قضايا وآراء

سامي عبد الحميد وذاكرة مسرحية تورق على صفحات معاصرة / زيد الحلي

"أطراف الحديث" على قناة " الشرقية " في حلقته الأخيرة، أثار شجوناً عديدة تتعلق بتاريخ حقبة مهمة في تاريخ المسرح العراقي يكاد الزمن يطويها .

حديث سامي عبد الحميد جعل الذكريات تنداح لتركن عند شهر تشرين اول عام 1966 .. ففي ذلك الشهرانشغل الوسط الفني والثقافي كثيراً بالحدث الكبير، حين اعُلن عن عزم الفنان سامي عبد الحميد على اخراج عمل فني كان مؤملاً له ان يحدث انعطافة في تاريخ المسرح العراقي وهي مسرحية " الحيوانات الزجاجية " ذات الشهرة العالمية وواحدة من اهم ما كتب الكاتب الامريكي الشهير تنسي ويليامز، ورافق ذلك الإعلان حملة دعائية واسعة، قلّ ان حظي بها عمل آخر، ساهمت فيها الصحف والتلفزيون بمقالات واخبار باركت العمل قبل ان يرى النور، بأمل ان يوفر متعة ثقافية ورقي في مشاهدة واحد من الأعمال المسرحية المهمة في العالم، وحشد الفنان سامي عبد الحميد لعمله ممثلين معروفين من بينهم محسن العزاوي العائد للتو من موسكو بعد ان انهى دراسته الفنية وفخري العقيدي وفوزية الشندي وفوزية عارف، واستعان بالتشكيلي القدير كاظم حيدر لوضع مناظرها ... وبدأت التمارين على المسرحية تجري على وفق سياقات ومنهجية المخرج، وطال امد التمارين فترة طويلة، فالعمل ليس سهلاً وهي لمؤلف كبيروموضوعها غير مطروق في المسرح العراقي، وكان من حسن الصدف انني كنتُ قرأت نص المسرحية في مجلة "المسرح " المصرية التي أعتادت على نشر نصوص مسرحية عالمية في كل عدد منها، لكن من سؤ حظ سامي عبد الحميد ان عددا لا يستهان به من المهتمين أطلعوا على المسرحية، فبقيت مخزونة في ذاكرتهم، وكلهم شوق لمشاهدة رؤى المخرج سامي عبد الحميد للنص، وهو نص آية في الروعة .. كتبه (تنيسي ويليامز) في بداية العام 1944 وناقش فيه العقل الانساني بسيايكولوجية جريئة وبهذا النص عُرف ككاتب مسرحي، بعد ان عرضت المسرحية في شيكاغو بأمريكا للفترة من أواخر شهر كانون الاول عام 1944 الى شهر آذار عام 1945، اذ أنتقل عرضها بعد ذلك الى مدينة نيويورك، وبذلك حقق هذا النص شهرة عريضة لمؤلف ظل نحت ستارة النسيان رغم انه كان يكتب منذ العام 1934 ..

والمسرحية كما ذكر "ويليامز" بعد سنوات في مذكراته تتحدث عنه شخصياً في فترة كان طالباً في جامعة " ستيت" في ميسوري وعن عائلته المتمثلة في شقيقته "لورا" وهي فتاة عرجاء وخجولة جدا، تفشل في عملها كعاملة طباعة ثم ترفض أن تزاول هذه المهنة، وتفضل ان تلهو بالقطع الزجاجية لمجموعة من الحيوانات الصغيرة، كطفلة ما زالت تحبو.

وهذا ما ينطبق ايضا على شخصية الام" أماندا" التي تحلم بتزويج ابنتها "لورا" لعريس مناسب، و ما تفتك أن تكرر يوميا نفس حكاية خاطبيها السبعة عشر المحفوظة بتفصيلاتها المملة عن ظهر قلب من لدن ابنها وابنتها.. من ذلك، نفهم انها (مسرحية تذكرية، اي غير واقعية، وتقوم على الإحلام، والمفردات الفنية الموظفة فيها مفردات مسرحية خالصة، كالموسيقى والاضاءة الخ )

العرض .. والمفجأة غير السارة!

وأعود الى ليلة عرض المسرحية (أحد ايام تشرين اول عام 1966 ).. كانت مثل ليلة عرس، لكن العريس وأعني به مخرجها، لاحظته عند الترحيب بالحضور، وكنتُ أحدهم، كان باهت الوجه، قلق المزاج، وظننتُ انها حالة اعتيادية بالنسبة لمخرج ينتظر رفع الستارة عن عمل وضع فيه رؤية مسرحية غير مألوفة .. كان سامي عبد الحميد ينتظر ان تفتح له " الحيوانات الزجاجية " باباً يدخل منه الى قائمة المخرجين العرب والأجانب الذين أقدموا على اخراج هذه المسرحية المهمة، وآخرهم كان المخرج السوري "خضر الشعار" في عام 1964 .. وقد تناولت صحف عربية ومحلية في وقتها العمل السوري بالنقد الايجابي وأشادوا به وبالطريقة الأخراجية التي سلكها الفنان الشعار، وأظن ان الأهتمام الذي حصل عليه العمل في سوريا، كان أحد محفزات الفنان عبد الحميد، لكن يبدو ان شعوراً داخل الفنان في ليلة العرض بخطأ اختياره للنص الشهير، فأنعكس على نفسيته وهو يستقبل ضيوفه !

وأنفتحت الستارة بتصفيق حار، وكان الحضور من المدعوين ومعظمهم كان يمتلك تصوراً عن العمل من خلال النص الذي نشرته مجلة "المسرح" كما ذكرت، غير ان الذهول اصاب الجميع، فالمسرحية " معرّقة " اي حوّلت من لغتها الشعرية الجميلة الى اللهجة المحلية البغدادية، وأسقط بيد الجميع، فكانت "لورا" التي مثت شخصيتها فوزية عارف تتحدث بـ (البغدادي ) وكذلك الام " اميديا" التي مثلت شخصيتها فوزية الشندي !

وعند أسدال الستارة، تبخر الشوق لمشاهدة العمل الموعود ... وإذا ما تركنا التعريق الذي أساء للمسرحية العالمية إساءة كبيرة، فأن سير الإخراج كان متعرجاً بين صعود وهبوط، بدأ برؤية عائمة وأختتم برؤية عائمة ايضاً، وما بين البداية والنهاية حصلت تحت (ضغط) تقديم ما كان يُعتقد بانه مبتكر، نقاط أنكفاء كثيرة !

وخرجتُ من المسرح، دون ان أقدم التهاني في خلف الكواليس لكادر المسرحية، كما كان سائداً في تلك الايام ... خرجتُ وكلي أسف على عمل لم يقدم شيئاً لمخرج معروف، بل أخذ من جرفه الابداعي، وأسفتُ على وقت ضاع في مشاهدة مسرحية كنت اظن انها ستكون بمستوى يرتقي الى أهمية المؤلف، وتوجهت الى بيتي لأتصفح مجلة المسرح من جديد وأعيد قراءة مسرحية "الحيوانات الزجاجية " كنص مكتوب ... هذه المسرحية التي وضعت ويليامز في مقدمة الصف الأول من كتاب المسرح، وهي المسرحية السابعة التي كتبها ويليامز وصادفت النجاح على خشبة المسرح في شيكاغو في عام كما ذكرت 1945، وفازت بجائزة الدوائر الأدبية للدراما في نيويورك عام 1956، وهي من مسرحيات الذاكرة ومكتوبة في سبعة مناظر تمثل السمات الأساسية لمسرح تنيسي ويليامز. ويصفها في مذاكراته " كانت مسرحية يكثر فيها السرد وتمر بعمق فوق أحداث تبعث في النفس الوحشة والألم .. عقدة المسرحية ترتكز على موضوع ذو جاذبية جنسية يشق طريقه إلى مدينة عتيقة الطراز في احدى ولايات الجنوب الأمريكي، فتتصاعد ضجة كبيرة تحتل مساحة واسعة في أحداث المسرحية"

ويعتقد النقاد بأن ويليامز كان متأثراً إلى حد بعيد بطريقة "فولكنر" في رسم الشخصيات من خلال تحديد المستويات الثقافية المتباينة في المسرحية. وهناك اعتقاد آخر بتأثر ويليامز من خلال الموضوع الذي تبشر به المسرحية بكتابات الروائي د. هـ.لورنس. يقول الناقد هنري بوبكين في كتابه (مسرح تنسي وليامز): "ان الكاتب اضاف إلى اضطراب المسرحية صيغة رمزية تتشابك خطوطها ضمن الموضوع وضمن أفكار الشخصيات والعقد الثانوية الصغيرة حيث يمكن أن يقال أنها مستمدة من التوراة أو المثيولوجيا اليونانية القديمة."

وعلى القارئ ان يتصور كيف تحولت مسرحية هذا مضمونها، الى بيئة عراقية بل بيئة بغدادية، وكيف تحول الحوار الجزل، العميق الذي عرف به كاتبها وكان بمراتب الشعر، الى لهجة تكثر فيها مفردة (شكو ماكو)؟

 

نقد قبل 46 عاماً

وفي اليوم التالي، توجهت الى صحيفة " العرب " البغدادية حيث أعمل، لأكتب نقداً عن المسرحية نُشر يوم السبت 22 /1966/10 تحت عنوان بارز وسط الصفحة التي كنتُ اشرفُ عليها (دراما تذكرية .. ولكن !؟) حاولتُ فيه تفكيك مسالك العمل وناقشتُ الفكرة الإخراجية، ويبدو ان القلم عندما يكون بيد صحفي شاب، يصيبه بعض الإندفاع، ويسلك طرقاً حادة لتوصيل ما يعتقد بصحته، عكس الصحفي المخضرم .. كان القلم بيدي عنيفاً في نقده، وقد لامني الكثيرون على ملاحظاتي لاسيما ان المخرج سامي عبد الحميد من رواد ومجددي المسرح العراقي، لكن للشباب عذرهم وللائمين حقهم !

كتبتُ ذلك النقد في العام 1966 ونحن الآن في العام 2012 اي قبل 46 عاما بالتمام والكمال .. فشكرا لأخي " مجيد السامرائي" ولطلّة " سامي عبد الحميد" إذ لولاهما ما كان لذاكرتي العودة الى تلك السنين، لتقدم صورة عن عمل مسرحي شغلت اخباره الجميع، وحين عُرض اصيب الجميع بالصدمة .. ويالها من صدمة !

هذه المسرحية كادت ان تطيح بسامي عبد الحميد فنياً، غير ان اختصار ايام عرضها على بعض المساءات، وعدم دفاع المخرج عن عمله (وحسناً فعل) خفف من التأثير المحبط على نفسية العاملين فيها، وبعد أكثر من 46 عاما على ذلك العرض، أعتقد ان سامي عبد الحميد ادرك فشله في تلك المسرحية، فما عاد يذكرها في أحاديثه، فأسقطها من ذاكرته !

كنتُ على حق في نقدي لحيوانات سامي عبد الحميد الزجاجية، لكني لستُ على حق في قساوتي الشبابية ... عذرا أستاذ سامي !

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2028الاحد 12 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم