قضايا وآراء

اشكالية المنهج في قراءة الفنون السومرية / زهير صاحب

تتصف باصالة الاسلوب. فالوسيط الحضاري كامن في نسيجها كما هو قائم خارجها . ذلك ان (حوار) الحضارات في احدى قاعات متحف اللوفر العظيمة  وبما يميزه من ضخامة وتنوع، فان العين التي تجيد اللمس، تستطيع انتقاء التشكيلات السومرية من بين جمهور الحاضرين. وصفة حضور التشكيلات هنا، كونها مؤسسة وفق مفاهيم ضاغطة –بيئية- دينية- ملكية. انها بمثابة تشييد لهذه المهيمنات، فالخبرة الجمالية هنا، تقدم مقولتها على انها وثيقة حضارية.

 

اولاً: لعل في اكتشاف الكتابة، وتاسيس اول مدرسة، ووضع انظمة التخطيط الحضري والاقليمي، وانسانية القوانين السومرية، وحرية الافراد ضمن حدود النظام، وانسّنة الاسطورة والملحمة، ولبنات الديمقراطية الاولى في العالم، وملامح فكرة الحياة الفاضلة. هي فضيلة العقلية السومرية المُبدعة للانسانية والتي ما زالت (كونية) لاتحدها حدود زمانية او مكانية. وبحوزتنا نشيد  يصف العصر السومري بكونه عصر الطاعة :

يوم يَحجم المرء عن السفاهة ازاء غيره، ويكرم ألابن اباه، يوم يبان الاحترام،جلياً في البلاد،ويبجل صغير القدر الكبير، يوم يحترم الاخ الصغير اخاه الكبير، ويرشد الولد الاكبر الولد الصغير، ويتمسك (الاخير) بقراراته... حيث يسود الحب والسلام .

 

ولذلك فان الثراء الفكري السومري، بصدد الكم والكيف، لا توقفه حدود مصطنعة، انه اقوى من ان يوقف عند حدود، فهو ملك للانسانية وارثها الحضاري، والذي ما زال حياً ومتحركاً حتى هذه اللحظة.

 

ثانياً: في العام 1978م، سافرت مجموعة من التماثيل السومرية، من بغداد الى باريس، لتعرض للجمهور الفرنسي ضمن معرض استرجاعي للفنون الرافدينية، وقد تزامن عرضها مع افتتاح جديد لاعمال النحات ( رودان) وهو من اشهر واهم الفنانين الفرنسيين في الفن الحديث. والمدهش، هو ان الاحتفال (برودان) قد تحول الى احتفالية بالفنون السومرية . واشكالية التقبل والتلقي والاستجابة الجمالية، ترتكز هنا، على ان الفكر المعاصر، قد فهم الفنون التشكيلية السومرية، باعتبارها (بنيات) ونتاجات ابداعية، تتكون من عناصر شكلية تنتظم داخل انساق خاصة. فتحول ( الاثر) السومري من وسيط تمثيلي لمدلولات اخلاقية محددة، الى انساق خاصة تكتسب دلالاتها من علائقها الداخلية. فالمثير في الموضوع لا اهمية له، والاشتغال يكمن هنا بالقصيدة ذاتها، أي بتوافق الكلمات والصور وتناغمها الدائم والثابت . وان هذه الابداعات في (بنية الفن)، كالشعر بالنسبة للنثر، والموسيقى بالنسبة  للادب، انها بمثابة انطلاق الى (ابصارات) ابعد مدى .

 

ولذلك فان المنحوتات والرسوم والفخاريات السومرية، والتي هي الان (حبيسة) صناديقها الزجاجية المتحفية . لم تكن وسائل ابلاغ موضوعية فحسب، بل انها تشكلات لمثل هذه المضامين، انها انظمة اشكال حية، ذات قيم بنائية وجمالية، باعتبارها اشكال بحد ذاتها . وان استيعابها ياتي من قراءة داخلية للنص، سعياً لكشف مهيمناتها الخارجية. فهي اشكال مهمة وخطيرة في تاريخ الفنون التشكيلية، كخطورة اشكال (بيكاسو وماتيس)، ومن شانها ان تقيم سلسلتها التواصلية مع انظمة الاشكال الابداعية في حركتها عبر مراحل تاريخ الفن.

 

ثالثاً: واننا اذ (نفعّل) اشكالية تلقي الفنون السومرية في بنية الفكر المعاصر، ذلك ان هذه الفكرة، قد نالت جُل اهتمامنا في هذا (الكتاب) . الا انها لم تكن الرؤية الوحيدة في فهم وتفسير الفنون السومرية. فالابداع الفني التشكيلي، وكما هو (كائن) في التشكيلات السومرية . تركيب واع، تُهيمن به ذهنية الفنان، على اليات تنظيم العلاقات في الاعمال التشكيلية، مستندة الى (مرجعيات) ومفاهيم ترتبط ببنية الفكر السومري كماً وكيفاً. فالرسوم والنحوت والفخاريات السومرية، تتكون من (دوال) شكلية، وايضاً من مغزى دلالي كلي هو الفهم الروحي لدورها الاجتماعي . فهي بمثابة تكثيف للافكار بخطاب التشكيل المعلن، انها قوى مُثقلة بمضامين فكرية، كانت تؤدي فعلها المايثلوجي، كرؤى روحية ورموز اجتماعية.

     

ففي مدلولات (العلامات) في المُبدعات السومرية، تشتغل العلامة كبنية (دال) في منطقة المُتخيل، خارج مساحة التكوينات العينية، باعتبارها تقدم تفسيراً حدسياً للامرئيات بقوالب المرئيات. فالعلامة في التكوينات السومرية مثلاً، تشبه ذاتها في القصدية الطبيعية، لكنها خارج حضورها الواقعي كبنية (مدلول) فهي عبارة عن تلخيص للدلالات التي تمثلها، والتي تُشفر عن مغزى دلالي كامن خلفها ( تحت النص) في مدلولاتها في بنية مفاهيم الفكر الاجتماعي، ومن هنا اكتسبت (صيرورتها) وبدت كمفاهيم ازلية الحيوية.

 

وبصراع (التاريخية واللاتاريخية) في نقد الفن، نفهم الاسطورة السومرية، على انها شكلاً من اشكال الادب الرفيع، تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقد وشخصيات وحلول وما اليها. فليس للاسطورة السومرية (زمن) محدد، أي انها لا تبلغ عن مقولتها عن حدث في الماضي. بل عن احداث دائمة الحضور، فزمانها (ماثل) ابداً، ولا يتحول الى ماضٍ، ذلك ان الاله (تموز) الذي اختفى ثم بعث للحياة، انما يحدث ذلك في كل عام، ليبرر (عقلياً) التجدد السنوي المحسوس في حياة الطبيعة، وهو يدعو المؤمن الاعتراف به، وازاء المتشكك لا يحاول تبرير ذاته.

 

وفي (ملمح) اخر، تتمتع الاسطورة السومرية بقدسية، وبسلطة عظيمة ملىء عقول الناس ونفوسهم، لايدانيها سوى هيمنة (العلم) في العصر الحديث. ومهمتها الاساسية، اكساب فكرة (الالوهة) الوان وظلال حية. فالاساطير هي التي ترسم صور الالهة وتعطيها اسمائها بل وتحدد لها صلاحياتها.

 

رابعاً: ان الفن ليس الا اسلوب حياة، واسلوب حياة الانسان، عبارة عن عمليتي انعكاس وخلق لا ينفصمان بعضهما عن بعض . فالانسان ليس منعزلاً، وحين تواتيه فرصة التفتح والانطلاق، فانه يتحول الى عالم صغير، يحمل في طياته ثقافة الجنس البشري السابقة عليه، اما حاضره فيتمثل في (تواجد) عصره في كيانه.

 

ولم تقدم لنا (سومر) صورة منقولة او مثالية لعصرها، كما لم تشوهه ايضاً، لقد استوعبت قوانينه العميقة، وليس احداثه الطارئة، ورات ان من الممكن خلق عالم بديل اخر وبقوانين اخرى. وبثت الحياة في كائنات تنتمي الى جنس مجهول، وقد تميزت بقدرتها الهائلة على اثارة الاسئلة و التحديات، وهذه (الصورة) لا تترك (الانسان) على حاله، بل تضيف اليه جديداً. وبغية تفعيل كل ذلك كانت مثل هذه القراءة.

 

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2024 الاربعاء 08 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم