قابلة للتكرار، لكنها قابلة للاستعادة المطلقة. وإذا كان الصوفية اكثر قربا في إدراك كليته، فان قربهم ظل محصورا في ميدان الذوق. بينما تتبعوا في سلوكهم آلية التجزئة، بحيث جعلوا من شخصيته المتعددة الجوانب نموذجا أخلاقيا مطلقا. بينما جعلت منه السلفية المتحجرة صنما. بمعنى قبوله للتمثل وفقدانه للحياة. وترتب على ذلك حصره في أحادية هشة ومسخه الميتافيزيقي وابتذاله المذهبي، بحيث أدى إلى إخلاء الصراع من الأرضية التاريخية القلقة التي بلورت شخصيته الفعلية.

فالتاريخ الواقعي لصراع النبي محمد ضد الوثنية العربية ونظراته عن نفسه، هما النفي الفعلي للأحادية الهشة والمسخ الميتافيزيقي والابتذال المذهبي لصورته الصنمية والوهمية الشائعة الانتشار عنه في كتب التاريخ والسير واللاهوت والقصص وغيرها ن الفنون. بل يمكن القول بان نظراته الذاتية كانت اكثر قربا من نظرات العرب الوثنية عن شخصيته الواقعية، والبشرية والعادية. ولم يكن ذلك مستغربا بالنسبة لمن تربي بالتقاليد العربية ونظراتها الواقعية الصارمة، لمن تمثل ومثل رحيق حصيلتها المتسامية. ولكن ما يميز مواقف الوثنين منه كونها ظلت متذبذبة ومتسمة بالجدل المماطل والسفسطة. وسبب ذلك مرتبط في أن حافزها لم يكن مربوطا بالبحث عن الحقيقة، بقدر ما كان مرهونا بتقاليد "الآباء والأجداد" المحاربة لكل ما هو "شاذ" عنها ومغاير لها.لذا نرى العرب الوثنية تستغرب من "نبوته" ومصدر قرآنه "السماوي" في وقت تراه يمشي في الأسواق كالآخرين ويأكل ما يأكلون ويتحدث بما يتحدثون. بمعنى تذبذب رؤيتها الواقعية. وهي مفارقة واجهها النبي محمد بمفارقة اكثر واقعية! إذ وجد فيها الصورة الطبيعية والوحيدة الممكنة لوجوده وفعله. غير أن العرب الوثنية "أجبرته" في نفس الوقت على أن يواجه تعقيدا سوف تسعى التقاليد الكلامية (اللاهوتية) الإسلامية على حله بأساليب لا تختلف كثيرا عن أساليب الوثنية العربية نفسها.

فقد قلل النبي محمد من شأن المعجزة الظاهرية. لكن مفارقة الظاهرة تقوم في أن المعجزة شكلت حتى بالنسبة للوعي الوثني (العربي ـ الجاهلي) برهانا ودليلا على النبوة نفسها. ولا يغير من ذلك شيئا كون الصفة العامة المميزة لتفكير العرب الوثنيين تتسم بالواقعية الصارمة، كما نعثر عليها في أدبهم من شعر وأمثال وقيم أخلاقية. فقد كمن فيها أحد مصادر الخلاف مع الرؤية الدينية الإسلامية. غير أن تناقض قناعات العرب الوثنية مع النبوة الإسلامية لم يكن نتاجا "لعقلانيتهم" وتفكيرهم "المنطقي". لان تصورات العرب الوثنية عن الآلهة (الأصنام) خالية من الحصافة الذهنية والمنطق مقارنة بالوحدانية (الدينية).

 فقد تضمنت الوحدانية الإسلامية تحديا شاملا وعميقا، وامتحانا مريرا لكينونة العرب الوثنية. لهذا لم يتسم القرآن ولا أسلوب "براهينه" بالجدل مع اتهامات العرب ومنازعاتهم له. فلم يكن بإمكان الأمثال والحكايات والرموز أن تبدع رؤية كونية فعالة في الوعي العربي. كما لم يكن بإمكان هذا الوعي أن يتقبل بسهولة جزميات الوعي الديني وإيمانه بالمعجزات. فقد وجد الوعي العربي الوثني في فكرة المعجزة مجرد "أساطير الأولين". وهو السبب القائم وراء تشديد القرآن على فكرة الله والتوحيد، لا على فكرة المعجزة والنبوة. لقد جعل من فكرة الله الواحد طريقا إلى المعجزة. بينما سار في سلوكه العملي بالطريق المعاكس. وهي الصيغة المميزة لكل دعوة رسالة حقيقية. إذ لم يسع النبي محمد لإقناع الآخرين بنفسه، بقدر ما كان يسعى لإقناعهم بالله. انه حاول توجيه الوعي الوثني صوب إدراك المعجزة الإلهية من خلال تأمل الوجود. ولم تساعد التصورات الوحدانية المنتشرة نسبيا بين عرب الجزيرة آنذاك على ترسيخ الاقتناع بالرسالة "الإلهية". إذ لم ير العرب في هذه الدعوات اكثر من "أساطير الأولين". مما جعل من هذه "الأساطير" حكايات اكثر ابتذالا حالما أخذت بالتجسد في إنسان من بينهم.

فقد أعطت اليهودية والنصرانية لأنبيائها طابعا أسطوريا لم ينفه النبي محمد. مما أدى إلى أن تتحول المعجزة إلى عنصر جوهري غير مباشر في ترسيخ الإيمان بالنبوة. واضطر هذا الواقع بالعرب الوثنيين عندما اشتد جدل العرب مع النبي محمد إلى أن يستغلوا حتى ما لا قناعة عندهم به، وان يطالبوه بان يكون نسخة جديدة ومرئية لما هو في التوراة والإنجيل. وهي مطالبة استصغرها وابتذلها ورفضها النبي محمد، واستجابت لها الذهنية اللاهوتية الإسلامية لاحقا عبر تجميعها ألف (1000) معجزة له!

ولم يكن هذا الجمع والتدليل على المعجزة في زمن لاحق معزولا عن الكلمة القرآنية التي خلدّت الجدل القديم. أي أن الذهنية الثقافية الجديدة للمسلمين لم يكن بإمكانها التخلص من ثقل الذاكرة التاريخية والأثر "الخالد" للكلمة التي شرعنها اللاهوت اللاحق في "قدم القران"، ومن ثم قدم (أزلية) كلماته، بما في ذلك اتهامات العرب الوثنية ضد الني محمد. أي أن المسلمين وجدوا أنفسهم أما "الحداثة" الدائمة في واجهة الاتهامات التي يقرءونها في القرآن. مما افرز بدوره الرغبة الدائمة بدحضها. ولم يكن بإمكان الذهنية اللاهوتية أن تسلك طريقا غيره. وإذا كان من مآثر هذه العملية أنها أدت إلى توسيع وتعميق تقاليد العقل النظري في الأدلة والبراهين والمغالطة والاتهام، فإنها أدت في نفس الوقت إلى اغتراب الشخصية الواقعية للنبي محمد واضمحلال كيانها التاريخي وحقيقته النبوية في الحجج اللاهوتية. وكما أن من الحمق لوم الذئب على شراسته، فان من السخف اتهام الذهنية اللاهوتية على سلوكها هذا الطريق. وذلك لأنها ذهنية لا يمكنها فصل الخيال عن الواقع. لان اليقين بالنسبة لها لا يعزل عن الإيمان (الديني) وبالعكس أيضا. لذا وجدت في توسيع "معالم النبوة" بالمعجزة (التي حاربها النبي محمد نفسه) وتوسيع المعجزة كما ونوعا برهانا على سيرها في "الصراط المستقيم".

من المعلوم تاريخيا أن النبي محمد نظر إلى نقد الوثنية العربية واتهاماتها ضده على انه جهل وسوء ظن. فهو لم يرفض واقعية آراءهم. على العكس، أننا نرى في مواقفه وأحكامه اتفاقا ضمنيا مع واقعية تصوراتهم عن طبيعية وجوده وشخصيته. بل نراه يدافع عن هذه الواقعية ويدفعها إلى مداها الأقصى، عندما يؤكد مرارا على انه بشير ونذير، وان لا شفاعة بيده ولا قدرة له إلا  بالله. بمعنى النظر إلى نفسه كداعية لله. وهي بساطة غاية في التعقيد. فالحقيقة بسيطة في نشوئها. وما بدا حقا وبسيطا بالنسبة له، بدا باطلا وسفيها بالنسبة لمن عارضه. في حين كانت آراء النبي محمد غاية في التجانس. وكان لابد له، شان كل تجانس مدهش، أن يتخذ هيئة المفارقة المحيرة للعقل والضمير. ووجد ذلك تعبيره "المنطقي" في انتزاع الصفات الواقعية من شخصيته الواقعية. وفي هذه المفارقة ومن خلالها تتمظهر الحقيقة وانعكاسها المعارض في الوعي الوثني، الذي لم يتعود ويتقبل بعد فكرة الشمولية المطلقة النافية للعلاقات القبلية ووعيها التقليدي. فقد استغربت الوثنية العربية واندهشت عن وحدة السماء والأرض، الإله والبشر فيه. فقد قدست العرب الوثنية السماء بطريقتها الخاصة، كما جعلت من الأرض سلطان عزها واعتزازها. ولم يكن ذلك لتطرف فيها و ميل غريزي مميز لها، بقدر ما كان اعتزازا بقيمها ومثلها التقليدية، رفعته إلى مصاف المقدس. إذ لا قدسية و"سماوية" في الوعي العربي الوثني لغير تقاليده الخاصة. فهو يقدس القبيلة لا آلهتها، ويقدس الولاء لا الخضوع، والجماعة لا الفرد. أما تقدسيها للفرد فمن منطلق تذوبه في وجدان القبيلة باعتباره ذروة وحدتها الكاملة.

بينما قدّم النبي محمد نفسه باعتباره الشخصية الواقعية الداعية لله والمعّبرة عنه بالصوت القرآني. من هنا استغراب الوثنية كما صوره القرآن "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق… أن تتبعون إلا رجلا مسحورا". لقد استغربت العرب الوثنية أن يهديها بشرا "ابشر يهدوننا…". وفي هذا الاستغراب نعثر على ثنوية حريصة على صرامة المنطق وبريق الهداية. وهو أمر جعل العرب الوثنية يطالبوه بان يكون إلى جانبه ملكا يدعو له كما طالبوه بجنة يأكل منها ويتنزه فيها لا أن يمشي في أسواقهم الشحيحة وحجارتهم المتناثرة. ولم تكن "حججهم" هذه انتقاصا من مآثرهم الذاتية بقدر ما انهم حاولوا الثأر من امتهانه لوجدانهم التقليدي. لا سيما وان الوجدان لا يحب الانقطاع بسبب الآلام التي تتولد عنه، وبسبب تعميقه للهوة بين الماضي والمستقبل. ومن ثم ردم كل ما كان ويكون بمعاول الروح. أي أقسى ما يمكن أن يؤدي إليه هذا التحول الجوهري. وفي هذا تكمن أسباب ردود الفعل المستهزئة بآراء النبي محمد وآياته. فتطرف العرب الوثنية يقوم لا في افتقاده "للمنطق"، بل في ازدواجية حوافزه الاجتماعية ـ الثقافية ومحدوديتها. فقد استند اعتراضهم على منطق عملي وتجربة تلغي أولوية الفرد وفي نفس الوقت تعزّ من شأنه. ففي كيانها تدعو القبيلة إلى فردية لا فردانية فيها، والى اعتزاز متطرف بالانا بلا ملامح خاصة به تميزه عن معالم القبيلة. وفي الوقت الذي تعترف بوجود الملاك وتؤيده وتريده ملموسا، وتقر بالسحر وتتهيبه، فانها تجعله مادة للهزء والاستخفاف. وفي الوقت الذي تعترف بالهداية ترفض إناطتها بالبشر. أي أنها تضع نفسها بالضرورة أمام تناقضات لا تحصى. وعوضا عن أن تتأملها وتحلها عمليا فضلت الإبقاء عليها كمادة للجدل والاستهزاء.

 وردّ النبي محمد في قرآنه مفسرا حوافز رفضهم "وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا ابعث الله بشرا رسولا". ولم يكن ذلك معزولا عن تجزؤ الفكرة الوثنية في انتقادها لبشرية الهداية وإرسال الرسل، التي لعبت فيها تصورات تعدد الآلهة ووظيفتها دورا فعالا.فالآلهة الوثنية غير قادرة على أن تتحكم بمصير الإنسان، كما أن الإنسان ليس قادرا على أن يكون هاديا باسمها. وفي هذا يكمن سر تناقض الموقف الوثني من النبوة المحمدية.

فقد سلك العرب طريقا معبدا بالتقليد، مليئا بالثغرات بفعل قناعتهم الجزئية بالنبوة. وكان بإمكانهم أن لا يرفضوا النبوة المحمدية باعتبارها كهانة وعرافة، أي تأويل مسحور مرتبط بعالم "الجن" اللامرئي والمتغير ، القريب والبعيد. وكمن في هذا الاختلاف الجوهري أحد مصادر الشقاق والصدام. فدفاع النبي محمد عن الله الإسلامي مرتبط بنبوته باعتباره مصدرها، بينما نبوته هي التجلي الملموس للإرادة الإلهية. ومن خلال نبوته وشخصه تزال المتناقضات. فالإله هو المثل الأعلى، والنبوة هي صيغتها الروحية ـ المادية، وهو نفسه أداتها الداعية والمبشرة والمنذرة والمبلغة والمحذرة والهادية. بهذا تكون النبوة قد شكلت أساس الفكرة الجوهرية للإيمان الإسلامي الأول. وإذا كانت الوثنية ترفض هذا الإيمان، فان الإسلام اللاهوتي سوف يرفعه لاحقا إلى مصاف تضمحل فيها معالم التاريخ الملموس لمحمد، ولتجعل منه نموذجا مجردا وتجليا خالصا للمطلق. مما أدى إلى صعوبة تناول شخصيته ضمن مفاهيم الواقع والإمكان والضرورة والصدفة التاريخية. رغم أن تحول الصدفة والضرورة والواقع والإمكان إلى مقولات منهجية متحكمة في البحث لا يضمن بحد ذاته حل القضايا الفكرية الشائكة عن ظهور الإسلام وشخصيته المركزية.

فالتصورات السائدة القديم منها والحديث، عادة ما تقع أسيرة "ميتافيزيقيها" الخاص. أي أنها عادة ما تجعل من ظهور الإسلام ودور النبي محمد فيه مصادفة لا جبر فيها، أو ضرورة لا محل للاحتمال فيها. وهو تضاد يفقد الشخصية التاريخية فعاليتها ويحولها إلى أداة عمياء بيد الصدفة أو الضرورة. بينما لا قانون مطلق في ظهور الشخصيات التاريخية الكبرى، بل مجرد احتمال ظهورها الدائم في خضم الصراع والتطور.

لقد واجه النبي محمد بشخصيته المستقلة ما سيدعوه لاحقا بعالم الجاهلية بعد مرور أربعين عاما من ولادته. ومنذ تلك اللحظة ابتدأت الدعوة الإسلامية، التي أخذت ترتسم معها ملامح الصورة الجديد لمحمد بوصفه نبيا. وهي ملامح سرعان ما بدأت تقلق مضاجع العرب الوثنية. ونظرت الوثنية إلى هذه الدعوة نظرت متعالية، كما هو شانها في الموقف من كل مخالف لتقاليدها المستتبة. واعتبرتها شيء عادي، استنادا إلى تقاليدها وتعايشها النسبي مع كهانة العرب وعرافيها وسحرتها وشعراءها. فلم تجد فيها ما يثير فزعها. بل نظرت إليها، فيما يبدو، نظرتها إلى كل ما هو فان في وجودها، كما لو أنها صرخة من صراخ الدهر. لهذا لم تجد في دعوته الأولى شيئا اكثر من سحر وجنون. وتعاملت معه بمعايير الاستهزاء والهجاء معتبرة إياه تارة شاعر تارة ومجنون وتارة ساحر. بل اقترحت عليه قريش معالجته وقالوا له "إن كان هذا الذي يأتيك رائيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب". لقد وجدوا في "ملاكه" و"وحيه" مرضا يمكن علاجه مقابل الكف عن مهاجمة آلهتهم. ذلك يعني انهم حاولوا ربط استهزاءهم بجدهم.

أما في الواقع فان لكل شخصية تاريخها الظاهر والمستتر، كما أن لكل منها ملاكها وشيطانها. وهي رؤية أدركها العرب بوضوح. غير انهم حولوها إلى جزء من لعبة القبائل لا عنصرا في وعي المغزى الأعمق لحقيقة الوجود الإنساني. وقد كان لمحمد أيضا تاريخه الخاص. فقد تضمن القرآن كثرة من الآيات التي تشير إلى انه أمر أن يكون أول المسلمين وألا يكون من المشركين. وهو "أمر" يصعب سماعه دون نضوج الأعماق الداخلية لمحمد. حينذاك فقط كان يمكن سماع وتقبل المغزى الأعمق للنداء الآمر بـ "أقرأ باسم ربك الذي خلق". آنذاك اكتشف محمد ذاته الحقيقية بوقوفها وجها لوجه أمام ملاكه. عندها تسامى من جزئية القبيلة القرشية والأراضي المكية وأطراف الجزيرة العربية.

وبدا هذا السمو المفاجئ في وجوده وسلوكه ومواقفه جنونا بفعل تعارضه التام مع معنى ومغزى الوجود الوثني والقبلي العربي. بينما لم يكن هذا "الانفصال" عن تراث الآباء والأجداد سوى التحاما جديدا به، مهدت له أربعون سنة من التربية والتأمل السابق للمكاشفة الذاتية. وربما لهذا السبب لم يتضمن القرآن سوى مرة واحدة إشارة إلى أهمية الأربعين سنة في عمر الإنسان، استنادا إلى أن الإنسان "تحمله أمه كرها وتضعه كرها وحمله وفصله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ اشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني". ولا يغير من قيمة هذه الإشارة كون الآيات مدنية الوحي مكية النسب، أو احتمال تحدثها عن إسلام أبي بكر بمعمر يناهز الأربعين، كما أن نبوته بدأت في الأربعين من العمر. فالإشارة هنا رمزية المعنى والمضمون، لأنها لا تعني سوى الإشارة إلى المرحلة المترامية ما بين الفطام والله، أو مرحلة الانفصال عن لبن الأم حتى رضاعة الإلهام الروحي، باعتبارها الفترة "المجهولة" في حياة محمد.

يحتوي القرآن على إشارات نادرة عن تلك المرحلة. ولعل سورة (الضحى) الوحيدة التي تكشف بعباراتها المقتضية وقوتها الوجدانية عن ماضي الطفولة والرجولة كما في آياتها "ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدي ووجدك عائلا فأغنى". وهو تعبير نموذجي للوحي القرآني، باعتباره كشفا عن "الإسلام" لا تسطيرا لسيرة الحياة. والقضية ليست فقط في أن القرآن لم يوضع دفعة واحدة ولم يكن تخطيطا فكريا مسبقا، بل ولأنه نتاجا للوحي الروحي العميق في مواجهة الحياة ومتطلباتها ومشاكلها بلغة مكثفة وحيوية في رمزيتها العميقة وغير المتناهية. ففي كل آية من آياته فكرة قائمة بحد ذاتها. وهو أمر لا يتعارض مع وحدته المتينة ولا يحول دون رؤية تناسقه الداخلي في حالة تتبع التسلسل التاريخي للآيات والسور أو في حال قراءتها كيفما كانت. وليس مصادفة أن تطلق التقاليد الإسلامية على النبي محمد عبارة "كان خلقه القرآن". وذلك لإدراكها عمق الصلة الجوهرية بينه وبين القرآن. بمعنى أن في كل منهما استنطاق لوحدتهما الداخلية.

ففي القرآن نكتشف كينونة النبي محمد، إرادته ومساعيه. وفيه نكتشف معاناته وحزنه وقلقه وشكوكه. بينما نعثر على النزر اليسير من حياته الواقعية في كتب السير والتواريخ، رغم خلطها الواقع بالأسطورة أو تجسد بعض الأفكار القرآنية بهياكل "تاريخية مقدسة"، كما هو الحال بالنسبة لأسطورة الملكين اللذين شقا بطن النبي ونظفا فلبه بإخراج العلقة السوداء منه، الذي اضطر مرضعته حليمة السعدية إلى إرجاعه لأهله. وهي قصة أسطورية "تفسر" آيات سورة (الشرح) القائلة "ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك…". وما عدا ذلك، فان السير تجمع على انه ولد عام الفيل الموافق ليوم الثاني عشر من ربيع أول.

وتجمع كتب السير والتواريخ على يتمه المبكر. وهذا ما يؤكده القرآن أيضا. وبغض النظر عما إذا كان أبوه مات وهو لما يزل في بطن أمه، أو مات عندما كان في المهد كما يؤكد البعض الآخر، فانه عاش يتيما حتى وفاة أمه وهو في السادسة من العمر. وبعد ذلك تكفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب. ذلك يعني أن حياته الشخصية الأولى كانت خليطا من الحرمان والمعاناة النفسية التي رافقته منذ الطفولة حتى زواجه من خديجة وهو في عمر يقارب الخامسة والعشرين سنة. وجرى التعويض في كتب السير والتواريخ عن سد هذا الفراغ في حياته تلك بأسلوب أسطوري أدى إلى رسم صورة مغلفة بلباس الغائية المفتعلة، كتلك التي بلورتها الفرق النصرانية عن المسيح. ومن بين هذه القصص الموضوعة التي تقترب في أسلوبها العام وصياغتها الظاهرية من بعض قصص العهدين القديم والجديد، تجدر الإشارة إلى ما تنقله التقاليد الإسلامية (بما في ذلك التفسير) عن مثال "الذبيح اليهودي". فالسير والتواريخ تورد قصة القداح والنذر اللذين قام بهما عبد المطلب ونصيب ابنه عبد الله (والد النبي محمد). وبغض النظر عن مادتها وصورتها العربية القبلية، إلا أنها تصور ولادة محمد بصورة غائية. وكذلك الحال بالنسبة للحكاية المروية على لسان أمه آمنة بنت وهب، وكيف أنها رأت وهي حاملة به انه خرج منها نور رأت به قصور بصري من ارض الشام. ونفس الشيء يمكن قوله عن حكاية معرفة نصارى الحبشة له في وقت لاحق. وكذلك قصة المرأة التي حاولت إغراء أبيه عبد الله قبل زواجه بآمنة، لأنها رأت من جبينه يخرج نور، وكيف أنها كتمت ذلك عنه وكيف أن هذا النور خبا بعد زواجه بآمنة. ولعل قصة بحيرى الراهب من بين أكثرها طرافة وأسطورية فهو يخدم في آن واحد  المسلمين والنصارى كل بمعاييره وغاياته الخاصة. ولكنها في الإطار العام نتاج لخلافات وصراعات الأديان بعد احتلال المسلمين لمعاقل النصارى في الهلال الخصيب. فقد كانت هذه المنطقة من الناحية التاريخية والثقافية معقل أسلاف العرب. وينطبق هذا أيضا على معالمه الدينية وتقاليده الثقافية العريقة. غير أن الهجوم الديني الذي واجه المسلمون الأوائل من قبل نصارى الشام والعراق استثار دون شك، ما كان كامنا في الإسلام من وحي الارتباط الديني بينه وبين النصرانية. وإذا كانت "النصوص المقدسة" عديمة الفاعلية بين المختلفين، وتظل في افضل الأحوال أصواتا غير مسموعة أمام طرش العقائد المتحاربة، فان المادة الحية هي تلك التي يمكنها نسج الوشائج المشتركة. من هنا "الأهمية" الأسطورية لبحيرى الراهب، الذي "اكتشف" ختم النبوة المحمدية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن القرآن يتضمن في بعض آياته على إشارات إلى أن النبي محمد هو المقصود بالمنقذ في العهد القديم والجديد. وقد تشبعت النصارى واليهود بأنفاس الخلاص القادم. وبهذا يكون لهذه الحكاية أيضا جذرا تاريخيا ودينيا ـ نفسيا تقاسمته القوي المتحاربة. وقد اتخذت هذه الحكاية مضامين غاية في التباين بحيث تحولت في بعض نماذجها الساذجة إلى غرائب تافهة. ففيها نتعرف على "عارف" صفات النبوة المحمدية ووصيته لعمه أبي طالب بالاعتناء به، بينما ستستعملها الفرق النصرانية في جدلها لتنسج على منوالها صورة مبتذلة عن النبي الكاذب (أو الدجال سرجس أو النبي محمد نفسه). أي أننا نعثر فيها على صورة مصطنعة، وفعالة فقط ضمن المنظومات العقائدية المتعصبة، والتي عادة ما تتبجح بسفاسف خيالها الطفولي، اي القناعة المخدوعة بقناعتها.

لقد وجدت السير نفسها مضطرة، بفعل الهيبة التامة للشخصية المحمدية على إضفاء طابع قدسي وغائي لكل ما تعرفه عن صفاته الواقعية. فالسير تحاول إظهار "معجزته" منذ الطفولة من خلال إبراز أثرها على ازدياد ثروة مرضعته حليمة السعدية. بينما مرت طفولته مثل طفولة البدو وأهل مكة ببساطتها المعتادة وقيمها القبلية. لقد لعب شان الأطفال وتعارك وعضّ وتعرى. وتنقل لنا كتب السير والتاريخ الكثير من المشاهد الطريفة بهذا الصدد. فسيرة ابن هشام على سبيل المثال تصور لنا كيفية تعرفه على أخته بالرضاعة الشيماء، عندما قالت له وهي في سبيها مع بني بكر (ومحمد كما هو معلوم رضع عند حليمة من بني سعد بن بكر) بأنها أخته بالرضاع، سألها وما علامة ذلك؟ فأجابته: بعضة عضضتنيها في ظهري! فعرف الرسول العلامة. أو كيف انه كان يلعب مع الصبيان بالحجارة وينقلها في إزاره وهو عار، وكيف كلمه كما تنقل الروايات الإسلامية، شخص غير مرئي بان يشد عليه إزاره. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر عليه معالم الاختلاف عن الآخرين. فالسير بهذا المعنى، تقدم مادة واقعية تأولها بطريقة تسعى لتقديم حياته السابقة بوصفها تقديما للنبوة. وهي فكرة سليمة من حيث تجريدها الخالص، ولكنها لا تفعل في الواقع اكثر من أن تتلذذ بما يروق لها من أساليب البرهنة. وهي صيغة تاويلية لها معناها الخاص ضمن جدل الفرق الدينية والمدارس اللاهوتية، ولا قيمة علمية لها بالنسبة للحقيقة. إننا نستطيع الإقرار بظهور "الصوت الخفي" عند المرء بما في ذلك في طفولته، ولكن كنداء لا واع للتربية الواعية وتقاليد الحشمة بين الكبار. أما السيرة  فإنها تعطي للخيال الثقافي ختم الحقيقة. من هنا سذاجتها التاريخية وجهلها المعرفي.

إن نمو محمد وعيشه وسط قريش التجارية، أعطى له إمكانية الاتصال بالعالم الخارجي. وعلى الرغم من أننا لا نعرف بالضبط عمره في سفرته الأولى للشام، إلا أن السير تجمع على انه كان برفقة عمه أبي طالب في وقت مبكر من العمر. وفي الإطار العام، كان سفره إلى خارج الجزيرة العربية أمرا طبيعيا، على الأقل في حالة تمثيله لمصالح خديجة التجارية. ولا يمكن فهم هذا التمثيل خارج النشاط التجاري والسفر إلى الشام أو اليمن. وشأن فتيان تلك المرحلة كان لا بد له أن يساهم في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية لقبيلته بما في ذلك في الحربية منها. وبغض النظر عما إذا كانت مساهمته فعالة أم لا، فان حياته وقيادته اللاحقة للامة، تبرهن على استفادته الهائلة من تجاربه الحياتية وسط قريش.

لقد كشف محمد عن قدرة عملية هائلة في مختلف ميادين الحياة وعن مساع انتقادية تجلت في البداية برفض ما هو مخالف للحق. غير أن هذا الموقف الانتقادي والرافض لما هو سائد لم يتبلور بين ليلة وضحاها. انه نتاج أربعين عاما من العيش والتأمل العميق، اللذين استندا بدورهما إلى التقاليد العربية، والتي ظل أثرها بارزا في كلامه وفعله. ولم يجد حرجا في ذلك. على العكس فقد كان نشاطه بينها لأجل توحيدها يجري من خلال نفي التجزئة القبلية نفسها. وكان لا بد من أن تتلألأ هذه "القبلية"أحيانا في افضل تجلياتها واسماها. إلا أن ظهورها في سلوكه هو مجرد تمظهرها الخارجي، بوصفها البقايا الضرورية لإرث صيرورته الشخصية. وقد أشار مرة في خطابه لقومه قائلا بأنه "اعربهم وانه قريشي استرضع في بني سعد بن بكر". وعندما فشل في محاولته الأولى إقناع ثقيف وساداتها باعتناق الإسلام ، فانه طلب منهم عدم إفشاء سره مخاطبا إياهم "إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني". وهي بقايا سيطرة شعور الخجل وتجنب الفضيحة المميز للفرد القبلي العربي. ويظهر اثر هذه التقاليد بجلاء في صيغة الاتفاق الذي أبرمه مع الخزرج عندما اضطر للهجرة إلى يثرب. فقد طلب منهم مقابل بيعتهم أن يمنعوه كما يمنعوا نساءهم وأبنائهم. وعندما أجابوه لذلك، فانه ردد قسم العهد العربي "الدم الدم والهدم الهدم. أنا منكم وانتم مني". وهي صيغة قبلية في مظهرها فقط. ونفس الشيء يمكن قوله عن أعماله وأفعاله ومواقفه. فقد كان، على سبيل المثال، يحب الفأل ولا يتطير منه. في حين ظلت تصورات العرب الوثنية عن السحر والجن والشياطين تحتل حيزا في الرؤية الإسلامية، رغم تغير مضامينها.

ومن بين هذه "البقايا" تجدر الإشارة على سبيل المثال إلى حالة دخوله يثرب بعد الهجرة. فقد أعطى لناقته حرية الحركة إلى أن وقفت بنفسه. انه أراد بذلك تحرير نفسه من "حرية الفعل" أمام "قدر" الوقوف، وبالتالي إقناع الجميع بان ما حدث كان لا بد له من أن يحدث. وبذلك استطاع أن يستأصل إمكانية النزاع عن تفاضل بعضهم على الآخر بالنسبة له. انه سلك سلوكا متساميا وضروريا في نفس الوقت وان بمظهر "وثني". وينطبق هذا أيضا على موقفه من تعطل ناقته العقواء عن المشي وهو في طريقه إلى مكة قبل صلح الحديبية، حيث حاول بعض أصحابه حثها على السير إلا أنها حرنت مما دفع البعض للقوال "خلأت العقواء"! عندها رد عليهم قائلا: "أنها ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل"! أي أننا نقف أمام انكسار هذا الأثر السحيق للذاكرة المكية في فعل "الحبس". ولكن جرى تحويل بقايا الذاكرة في اتجاه تفعيل العناصر الخفية "للفعل الإلهي" في كل ما يفعله هو، باعتباره رسولا للحق. فإذا كان خلاء القعواء (اسم ناقته) بسبب حبسها من حابس الفيل يحتوي على إشارة تبجيل خفية لمكة، فان كل من الذاكرة والتبجيل ليسا اكثر من درجة منفية في "منظومة" التعامل الجديد مع كل ما له علاقة بالإسلام. لهذا كان بإمكانه أن يرمي بالحصى قبائل هوازن أثناء معركتهم مع المسلمين وان يردد في نفس الوقت "انهزموا ورب الكعبة"! وسوف ينزع القرآن عنه صفة الرامي بتحويله إلى ذراع الحق. وكان هذا النفي الدائم للوثنية وتقاليدها في مظاهر أفعاله الأسلوب الأكثر عمقا في تجديد وتطوير إبداعه الخاص عن الحق.

فقد تعرضت هذه البقايا شأن كل أفكاره وأفعاله إلى تحور وتبدل وتغير وتطور. واستمر نفسه يستند إلى مرتكزاته الخاصة. أي أن التحولات والتغيرات كانت تستند إلى مقومات تستلزمها الضرورة نفسه ومنفية فيها في نفس الوقت. وهو واقع نعثر على تجلياته الرفيعة في الناسخ والمنسوخ في القرآن، والمرونة العملية والمبدئية المتسامية. بصيغة أخرى لم تعد "البقايا العربية" جزءا من ترسبات الجاهلية، بل عنصرا ثقافيا في "المنظومة الإسلامية" الآخذة في التكون والتوسع.

فقد تكونت الشخصية المحمدية ضمن إطار العلاقات القبلية والوثنية العربية، ولكن بروح الانتقاد المعارض لهما. ومن الصعب تحديد البدايات التاريخية لهذه المواجهة، لان بداية الدعوة الإسلامية هي مرحلة نوعية في تطوره. ويقينه بالوحي الإلهي واختياره رسولا للعالمين لم يكن فعلا أوليا ونهائيا حالما واجهه في غار حراء. إذ لم يكن غار حراء في الواقع سوى مخرج دهليزه الروحي الذي كثف وأضاء شعاع وحيه الذاتي، كما رسمت صورتها سورة (النجم) بعاطفة بليغة في آياتها "والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. أن هو إلا وحي يوحي. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم تمدد فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى". وهي رؤية يكررها القرآن، كما في آياته "ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى… ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى". وبغض النظر عن أن الآيات القرآنية كانت موجهة لإقناع خصومه بالرؤيا التي بدت في أعينهم سحرا وجنون، فان ما أثار الاستغراب فيها ليس مضمونها وأسلوب إقناعها إياه بل كلماتها. فهي تعبّر عن الحالة الوجدانية التي أوصلته إلى استظهار وحيه الباطني في صوت الملاك الإلهي. أنها رؤية الفؤاد المستحيلة في صوت الوحي، التي سيواجه بها عرب الجزيرة. إذ لم تتعد قناعته بالوحي في البداية حدود مطابقته مع كينونته الواقعية، والتي اصبح بفضلها قادرا على رؤية آيات ربه الكبرى.

لم تكن هذه الرؤية أمرا غريبا بين العرب الوثنية وذلك لانتشارها النسبي في شخصية العراف والكاهن. وهي كيانات كان لها امتداداتها "الأرضية" و"السماوية" في الوعي التاريخي و"الثقافة الروحية" للجاهلية، أثرت بدورها على محمد. ولا تنفي كتب السيرة ذلك، على الأقل ما تعلق منه بإعجاب محمد بخطابات قس بن ساعدة الايادي. وتورد السيرة النبوية على سبيل المثال قصة حفر بئر زمزم والكيفية التي احتكم بها جده عبد المطالب مع قريش أمام هذيم كاهنة بني سعد. وبغض النظر عن طرافة المصير الذي آل إليه عبد المطلب وأصحابه في الصحراء، فان مما لا شك فيه هو وجود الكهنة والعرافين وتأثيرهم الفعال في الوعي العربي الجاهلي وقناعته العملية. وإذا كان النبي محمد قد قضى اغلب طفولته عند بني سعد (مرضعته حليمة السعدية) وان هذيم هي كاهنة بني سعد، فأننا نستطيع افتراض تأثير تقاليد العرافة والكهنوتية فيه. ذلك يعني أن قناعة الرؤيا لم تكن فعلا طارئا، لا سيما وان لها مقدماتها المادية والروحية في الحياة العربية من عرافة وفراسة وكهانة ونبوة. غير أن للرؤيا الإسلامية نظامها المطلق. إذ أننا لا نعثر في القرآن على عبارة واحدة يمكنها أن تكون دليلا على تقاليد الوثنية العربية في "النبؤة". فالقرآن يؤكد على الدوام بان معرفة الغيب لله وحده. أما العبارة المنسوبة لعائشة والقائلة بأنه "لا يرى رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح"، فإنها تصوير دقيق ورمزي في نفس الوقت عن صفاته المميزة في التعامل مع الظواهر والمشاكل، كما نعثر عليه في القرآن بوصفه وحيا  ورؤيا بديلة. إذ ليست رؤياه في الواقع سوى رؤيا معاناته الباطنية، التي لم تتجاوز في البداية حدود الكلمة.

ولكن ما هي الكيفية التي تحولت بها هذه الكلمة إلى معيار الحقيقة المطلقة بالنسبة له؟ وهل كان ذلك يا ترى مرتبطا برؤياه الأولى التي تحولت فيها كلمات الوحي إلى بداية التأمل غير المتناهي"للآفاق والأنفس"؟ أم انه كان الأسلوب الوحيد آنذاك لتجلي وحيه الذاتي؟ أن نظرة فاحصة للتقاليد العربية الروحية تكشف لنا عن قوة الكلمة وفاعليتها في العقل والفعل والضمير الغائب والحاضر. فقد بلورت الكلمة في تقاليد العرب أسلوبا خاصا في التعامل مع العالم المحيط. فهي أسلوب الذاكرة والتعايش، والدفاع والهجوم، وتبرير الهزيمة والفخر، والمدح والهجاء. وفي نفس الوقت هي الكلمة التي تحمل في ثناياها مزايا القوة اللامرئية لمخالب المصير وخلجان الضمير، كما تحدد أيضا قيمة الحياة ومعناها. فهي القوة التي لخصها مثل العرب القائل "لسانه حتفه"‌‍‍! ولم يكن النبي محمد بهذا المعنى استثناء كما هو جلي في الآيات والأحاديث. فغرابة الآيات القرآنية كانت تكمن في مفاهيمها وليس بكلماتها. وليست الرؤيا المحمدية والنبوة الدينية ما أثارا جدل العرب الوثنيين ورفضهم إياه بقدر ما هو مضمونهما ورمزيتهما، أي مصداقيتهما وأسلوبهما وغاياتهما النهائية. فلو كان مصدرهما "الجن" لكانتا اكثر إقناعا للذهنية الوثنية والقبلية. لا سيما وان الذهنية الوثنية التقليدية قد صاغت لنفسها سبل الإيمان الخاص بالإلهام "الشيطاني". أما الوحي الرحماني فانه ظاهرة جديدة وبالأخص بصيغته القرآنية.

بلورت هذه الإلهية المزاج الذهني لمحمد. أو على الأقل أنها أقنعته في مجرى الأربعين سنة الماضية من حياته بإمكانية الوحي. أما مضمونه الجديد فهو حصيلة معقدة لتطوره الذاتي وصفاته الشخصية ونمط حياته الفردي.

إن فقدان "المواد الوثائقية" عن حياته السابقة للدعوة هو نتاج لانعزاله الفردي. إذ لا تحتوي كتب السير والتاريخ إلا معلومات قليلة عنه، بينما تسهب عن أهله وأسلافه، ابتداء من قصي وانتهاء بعبد المطلب. لا سيما وان الموقع الاجتماعي لأجداده وأسلافه والأخبار المنقولة عنهم عبر ذاكرة الأجيال، يجعل من الصعب تجاهل قيمة أخبار البيت الهاشمي حتى في مراحل ضعفهم الاقتصادي والاجتماعي. وقد أدى هذا الضعف على خلفية اليتم المبكر والفقر إلى أن تكون العزلة والانعزال ملاذه الأخير. ونعثر في القرآن على دفاع شديد عن الأيتام، بحيث وضع إهمال اليتيم في مصاف الكذب بالدين "أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم". أو أن يجعل من إطعام اليتيم إحدى "ضمانات" دخول الجنة "وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. وإطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة". وفي انتقاده لقريش اعتبر سلوكها تجاه اليتامى سبب فقدانها لقيم الكرم (الأخلاق). ووجد ذلك انعكاسه في شخصيته وموقفه كما تصوره سورة (الضحى) "ألم يجدك يتيما فآوى… فأما اليتيم فلا تقهر" وفي سورة (الفجر): "كلا بل لا تكرمون اليتيم". وفيما لو تجاوزنا الانعكاس الأخلاقي والحقوقي في موقفه من اليتم واليتامى، فان أحد آثاره الكبرى فيه تقوم في تكون عناصر العزلة، التي استثارتها وغذتها أيضا فلاة العرب وتضاريسها. إذ نعثر على العزلة في  "نمط حياته" حتى وقت متأخر من عمره. وتشير السيرة إلى هذه الصفة بالعبارة التالية: "لم يكن شيء احب إليه من أن يخلو وحده". وقد أدت العزلة ومعاناتها إلى غلبة التأمل الدائم والخيال فيها. وهو أسلوب زاوله طيلة حياته المنصرمة، والذي عادة ما يحول الماضي والحاضر إلى مادة حية تتراقص جزئياتها أمام الذاكرة ليجري تأملها بمعايير البصيرة. وهو أسلوب يقيد المرء بسلاسل الوجود، التي تثير في كل حركة ومعها رنينها الخاص. ووجد ذلك انعكاسه في الصورة التي ترسمها السيرة النبوية عنه من انه حالما كان يدخل الوادي كان يتصور بان الشجر والحجر يكلمانه. أي تعمق شعور الارتباط الدائم بكل ما هو حوله، والذي ظل يلازمه طوال حياته، بحيث جعل منها البعض مادة للاستهزاء والتندر ويصفوه بأنه أذن. وهو وصف لم يرفضه النبي، بل رفعه القرآن إلى مصاف الصفة المتسامية كما في الآية "ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن. قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا". وإذ ظلت هذه الصفة عالقة بشخصه حتى وقت متأخر من عمره، فمن الممكن توقع حدتها في شبابه الأول. وسيطرت هذه الصفة بقوة على خياله وذهنه، كما هو جلي في الآيات المكية، التي تحتوي بين حروفها ومعانيها على تأمل عاطفي لكل ما هو حوله، وليس أسلوبا للبرهنة والإقناع. ولعل من بين أكثرها بروزا هو شعور الالتحام بالكون، الذي رافق خلوته ونفسية التقبل الداخلي لمخاطبة الشجر والحجر. فالسور المكية تبرز بحدة الاهتمام المفرط بالليل والضحى، والشمس والقمر، والنجوم والشهب. وهو أسلوب يعبّر عن تأمله لحركة الكون المدهشة ولكل ما هو حوله، التي طالما راقبها في خلوته. ففي سورة (المدثر) نقرأ "كلا والقمر والليل إذا أدبر. والصبح إذا أسفر". وفي سورة (الليل) يردد "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى". وفي سورة (الضحى) يكرر "والضحى والليل إذا سجى". بل نزول القرآن نفسه في "ليلة القدر" التي هي "سلام حتى مطلع الفجر". وفي سورة (الشمس) نقرأ "والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها". وفي سورة (الفجر) "والفجر وليال عشر… والليل إذا يسر".

أننا نعثر في آيات السور المكية على بقوة بقايا شخصيته المتأملة وملامح خلوته، التي كان يمارسها على الأغلب منذ الغروب وقبيل الفجر، أي في الوقت الذي تهجع وتهجد فيه كائنات الوجود الحية، بينما يخلو هو مع نفسه، والذي وجد انعكاسه في فكرة "الحي القيوم"، الذي "لا تأخذه سنة ولا نوم".

ومن الصعب توقع صورة الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم دون معاناة السهر. ولا يعني السهر هنا سوى هجر العادة والخلوة مع الحق (النفس والله) في وديان الجزيرة وشعبها، بحيث تتراءى له نجوم الليل وأقماره عيونا سماوية للذي لا تأخذه سنة ولا نوم. وهي حالة تنتشر في صور القرآن وأمثلته. فسورة (الشرح) تصور موقفه من الله كما لو أنها دعوة منه إليه: "فإذا فرغت فانصب. والى ربك فأرغب"، بمعنى التواجد إليه بعد إتمام فروض العبادة من صلاة ومناجاة وتضرع، والتي كان يقوم بها حتى وقت متأخر من الليل وبدايات الفجر. وتكشف سورة (المزمل) عن عبادته التي أرهقت فيما يبدو بعض اتباعه بوقوف الليل في مناجاة الله. ففيها نقرأ: "ان ربك يعلم انك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه". وإذا كانت حالة المسلمين الأوائل عادة ما تتصف في انهم "قليلا من الليل ما يهجعون"، فمن الممكن توقع حالة النبي. لقد لينت هذه الممارسة عريكته، لكنها ملأته في نفس الوقت بإصرار وإرادة لا تقهر. فقد وصفه علي بن أبي طالب بعبارة مقتضبة قائلا: "كان محمد أجرأ الناس صدرا وألينهم عريكة". وهي صفات متناقضة ظاهريا متكاملة في ذاته.

ولم يكن هذا التكامل نتيجة لوحدة الأضداد في ذاته، بل ولحالة الصراع والمواجهة التي خاضها واضطر لخوضها. فالسيرة النبوية تشير على سبيل المثال إلى تسامحه وعفوه. أي إلى وحدة الأضداد، التي كانت بدورها فضيلة عليا من فضائل التقاليد العربية القبلية التي تعتبر العفو عند المقدرة تجليا اكمل للمروءة والحلم. لذا نراه لم يقل لقاتل عمه (حمزة) إلا بعبارة: "ويحك! غيّب وجهك فلا أرينك!". بينما وجد القرآن في فضيلته هذه أحد أسباب التفاف الناس حوله:"لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك". إلا أن لينه الظاهري مؤشرا عن قوته الباطنة. فقد كان محمد متسامحا بالحق. بينما لا تسامح مع الباطل. وفي هذا تنعكس حقيقية شخصيته الفعلية.

ولعل في يقينه الذاتي بالدفاع عن الحق كما صوره القرآن والسيرة وإصراره الفردي على الصمود ضد محاولات ثنيه عن مبادئه منذ مرحلة مبكرة من نشاطه دليلا على ذلك. ووجد ذلك تعبير النموذجي في كلماته التي قالها لعمه أبي طالب ردا على قريش ورشوتهم إياه مقابل الكف عن محاربة آلهتهم:"والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو اهلك فيه، ما تركته". لقد رفض ترغيب قريش وترهيبهم إياه. وواجه أذاها واستهزاء سفهائها بصبر وشكيمة. ولم يكن هذا الإصرار سوى الصيغة الأولية عن قوته الفعلية، التي بدأت تكشف عن أبعادها الكبرى حالما اخذ ميزان القوة يتغير لصالحه. حينذاك اخذ إصراره يتجلى بصورته الكاملة، باعتباره إرادة متسامية في اتخاذ القرار وتطبيقه التام. حيث اصبح إصراره استمداد من الحق للحق. ولا يغير من ذلك شيئا اضطراره أو إرادته له. لأنه لم يواجه "انفصاما" فكريا أو أخلاقيا في مواقفه انطلاقا من انه لا يفعل إلا بإرادة الحق المتغلغلة في نواياه وأفعاله. أي انه كان يتحسس ويعقل ويحدس نفسه وفعله بمعايير الحق. ووجد ذلك تعبيره في تحديد موقعه الشخصي في المنظومة الدينية والاجتماعية والسياسية للامة وأسلوب تجسيدها. وشق ذلك لنفسه الطريق إلى عقله ووجدانه لوحدانية الحق في أفعاله. فقد قال مرة لعمر بن الخطاب عندما وقف بالضد من "تنازلاته" أمام سهيل بن عمرو ممثل قريش أثناء عقد الصلح معها قائلا:"أنا عبد الله ورسوله. ولن أخالف أمره. ولن يضيعني". وهو إصرار لم يكن معزولا عن تطوره الفكري والسياسي، والذي تجسد لاحقا بصيغة تمسك بالفكرة والعمل على تحقيقها. والقرآن مليء بأمثلة من هذا القبيل. بل أن النبي نفسه كان مشتهرا بين اتباعه بهذه الصفة. فعندما عزم على احتلال مكة بعد أن خرقت قريش عهدها معه، لم تثنيه محاولات أبو سفيان تجنب هذا الهجوم وحضوره الشخصي إلى المدينة للتدخل بما يكفل عدم شن الهجوم عليها. كما رفض أبو بكر وعمر بن الخطاب التدخل كوسطاء بينه وبين محمد للقيام لهذه المهمة. وهي صفه لصها علي بن أبي طالب في رده على أبي سفيان عندما قال: "إن محمد عزم على أمر ما نستطيع أن نكلم فيه". ذلك يعني أن اتباعه كانوا يعرفون بان اتخاذه القرار يعني إنجازه مهما كلف الأمر. وهي صفة وفعل يستندان إلى وعيه الخاص عن موقعه في المنظومة الروحية والعملية الجديدة للامة باعتباره رسول الله. وعبّر عن ذلك بوضوح في أحد مواقفه عندما قال لاتباعه في معركة أحد:"لا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه". وإذا كانت هذه الصفات محط إعجاب اتباعه، فإنها بدت في أعين أعدائه سحرا. فقد وصف فرد من قريش شخصية محمد قبل احتلاله لمكة قائلا:"يا معشر قريش! إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني ما رأيت ملكا في قوم مثل محمد في أصحابه". ويورد الواقدي كلمات أبو سفيان القائل:"ما رأيت من قوم اشد حبا لصاحبهم من أصحاب محمد له".

ارتبطت صيرورة هذه الصفات بحياة محمد، كما ارتبطت نبوته بها. فقد كانت هذه الصفات استمرارا لما هو كائن فيه. فأننا نعثر في القرآن على صور جلية وأخرى مستترة عن صفاته الواقعية التي توردها كتب السيرة والتاريخ. ومن بين أكثرها جوهرية بالنسبة لنا الآن هي الصفات التي بلورت عالمه الروحي قبيل بدء الدعوة الإسلامية (النبوية)، التي ساهمت في بناء كينونته النبوية.

فقد كان محمد صموتا في حياته قبل الدعوة. إذ لم نسمع عنه أثرا في "أسواق" العرب ومهرجاناتها، والتي كان يؤمها ويحضرها. وتنقل لنا كتب التاريخ والسيرة عنه حظوره للحج وأسواق العرب. والدليل على ذلك هو استغلاله لها في وقت لاحق، عبر محاولاته العديدة نشر الديانة الجديدة في الأسواق السنوية والحج.

وظلت هذه الصفة ملازمة لشخصيته. فالمعروف عنه انه لا يطنب ولا يسهب، ولا يتكلم إلا بقدر محدود. بل أن القرآن نفسه مثال نموذجي لهذه الصفة سواء من حيث الظاهر واللغة أو من حيث الفكرة والمضمون. أننا نعثر فيه على مقدرة لغوية بارعة وصياغة فكرية دقيقة وجمال متسام. وقد كان ذلك بمعنى ما نتاجا للصمت والخلوة المتضافرتين في سجع التقاليد "النبوية" العربية، التي اختزلت الفكرة في العبارة وتحملت معاناتها في الأعماق، باعتباره أنزه السبل للبحث عن الحقيقة والاكتفاء بها. حيث تتحول العبارة إلى خزانة الأفكار، التي تخبئ في "ظلمتها" جواهر الروح. حينذاك يصبح الحوار الباطني عالما مليئا بالفرح. وبأثر ذلك تصبح الأذية التي يواجهها ظاهريا اللعبة الداخلية للخروج إلى عوالم التأمل الشامل. وحصلت هذه الحالة في شخصية محمد على مخرجها النموذجي بارتباطه الروحي بالإرادة الإلهية، الذي جعله يرى في كل ما يعارضه أمرا عابرا. لهذا السبب لم ير في أعدائه، كما هو جلي في مواقفه وأحكامه،  أعداء شخصيين. وابعد حتى من مخيلته شبح العداء والعداوة. فعندما تعرض لهجوم العرب في معركة أحد ، الذي كان يمكن أن يؤدي بحياته لم يقل بحقهم غير كلمات:"كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم". ذلك يعني انه لم ينظر إليهم بمعايير العداوة والعداء. لقد نظر إلى نفسه باعتباره نبيا لأعدائه أيضا. وقد وجد ذلك تعبيره في الحوار الذاتي، كما صوره القرآن في الآية "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم".

لم تكن هذه الصفات معزولة عن معاناته العميقة في التفاعل مع الأحداث، وشخصيته المشبعة بتقاليد الصمت المشبوب بالصبر. فمن غير الممكن عزل أحدهما عن الآخر. لان الصمت نتاج الصبر. والصبر حلقة في الصمت. ويحتوي القرآن والسيرة على أمثلة عديدة عن مقابلته الأذية بالصمت والصبر. فعندما توفي أبو طالب (سنده المادي والمعنوي الكبير) أخذت قريش بزيادة مضايقته، مصحوبة بالاستهزاء والسخرية، مثل تلك التي تصفها السيرة النبوية عن رمي التراب عليه. وعندما حاولت إحدى بناته باكية تنظيف شعره، فانه اخذ يواسيها قائلا:"لا تبك يا بنية. فان الله مانع أباك". وليست هذه المنعة في الواقع سوى ضرورة التحلي بالصبر. فهو المنع الإلهي، الذي استند بدوره إلى تقاليد التفاؤل العربية القائلة "بأن مع العسر يسرا". أي كل ما يحول الصبر، باعتباره أسلوبا لسمو الذات، إلى صفة جوهرية للمؤمن، كما صورته سورة (المزمل) بدقة بالغة في إحدى آياتها، التي طالبت النبي محمد نفسه بكلمات "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا". وهو صبر لا خنوع فيه ولا خضوع. إضافة لذلك انه مقترن بتفاؤل الإرادة الخالصة في سعيها للحق. إذ تفترض الرسالة الإلهية العمل بمعاييرها، باعتباره فعلا لابد وان يرى (نتيجة)، كما في الآية: "واصبر لحكم ربك فانك في أعيننا". حينذاك يصبح الصبر والهجران تركيبة للإصرار والتحدي المعنوي الرفيع، التي حصلت على تعبيرها في دعوة القرآن للتحلي بالصبر الجميل، والذي تمسك به النبي محمد حتى آخر حياته.

لقد تبلورت صفة الصابر فيه على أساس التقاليد العربية، التي ساوت بين الصبر والجمال. ولكنها اتخذت منحى ومضمونا آخر تطابق في قواعده وغاياته مع المنحى الشامل للفكرة التوحيدية ـ الإسلامية. مما أدى إلى تصّير عنصر التأسي، والذي أدى بدوره إلى إثارة الحزن الدائم فيه. فقد كان يصاب بالألم من تحمله الصبور للدرجة التي تجعله يتحسس معنى الشقاء بكل حذافيره، بحيث خاطبه القرآن مرة "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي". وخاطبه في آية أخرى "لعلك باخع نفسك الا يكونوا مؤمنين". وفي آية ثالثة "ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون". وهي حالة تميز كل من يتحول العالم المحيط به إلى جزء منه، والتي تنفي شعور عدم الاكتراث وتجعل من القضاء عليه الأسلوب "الطبيعي" للتفكر الحزين. وهو تفكير يعكس في وظائفه المتنوعة تناقض الواقع ومحاربة عدم الاكتراث به، كما هو جلي في الكثير من آيات القرآن.

فالقرآن يخاطبه بان لا يحزن، وان يصفح الصفح الجميل، بينما يهدئه في موقع آخر بكلمات:"فلا يحزنك قولهم. انا نعلم ما يسرون وما يعلنون". وهي مواقف نعثر عليها على مجرى امتداد القرآن. ولا يعني ذلك محبة النبي محمد للحزن كما هو. كما لم يصبح الحزن علامته المميزة، بقدر ما شدد على نقيضه. وذلك لان القرآن لم يجعل من الحزن فضيلة. على العكس! أن المؤمن الحق هو آخر من يسكن الحزن فؤاده. فعباد الله المصلحون، كما ردد القرآن "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وهي فكرة تستمد مثالها من الله الإسلامي باعتباره مصدرا ومثالا مطلقا للقوة والسعادة الأبدية. وحاول محمد جهده التمسك بهذه الفكرة. وليس مصادفة أن نعثر في آيات القرآن على انتقاد ضمني لهواجسه الحزينة. فالمسلمون كانوا "يعرفون في وجه رسول الله الحزن"، كما تشير السيرة النبوية. والمقصود به هو الحزن المتسامي. لهذا منع النبي النساء من البكاء والصياح (إظهار الحزن) على مقتل جعفر في معركة مؤتة، وطالب "بحثّ التراب في أفواههن". ذلك يعني أن الحزن ومحاربة الحزن مجرد تجليات نوعية مختلفة لأعماقه المتصيرة في أعماق المرحلة الوثنية ونفيها الإسلامي. ولا غرابة في ذلك، إذ لا تفترض الوثنية إسدال حجاب اليقين أمام يقين زوالها، كما لا تمنع العبودية ظهور أبطالا منتفضة ضدها.

***   ***   ***

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2021 الأحد 05 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم