قضايا وآراء

فلسفة العيش المشترك في العراق / ميثم الجنابي

هو استمرار للاحتلال الداخلي، أو الوجه الآخر له ولكن بقوة خارجية. ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في الاحتلال وتبريره. بعبارة أخرى، إن الاحتلال الخارجي محكوم على الدوام بتلازم قوة الخارج وضعف الداخل. ولكل منهما مقدماته وشروطه. وعندما نطبق ذلك على حالة الاحتلال الأمريكي للعراق، فإننا نقف أمام واقع يشير إلى أن الاحتلال كان نتاجا لصعود النزعة الإمبراطورية الأمريكية وانهيار العراق الداخلي.

فقد كانت خطة احتلال العراق تعكس الاتجاه المتناقض لصعود الإمبراطورية الأمريكية وسقوطها. وخصوصيتها بهذا الصدد تقوم في كونها نتاجا للإيديولوجية الراديكالية في صعودها إلى السلطة. فمن الناحية الزمنية هي جزء من الاستفراد الأمريكي المفاجئ بسبب انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي بالأخص. وهو سر صعود الراديكالية المحافظة.

وشأن كل فكرة خاطئة من حيث المنطق وقابلة للتنفيذ بحكم القوة، فإنها عادة ما تصنع زوبعة العجاج العنيف التي عادة ما يختنق فيها الكبار ويبقى الصغار يتلاعبون بذراته المدهشة والمثيرة لحب الاختباء فيها. عندها أصبحت مهمة مهاجمة المثلث العراقي – السوري – الإيراني قابلة للتنفيذ. وأولويتها كانت تكمن بسبب عدائها التاريخي والعميق "لإسرائيل". وهو ترابط محكوم بأصول المحافظين الجدد أكثر مما هو محكوم بفكرة المحافظين الجدد كما هي. مع أن الارتباط بينهما له أصوله وجذوره الخاصة.

فمن الناحية المجردة، يمكننا القول، بان كل تقدم في منظومة الحقوق بين الدول يجعل الاحتلال اشد تعقيدا وصعوبة. وذلك لان تكامل منظومة الحقوق يجعل من انتهاكها عملية وخيمة النتائج وأكثر تكلفة وأشد صعوبة. لكن الواقع يبرهن لحد الآن على أن نفسية وذهنية وفكرة الاحتلال لم تلفظ أنفاسها الأخيرة. بمعنى أنها لم تتحول بعد إلى قطعة أثرية في متحف التاريخ السياسي والحقوقي الدولي. والسبب مقرون بثقل نفسية المصالح، وتقاليد القوة الغضبية، وجزئية الحقوق العامة، واختلاف القوانين الوطنية، وضعف تجانسها العالمي، وتباين التقاليد الثقافية. وهي مكونات هائلة التأثير لها تاريخها العريق في ميدان الروح والجسد الفردي الاجتماعي والقومي والدولتي. من هنا تباين تأثيرها في سلوك الدول، لكنها تتأزم في الأغلب مع صعود النفسية الراديكالية. وليس مصادفة أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد وذروة الانحطاط المعنوي لراديكالية التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وفي كلتا الحالتين نقف أمام هوية خروجهما على الحق. فإذا كان الاحتلال الداخلي هو نتاج للانحطاط المادي والمعنوي في منظومة الحق، فان الاحتلال الخارجي هو انتهاك لها وخرق لمبادئها. ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في انتهاك الحقوق ومستوى خاص في تجسيدها وتبريرها. لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من الانحطاط الروحي والأخلاقي للدول والأمم والفكر. فالاحتلال بحد ذاته انحطاط. أما طبيعته ونوعيته وتأثيره فعلى قدر طبيعة ونوعية الانحطاط الذاتي.

وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان الاحتلال الأمريكي للعراق هو استمرار للاحتلال الدكتاتوري، بمعنى أن كل منهما يكمل الآخر في انتهاك فكرة الحق وسيادة الفرد والمجتمع والدولة. وليس مصادفة أن تكون شعاراتهما الداعمة لمواقفهم العملية متشابهة. التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية حللت المجتمع باسم شعار الوحدة والحرية، والغزو الأمريكي عمق التحلل تحت شعار التحرير (الحرية) والديمقراطية. مما جعل كل منهما يكمل الآخر فيما يتعلق بتفكيك الهوية الوطنية العراقية.

مما لا شك فيه، أن تفكيك الهوية الوطنية هو أولا وقبل كل شيء فعل ذاتي. وهو تفكيك يجعل من الممكن إمكانية التدخل الأجنبي وفعالية أساليبه في تعميق أو تحويله إلى "منظومة". وقد كان الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله "الشرعي" مبني من الناحية الإيديولوجية والسياسية على وقائع جعل منها حقائق. بمعنى استغلاله واقع التجزئة والتفكك الفعلي في الهوية الوطنية العراقية عبر تحويله إلى "حقيقة" جرى رفعها إلى مصاف الأسلوب "الواقعي" و"العقلاني" للتحكم بالدولة ومؤسساتها الجديدة. وهي نتيجة لا يمكن توقع حدوثها في ظل بنية وطنية متكاملة. وهي الإشكالية الكبرى التي جعلت من الغزو أمرا "مقبولا" لأغلبية المعارضة "الديمقراطية" و"الثورية" و"الوطنية" و"القومية" و"الإسلامية" وغيرها، كما جعلت الاحتلال "تحريرا" لأغلبية المجتمع في بداية الغزو. بمعنى إننا نقف أمام اغتراب شبه شامل وتجزئة فعلية بين الدولة والسلطة، والمجتمع والسلطة، والعراق ومكوناته، أي نقف أمام عراق بلا دولة فعلية ولا امة تناسبها. وهو الأمر الذي جعل من رذيلة التجزئة "حقيقة سياسية". وحالما تصبح الرذيلة "حقيقة" وليس مجرد واقعا، فان ذلك يعني بلوغ التجزئة حالة "المنظومة" الفاعلة في كافة نواحي الحياة وعلى مختلف مستوياتها. هي حالة حالما تستقل بفاعليتها الخاصة في بلورة المواقف والقيم (السياسية والأخلاقية) عند الأفراد والجماعات والمجتمع، فإنها تفرض بظلالها على الجميع وتجعل من الضلال دليلا على الواقع. وهي حالة لها تاريخها الخاص في عراق القرن العشرين بشكل عام ومع صعود الراديكالية السياسية بشكل خاص، كما وجدت تعبيرها النموذجي في التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فقد صنعت الأخيرة منظومة التحلل والتفكك الاجتماعي والوطني على كافة المستويات وفي كافة نواحي الحياة. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان تفكيك الكلّ الوطني في العراق هو نتاج الزمن التوتاليتاري والراديكالي. وفيهما ينبغي البحث أولا وقبل كل شيء عن مقدمات الاحتلال وقدرته على تفعيل منظومة التفكك الوطني.

فقد كشف تاريخ البعث والصدامية عن ظاهرة معقدة. لعل مفارقتها الكبرى تقوم في أنها استطاعت أن تعزل الزمن عن التاريخ، وان تجرد زمن وجود الأشياء والناس والأفعال من تاريخها. وهو الواقع الذي يفسر سر انهيارها السريع وهروبها المريع، ليكشفا عن حقيقة تقول بان التوتاليتارية البعثية الصدامية هي زمن بلا تاريخ. من هنا اندثارها الخاطف وبقاياها الخربة في كل مكان. وهي نتيجة تشير إلى فقدان التوتاليتارية البعثية في العراق إلى جذور طبيعية، والى أنها مجرد ظاهرة عرضية ومرضية تمثلت العناصر الرخوية المميزة  للهامشية الاجتماعية والسياسية في عراق القرن العشرين.

إن الحصيلة النهائية للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على امتداد أربعة عقود هي سيادة الزمن الراديكالي وفقدان التاريخ بوصفه تراكما في المؤسسات والخبرة والتقاليد، وانحطاط شامل في منظومة القيم، وتفكيك كل ما يفترض الوحدة في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. وهي النتائج التي مهدت للاحتلال، وجعلت منه عنصرا إضافيا في توسع وتعمق منظومة التجزئة والانحطاط المادي والمعنوي للفكرة الوطنية. وبسبب قوته المهيمنة الجلية والمستترة، أصبح الفاعل الأكثر تأثيرا في إمكانية التلاعب المباشر وغير المباشر في إعادة تجزئة الكلّ الوطني المشوه بطريقة "سياسية" حادة وواضحة المعالم بمعايير الطائفية والعرقية. وهي حالة متراكمة للتجزئة يمكن رؤية بصماتها الناتئة على طبقات التراكم الخفية والعلنية في الموقف من إشكاليات الصراع السياسي التي مر بها العراق في مجرى أربع سنوات من الاحتلال. وهي بصمات تعكس منظومة التفكك الوطني من خلال تفعيل الوحدة المتناقضة للانغلاق والتجزئة كما نراها على سبيل المثال في تحول فكرة الزمن والمؤقت إلى أسلوب العمل السياسي، وتفكك المواقف الاجتماعية، وتصلب المواقف السياسية بمعايير الطائفية والعرقية والجهوية تجاه مختلف القضايا النموذجية مثل قضايا الدستور الثابت والاستفتاء عليه، ومحاكمة صدام و"إعدامه وكثير غيرها. وهي مواقف تعكس ما يمكن دعوته بالخط البياني لظاهرة تحلل الفكرة الوطنية العراقية.

***

إن احد المؤشرات الجوهرية على الأثر المدمر لزمن التوتاليتارية والراديكالية السياسية هو صعود فكرة المؤقت بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. إذ برزت بصورة قوية وسريعة مختلف كوامن الخلل الفعلي في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. ولعل أشدها وضوحا هو خلل الفكرة الوطنية والهوية العراقية. وليس مصادفة أن تطفو إلى السطح ظاهرة المؤقتين، بوصفها الصيغة الأدبية للطفيلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وهي ظاهرة ملازمة في الأغلب لحالة التفكك الاجتماعي والوطني في مراحل الانتقال الراديكالي. وهي ظاهرة دائمة في تاريخ المجتمعات والدول. لكنها تتخذ في مراحل الانتقال طابعا فجا وفاجعا بسبب انهيار مؤسسات الدولة الرادعة وتشتت المجتمع في صراعات جزئية هائلة مع ما يترتب على ذلك من ضعف للتكامل الاجتماعي والوطني. وهو الأمر الذي يجعل منها قوة عابرة، أي مؤقتة بكافة المعايير. وليس هناك من شيء يحكم وجودها غير الاعتياش الدائم على حالة المؤقت في النظام والحقوق. وبهذا المعنى تشكل "الوريث" الفعلي لبقايا الماضي.

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة غريبة ولكنها واقعية من حالات فقدان السيادة التي رفعت شعاراتها الأحزاب السياسية الكبرى ونخبها! وهي مفارقة مترتبة على عمق "غريزة المؤقت" في نفسيتها وذهنيتها. ذلك يعني أننا مازلنا نقف أمام نفس المعضلة الكبرى التي يعاني منها تاريخ العراق الحديث، ألا وهي كيفية الانتقال من الدهر الساري إلى الخلود، ومن الزمن إلى التاريخ، ومن المؤقت إلى الدائم. وهي إشكالية تشكل لب ومضمون الدولة الشرعية والمجتمع المدني والنظام الديمقراطي، أي مضمون كل الحركة الكبرى التي ميزت واقع وآفاق المأساة الوجودية للعراق المعاصر نفسه.

فمن المعلوم، أن العراق لم يعرف في تاريخه الحديث والمعاصر فكرة ونموذج الحكم الثابت. فقد كان تاريخه منذ عشرينيات القرن العشرين سلسلة من "الانقلابات" الحادة التي جعلت منه ميدانا لمختلف التجارب الراديكالية، التي تتوجت بصعود التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وفيهما تجسدت بصورة "فاضحة" فكرة ونموذج "المؤقت" في كل شيء. بحيث تحول "المؤقت" فيه إلى ثبات دائم.

إن انعدام الثبات الحقيقي في الدولة العراقية وتاريخها المعاصر يقوم في عدم استنادها إلى أرضية الحق الدائم والدستور الدائم. فهو الأساس الوحيد القادر على أن يضفي على تغير السلطة وتبدل أشخاصها قوة إضافية بالنسبة لترسيخ تقاليد الحق والشرعية وتراكم قوتها الذاتية في كافة الميادين. وفي حال النظر إلى واقع العراق بعد سقوط الدكتاتورية، فإننا نقف أمام نفس الضعف الفعلي المميز لنفسية وذهنية “الانتقال"، أي المؤقت. طبعا أن لهذه الحالة مقدماتها القائمة في انعدام مؤسسات الدولة في المرحلة الدكتاتورية، إذ لم توجد دولة بالمعنى الدقيق للكلمة. أما "الجمهورية الثالثة" فقد كانت دولة بدون مؤسسات شرعية، أي مجرد جغرافية متهرئة لسلطة خشنة. وهو الأمر الذي يفسر سيادة "العابر" فيها. فقد كان كل ما فيها انتقالي بالمعنى السياسي والاجتماعي والأخلاقي. من هنا انعدام إمكانية التراكم، وبالتالي تأسيس التقاليد الضرورية للدولة العصرية. في حين أن أربع سنوات من الاحتلال، وأربع سنوات من توسع التفكك الوطني قد أدى إلى صنع منظومة التفكك الوطني الفاعلة بمقاييس الطائفية السياسية والعرقية القومية العلنية والمبطنة، أي اشد النماذج تخريبا للفكرة الوطنية ومرجعيات العيش المشترك. بعبارة أخرى إننا نقف الآن أمام وجود وفاعلية "منظومة" خفية آخذة في "التكامل" للنزعة الطائفية والعرقية. وهو الأمر الذي جعل من رذيلة التجزئة "حقيقة سياسية". وحالما تصبح الرذيلة "حقيقة" وليس مجرد واقعا، فان ذلك يعني بلوغ التجزئة حالة "المنظومة" الفاعلة في كافة نواحي الحياة وعلى مختلف مستوياتها. هي حالة حالما تستقل بفاعليتها الخاصة في بلورة المواقف والقيم (السياسية والأخلاقية) عند الأفراد والجماعات والمجتمع عموما، فإنها تفرض بظلالها على الجميع وتجعل من الضلال دليلا على الواقع.

***

التاريخ لا يعرف قانونا صارما ولكنه قادر على البرهنة الدائمة على أن الخروج على الحكمة السياسية يؤدي بالضرورة إلى الجحيم. وليس هناك من جحيم بالمعنى التاريخي والسياسي والأخلاقي أقسى من جحيم الانحطاط والتفكك الوطني مع ما يترتب عليه من حتمية مختلف أشكال الصراع والحروب غير العقلانية. وهي نتيجة تؤدي إليها بالضرورة الطائفية السياسية والقومية العرقية. وذلك لأنها تعجز عن صنع الثبات والديمومة على أسس عقلانية عاملة بمعايير المستقبل. مما يجعل منها بالضرورة قوة مغلقة ومنغلقة ومتعصبة وعدائية وقابلة للانحدار صوب التدمير الذاتي. وهي الرؤية التي تعطي لنا إمكانية التفاؤل العقلاني والواقعي، انطلاقا من إدراك خصوصية العراق وقابليته الذاتية، على هزيمة المشروع الطائفي والقومي العرقي. وهي الحالة التي يمكن رؤية معالمها الأولية في فشل المشروع الأمريكي في العراق. وهو فشل محكوم أولا وقبل كل شيء بالحقيقة القائلة، بان مشاريع البدائل الكبرى تفترض المعاناة الذاتية من اجلها. وأنها مشاريع وطنية أولا وقبل كل شيء من حيث القوى والرؤية والأساليب والإمكانيات والغاية.

ذلك يعني، أن فشل المشروع الأمريكي للديمقراطية ليس نتاجا لنية سيئة أو سوء فهم وتقدير أو عدم دراية وجهل وغيرها، بقدر ما انه الخاتمة الطبيعية لكل مشروع خارجي. إن حقيقة البدائل المستقبلية الكبرى ينبغي استمدادها من المستقبل. وهو أفق لا علاقة للقوى الأجنبية به إلا بالقدر الذي يستجيب لمصالحها الآنية والبعيدة المدى. بمعنى أن الحوافز الدفينة محكومة بتاريخ خاص. والمشروع الأمريكي محكوم بالتاريخ الأمريكي ومصالحه ومرجعياته. والشيء نفسه عن المشروع العراقي. وفشل المشروع الأمريكي في العراق هو النتاج الطبيعي لهذا الاختلاف والتباين. كما انه يبرهن على جملة حقائق كبرى، وهي:

  1. 1.إن نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة
  2. 2.إن نجاح أي مشروع كبير مرهون باستشراف المستقبل الذاتي للأمة
  3. 3.إن نجاح أي مشروع يفترض المعاناة من اجله
  4. 4.إن أجمل وأفضل المشاريع الأجنبية تبقى غريبة من حيث المقدمات والنتائج
  5. 5.إن المشاريع الأجنبية لا يمكنها التوفيق بين رؤيتها الخاصة ورؤية الآخرين، وبالأخص في ظل اختلافات جوهرية في التاريخ الثقافي والسياسي والتطور العام.
  6. 6.إن المشاريع الأجنبية هي إما أملاءات وهو الأتعس، وإما سياسة المصالح الضيقة وهي الأكثر تخريبا
  7. 7.وأخيرا، إن المشاريع الأجنبية هي مؤشر على خراب ذاتي، ودليل على اختلال في توازن القوى. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها.

كل ذلك يفترض إعادة تأسيس الفكرة الوطنية والهوية العراقية على أسس ما أدعوه بحكمة الاستعراق، أي الفلسفة التي تستمد مقوماتها من التاريخ الذاتي للأقوام والأمم العراقية، من خلال جعل العراقية أسلوبا لتذليل العرقية، وبالتالي رفع الجميع إلى مصاف القومية الثقافية. أما المبادئ المكونة لفكرة الاستعراق فهي:

  1. 1.العراق ليس تجمع أعراق،
  2. 2.العراق هوية ثقافية سياسية،
  3. 3.العراق غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافدينية العربية الإسلامية،
  4. 4.العربية – الإسلامية هي جوهر ثقافي،
  5. 5.الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية هي الاستعراق،
  6. 6.الاستعراق هو الحد الأقصى للقومية في العراق،
  7. 7.الاستعراق هو البيت الذي تتعايش فيه جميع القوميات في العراق بصورة متساوية ومنسجمة،
  8. 8.الاستعراق هو ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية الذاتية له،
  9. 9.الخروج على الاستعراق هو رجوع إلى العرقية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية،
  10. 10.الخروج على الاستعراق هو خروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، ومن ثم فهو خروج على القانون أيضا.

***

إن تفعيل الهوية الوطنية العراقية بوصفها مرجعية العيش المشترك تفترض تحقيقها العملي من خلال صياغة ما ادعوه بالأوزان الضرورية للهوية العراقية العامة والهويات الجزئية، للدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية، للسلطة الديمقراطية والمجتمع (المدني)، للنخب الاجتماعية والسياسية، للثقافة العامة والخاصة، للتربية والتعليم، للإعلام ومهماته العامة والخاصة.

تبرهن التجربة التاريخية المعاصر للعراق على أن التفريط بحقيقة الهوية الوطنية، كما تجسد بصورة نموذجية في التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هو تفريط بكافة الحقوق، بما فيها حق الحياة. وهو الأمر الذي يجعل من صياغة رؤية واقعية وعقلانية عن وحدة وتجانس القومي والوطني في العراق إحدى المهمات الأساسية من اجل تكامل الجميع في بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهو الثالوث القادر على احتواء صراع الجميع واختلافهم، والإبقاء قي نفس الوقت على تراكم الثروات المادية والروحية للمجتمع والدولة. كما انه ضمانة إعادة اللحمة الاجتماعية والوطنية عبر تذليل مختلف أصناف البنية التقليدية، التي لا تحمي في نهاية المطاف أيا كان. وذلك لان البنية التقليدية مهما كان شكلها ومضمونها، لا تعمل في نهاية المطاف إلا على تعميق الهوة الفعلية في الفرد والجماعة والمجتمع والثقافة والدولة، أي في كل مكونات الروح والجسد الفردي والاجتماعي للقوميات المكونة للعراق. كما أنها حالة تتعارض من حيث الجوهر مع حقيقة العراق المتراكمة تاريخيا، باعتباره كينونة ثقافية سياسية.

إن تعميم التجربة التاريخية للعراق الحديث وبالأخص ما تمخضت عنه مرحلة الاحتلال ونتائجها وإفرازاتها يصدد العلاقة الضرورية بين الهوية الوطنية العامة والهويات الجزئية، تفترض بلور جملة من المبادئ الضرورية لصنع التوازن بينهما، أي مبادئ الأوزان الداخلية للهوية الوطنية العراقية العامة والهويات الجزئية (للأقليات القومية). ومن أهم هذه المبادئ:

  1. 1.التخلص من فكرة "الجغرافيا القومية" في العراق. إذ لا جغرافية قومية في العراق، بسبب كونه كيانا تاريخيا ثقافيا تداخلت فيه الأقوام والأمم والشعوب والثقافات والأديان.
  2. 2.العمل من اجل إدراك وتجسيد الحقيقة القائلة، بان "ما بعد الدولة" هو جزء من الدولة وليس من القومية.
  3. 3.ألا يجري تحويل "التاريخ" (ما قبل الدولة الحديثة) إلى جزء من الرؤية القومية الضيقة، كما انه لا معنى لتحويله إلى جزء من اللعبة السياسية.
  4. 4.تحقيق المبدأ القائل بضرورة التخلص من فكرة الزمن وليس من فكرة التاريخ. ومن ثم فان التاريخ الوحيد في العراق هو تاريخه الكلي بوصفه التاريخ الوحيد المقبول وكل تاريخ آخر هو مجرد زمن.
  5. 5.التخلص من فكرة العرق وليس من فكرة القومية في المواقف العملية والخطاب السياسي.
  6. 6.إلغاء الفكرة الطائفية بشكل عام وتجريم الطائفية السياسية بشكل خاص.

***

إن الأساس الضروري للعمران الشامل في العراق يفترض أولا وقبل كل شيء تحديد ماهية الدولة الشرعية أو الدولة البديلة. فهي المقدمة الضرورية والضمانة الفعلية لطبيعة ومجرى التطور اللاحق. وعليها يتوقف بصورة حاسمة مضمون وآفاق التقدم المنشود في العراق. لاسيما وأنها المعضلة الجوهرية لتاريخه المعاصر، وأسّ أزمته البنيوية الشاملة.

إن التعقيد الأكبر في بناء الدولة الحقيقية في العراق يقوم في كيفية التوليف الواقعي والعقلاني بين بناء الدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية. وهي مهمة يمكن إنجازها من خلال البحث عن الأوزان الداخلية للدولة الشرعية فيه. وليس المقصود بالأوزان الداخلية بشكل عام سوى التأسيس الواقعي لفكرة الاعتدال العقلاني في مشروع بناء الدولة الحديثة في ظروف العراق الملموسة وخصوصيته الوطنية.

وهي فكرة تفترض تأسيس منظومتها على ثلاثة مبادئ ملزمة وهي:

  1. 1.ضرورة تمثل الدولة لتاريخها الكلي. والمقصود به هو تمّثل فكرتين أساسيتين فيه. الأولى، انه تاريخ واحد وموحد، والثانية انه تاريخ أقوامه وشعوبه جميعا. ومن هاتين الفكرتين ينبغي صياغة المبدأ العام القائل بضرورة تحويل تمّثل التاريخ الكلي للدولة إلى عنصر جوهري في تربية فكرة الدولة الشرعية وتاريخها الحقيقي في الوعي الاجتماعي والوطني والقومي.
  2. 2.ضرورة تجسيد حقائق تاريخها الكلي. والمقصود به هو تجسيد خمس حقائق كبرى فيه. الأولى، هي حقيقة الوحدة التي لا تقبل التجزئة في تاريخه. والثانية، إن العراق وحدة لا تقبل التجزئة الثقافية والجغرافية (بوصفه بلاد الرافدين). والثالثة، إن الهوية العراقية هي هوية تاريخية ثقافية وليس عرقية أو طائفية. والرابعة، إن مضمون هويته الوطنية هو توليف لمكوناته الرافدينية والعربية والإسلامية. والخامسة، إن العراق هو مسرح وجود وعيش الأقوام، ومن ثم فإن الانتشار الجغرافي على أراضيه من جانب أي كان هو مجرد تمثيل لدور جزئي عليها. ومن هذه الحقائق الخمس ينبغي صياغة المبدأ العام القائل، بأن قيمة الدور الذي تلعبه هذه القوة أو تلك فيه، تتوقف على مدى قدرته توليف ما أسميته بتمثل تاريخه الكلي وتجسيد حقائقه الكلية في عملية البناء الذاتي للدولة الشرعية العصرية.
  3. 3.تكاملها التلقائي من وحدة أوزانها الضرورية. والمقصود به تكاملها الذاتي عبر دراسة الأسباب الفعلية الرئيسية التي أدت إلى فشل بناء الدولة الشرعية العراقية في العصر الحديث. والتوصل عبر ذلك إلى بناء مرتكزات واقعية وعقلانية لإعادة فعالية الأوزان الداخلية للدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية.

إن دراسة تاريخ العراق الحديث، والأسباب الفعلية القائمة وراء فشل بناء الدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية يوصلنا إلى ضرورة تأسيس منظومة الأوزان الداخلية للدولة والسلطة. ولعل أكثرها أهمية الآن هي المرتكزات التالية:

  1. 1.أن تكون حركة البناء تلقائية المبدأ والغاية.
  2. 2.أن يكون منطلقها ومستندها في التخطيط والرؤية حقائق الهوية الوطنية العراقية (الاستعراق).
  3. 3.أن يجري بناء الدولة على أساس الهوية الثقافية القومية وليس العرقية.
  4. 4.إن الدولة البديلة هي الدولة الشرعية، أي الدولة التي تبني مرتكزاتها المادية والروحية حسب قواعد الشرعية ومتطلبات القانون.
  5. 5.إن هذه المرتكزات هي الصيغة العملية والمرحلية لحقيقة الأوزان الداخلية. وهي ثمان أوزان تتضمن (توازن السلطة والمجتمع، وتوازن الحرية والنظام، وتوازن الاقتصاد والعلم، وتوازن التربية والتعليم، وتوازن الثقافة والإبداع، وتوازن الصحة والرياضة، وتوازن التقاليد والمعاصرة،  وتوازن الوطني والقومي والعالمي).
  6. 6.إن هذه الأوزان العملية ثابتة في أبعادها الإستراتيجية.
  7. 7.إن هذه الأوزان العملية متغيرة في أبعادها المرحلية من حيث الأولية والنسبة في مكوناتها.
  8. 8.إن هذه الأوزان منظومة مترابطة ومتكاملة.

***

يفترض بناء الأوزان الداخلية للسلطة والمجتمع المدني حل ثلاث إشكاليات نظرية وعملية كبرى وهي:

  1. 1.صياغة الرؤية العامة للفكرة الليبرالية في العراق. والمقصود به هو تحديد شكل الليبرالية الممكنة، بوصفها أيديولوجية الوحدة المرنة للحرية والنظام.
  2. 2.تحديد طبيعتها وحدود العقلانية الفعلية فيها. والمقصود به هو ضرورة التنسيق الدائم لنسبة المتغير والثابت في المبادئ الجوهرية للفكرة الليبرالية. وفي ظروف العراق الحالية ليست هذه النسبة سوى شكل العلاقة الممكنة بين السلطات من اجل بناء الصيغة العقلانية والواقعية للدولة الشرعية، وكذلك شكل العلاقة الممكنة بين الديني والدنيوي من اجل التفعيل العقلاني والواقعي لعناصر المجتمع المدني. إذ يفترض تأسيس شكل العلاقة الممكنة بين السلطات، التركيز على فصل السلطات من خلال توحيدها الدائم بمعايير الحقوق الشرعية والمهنية المحترفة. ذلك يعني أن خصوصية الليبرالية الممكنة بصدد الإشكاليات الواقعية لفصل السلطات في ظروف العراق الحالية تقوم في تأسيس عملية تركيب السلطات وتنسيق نسبها بصورة متكافئة. بينما يفترض تأسيس شكل العلاقة الممكنة بين الديني والدنيوي، التركيز على كيفية تعايشهما ضمن منظومة التفعيل العقلاني والواقعي لعناصر المجتمع المدني. وهو تركيز ينبغي أن يسير في اتجاهين متوازين، الأول عبر البرهنة النظرية والعملية على أن الخلاف المفتعل بين الديني والدنيوي في العراق هو النتاج الطبيعي لطغيان الراديكالية السياسية والهامشية الاجتماعية في تاريخه المعاصر. أما الاتجاه الثاني، فيقوم بالتحقيق العملي على إمكانية الاشتراك الفعال من جانب الحركات السياسية الإسلامية في بناء المجتمع المدني.
  3. 3.منهجة أولوياتها الاجتماعية والوطنية. والمقصود به هو تحديد أساليب تأسيس بنيته التحتية، ورسم الخطوط العامة لنوعية البديل القادر على تحدي الإشكاليات الواقعية للتحديث والعصرنة. وهي مهمة تفترض أولا وقبل كل شيء التركيز على أولويات المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية والطائفية.

وعندما نضع هذه المنطلقات العامة أمام مهمة تجسيد فكرة المجتمع المدني في العراق، فإننا سوف نقف بالضرورة أمام العامل السياسي، بوصفه الضمانة الواعية والاستثنائية في ظروفه الحالية بهذا الصدد. من هنا المسئولية التاريخية للقوى السياسية في ظروف العراق الحالية. وهو واقع يفرض عليها ضرورة تحمل "قربان" التضحية الكبرى من خلال تقديم

  1. 1.برامج اجتماعية المضمون، عراقية الغاية.
  2. 2.توسيع القاعدة الاجتماعية للمطالب المهنية ورفع الوحدة المهنية العراقية إلى مصاف القوة الاجتماعية الموحدة. ومن خلالها عقلنة برامج ومواقف الأحزاب السياسية والسلطة على السواء.
  3. 3.الدور الجوهري للمثقفين في تهذيب مكونات وعناصر المجتمع المدني من خلال مواجهتهم الدائمة لإشكالية الحق والحقيقة بالشكل الذي يضمن عقلانية وواقعية الأحزاب والسلطة في التعامل مع الدولة والمجتمع.
  4. 4.تأسيس وتحقيق النسبة الضرورية بين الأولويات الاجتماعية والوطنية في بناء المجتمع المدني في العراق.

ويفترض تحقيق هذه النسبة في ظروف العراق الحالية البحث عن صيغ واقعية لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقومية والطائفية، بالشكل الذي يفعل على تأسيس المجتمع المدني وتفعيل عناصره الأساسية.

ففي مجال الاقتصاد، يفترض ذلك التأسيس للفكرة الاجتماعية النشطة ضمن آلية السوق. بمعنى تطويع الفكرة الليبرالية بالشكل الذي يجعلها قادرة على تحقيق الحد الأقصى من مضامين الفكرة الاشتراكية الديمقراطية.

وفي مجال الاجتماع، فان المهمة الكبرى تقوم في الكيفية التي يمكن من خلالها بناء اللحمة الاجتماعية الجديدة. وهو بناء يفترض:

  1. 1.القيام بجرد اجتماعي وإحصائي دقيق للمشاكل الاجتماعية الكبرى المتعلقة بالأسرة والرجال والنساء والشباب والأطفال والتربية والتعليم والعمل والصحة وغيرها من القضايا التي تمس الحياة اليومية.
  2. 2.المهمات الآنية والبعيدة المدى المتعلقة ببناء اللحمة الاجتماعية الجديدة عبر موازاة الرؤية النظرية والعملية لكي تؤدي وظيفة تفتيت البنية التقليدية، وتركيب البنية المدنية البديلة.

وبما أن المجتمع المدني هو نفي للبنية التقليدية، من هنا احتياجه في ظروف العراق الحالية إلى أسلوب واقعي وعقلاني لبناء مؤسساته. وهو أسلوب يفترض بدوره الاستناد إلى قوى تلقائية نابعة من المجتمع نفسه. ولا يمكن تحقيق ذلك دون تحقيق ثلاث أفكار أساسية وهي:

  1. 1.فكرة الخلايا الحيوية، بحيث تكون الأولوية فيها للبناء وليس للرفض. والمقصود بذلك بناء أسس ومكونات وعناصر الشرعية في جميع مسام الوجود الفردي والاجتماعي
  2. 2.فكرة الحرية الفردية، بوصفها أسلوب ترسيخ المجتمع المدني وإعادة إنتاجه في الفرد والجماعة والاقتصاد والثقافة. فالحرية الفردية هي المؤشر الواقعي على مستوى التجسيد الفعلي للأبعاد المدنية في المجتمع والأسلوب الوحيد لتثويره الدائم. وفي دورها هذا تكمن المهمة التاريخية الكبرى لتنشيط الخلايا الاجتماعية بالشكل الذي يجعل من الجماعة كينونة دائمة للنظام والشرعية
  3. 3.فكرة النظام الاجتماعي، بوصفها الذروة الحتمية في صيرورة الحرية وتكامل أبعادها التاريخية والسياسية والروحية، أي كل ما يجعل من الحرية مرجعية ثقافية ومبدأ متساميا وقانونيا أعلى من كل التأويلات السياسية والحزبية المشروطة بالمصالح العابرة وأحكام العقائد والتفسير الأيديولوجي الضيق

وبما أن النظام هو الوجه الآخر للحرية، من هنا تصبح مهمة جعل النظام مرجعية ثقافية ومبدأ متساميا وقانونيا أعلى من كل التأويلات السياسية والحزبية المشروطة بالمصالح العابرة وأحكام العقائد والتفسير الأيديولوجي الضيق، هو الشرط الضروري لتكامل الحرية والنظام. وهو تكامل ممكن فقط من خلال

  1. 1.تأسيس تكامل الأبعاد السياسية لفكرة النظام، بوصفها الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على تحقيق البديل الشامل لأنظمة الحكم الدكتاتورية.
  2. 2.

إن الصعوبة العملية الكبرى القائمة أمام إمكانية إرساء أسس المجتمع المدني تقوم عبر تذليل مختلف أشكال الصراع البدائية والهمجية. وهو الأمر الذي يفترض تأسيس وتحقيق فكرة السلام الاجتماعي والوطني والقومي والمصالحة عبر

  1. 1.الارتقاء إلى مستوى إدراك حقيقة "السلام القومي" في العراق على انه سلام اجتماعي أولا وقبل كل شيء. فالعراق لم يعرف من حيث الجوهر "حروبا قومية"، كما لم يعرف "حروبا دينية" و"طائفية". فقد كان "الصراع القومي" يدور أساسا بين السلطة الحاكمة وبين قوميات العراق جميعا.
  2. 2.البحث عن مخارج لهذا الصراع الكامن عبر بناء منظومة سياسية اجتماعية حقوقية للدولة، الأسلوب الوحيد الفعلي للسلام القومي. ذلك يعني أن حقيقة "السلام القومي" في العراق هو سلام اجتماعي ووطني.
  3. 3.ضرورة ترسيخ أسس منظومة السلام الوطني في دستور متزن وثابت في مبادئه العامة عن الدولة الشرعية وسيادة القانون والنظام الديمقراطي والحرية وحقوق الإنسان، لا مكان للقومية الضيقة والعرقية والطائفية والجهوية فيه مهما كان شكلها، ومتحرر من أية مشاعر أو رؤية "للأقلية" و"الأغلبية".
  4. 4.نفي وتذليل نفسية وذهنية المحاصصة في فكرة "السلام القومي" و"المصالحة الوطنية"، عبر توحيد الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، بوصفها أولويات المصالحة الوطنية الحقيقية.

***

إن تجارب التاريخ والشعوب عموما تبرهن على أن ما تدعوه لغة الأدب بالمصير التاريخي للأمم عادة ما يرتبط زمن الانقلابات الحادة والتحولات العاصفة بالنخبة السياسية. وهو ارتباط له أسسه الموضوعية في طبيعة التلازم الضروري بين الدولة والسلطة من جهة، وبين الإرادة السياسية ونوعية الفكرة المتحكمة بها من جهة أخرى. ومن مفارقات هذا الارتباط في واقع العراق المعاصر أن النخب السياسية السائدة فيه الآن لم يكن صعودها إلى السلطة نتاجا لصراع سياسي وطني (داخلي)، كما أن رؤيتها السياسية ليست محكومة بفكرة الدولة. وهو الأمر الذي جعل من فكرة الدولة والسلطة إشكالية عصية في إرادتها وفكرتها. من هنا تناقض السلطة والدولة في ممارساتها العملية في مجرى ما يقارب الأربعة أعوام من "استلام" الحكم، بحيث تحولت الدولة إلى كائن هش هو اقرب ما يكون إلى بنية مزيفة منها إلى مؤسسة لها مقوماتها الذاتية.

إن ارتقاء النخبة السياسية إلى مصاف الإدراك الفعلي لمنظومة المبادئ المكونة لفكرة المرجعية الوطنية العراقية هو الوحيد الذي يكفل لها المستقبل. وذلك لان هوية العراق الفعلية والواجبة هي هوية المستقبل فقط. وفكرة الاستعراق تهدف أساسا إلى بناء هوية المستقبل بوصفها منظومة عملية للمعاصرة. فهي القاعدة الوحيدة لإرساء أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي الأضلاع الوحيدة القادرة على إخراج العراق من مأزقه التاريخي. وهي غاية يستحيل تحقيقها دون وجود نخبة ترتقي إلى مستواها.

***

يشكل ميدان التربية والتعليم في ظروف العراق المعاصرة المكان الفعلي لتحقيق فكرة الثقافة الوطنية البديلة. فمن الناحية المعنوية والسياسية ينبغي رمي كل "تجارب" التوتاليتارية والدكتاتورية إلى المزبلة. وهو فعل لا يتصف بالتشفي السياسي، بقدر ما ينبع من إدراك طبيعة هذه "التجارب"، التي لم تكن في الواقع سوى ممارسة الجهل والتجهيل والتخريب المادي والمعنوي لأسس وأصول التربية والتعليم المتراكمة في العراق والعالم والتاريخ. أما من الناحية المادية، فإن القضية اشد تعقيدا بسبب الخراب الهائل للبنية التحتية بشكل عام وفي ميدان التربية والتعليم بشكل خاص. وبما أن حالة التربية والتعليم هي معيار حقيقي عن مستوى تطور المجتمع والدولة والثقافة والعلم والمعرفة، فإنه يشير بعد سقوط الدكتاتورية إلى مدى الخلل البنيوي الهائل فيهما. إذ كل ما في العراق مشكلة. ومفارقة الدكتاتورية البائدة فيه هو تحويلها كل شيء في الوجود والحياة إلى معضلة، بحيث جعلت من المدرسة معضلة أيضا. مع أن المنطق والأخلاق والحقيقة يستلزم جميعهم أن تكون المدرسة ميدانا لحل المشاكل الصغرى والكبرى التي تواجه الدولة والمجتمع.

وهو واقع يفترض بدوره صياغة فلسفة جديدة للتربية والتعليم تعيد بناء المؤسسة التعليمية بشكل عام والمدرسة بشكل خاص، بوصفها مقدمة الوحدة الضرورية للتربية والتعليم والعمود الفقري للتطور اللاحق. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أية فرضية علمية تتعلق بتأسيس البدائل المحتملة لحالة التربية والتعليم الملموسة، تستلزم بالضرورة الانطلاق من إمكانيات العراق الواقعية وتحديد الغايات الكبرى منها. وفيما بين المقدمات الواقعية والغايات الكبرى ينبغي إرساء أسس ما يمكن دعوته بمنظومة الرؤية العقلانية للبدائل.

فالمقدمات الواقعية للمدرسة العراقية الحالية ضعيفة للغاية. أنها تعاني من خلل بنيوي شامل في التركيبة والآلية والمنهج، والشيء نفسه يمكن قوله عن بنيتها التحتية سواء ما يتعلق منه بالأبنية والتجهيزات أو الكفاءات. وهو خلل يمثل بحد ذاته نتاج لمرحلة كاملة مما أسميته بسياسة التخريب والتجهيل. إلا أن العراق يمتلك طاقات كبرى وإمكانيات هائلة قادرة على تجاوز هذا الخلل البنيوي من الناحية المادية. وهو تجاوز قابل للتحقيق السريع في حال تحديد الغاية الكبرى من المدرسة باعتبارها أساس التنمية الشاملة والرقي الحضاري، مما يفترض بدوره أن تحصل على الحصة الأكبر إلى جانب الصحة، من ميزانية الدولة. والسياسة العقلانية البعيدة المدى في ظروف العراق الحالية تفترض من الدولة أن توجه ما لا يقل عن 25% من ميزانيتها السنوية لمدة 17 عاما للتربية والتعليم والصحة، من اجل رؤية نتائجها المباشرة في تخريج شريحة اجتماعية كبرى تنهي المدرسة بكافة مراحلها من الابتدائية حتى الجامعية ضمنا.

***

إن المهمة الكبرى القائمة أمام الإعلام العراقي تقوم في أولوية التعلم من دروس التجربة التوتاليتارية وما آلت إليه من نتائج مريعة للجميع. ومن ثم فان أهميتها بالنسبة للإعلام البديل تقوم في تذليلها بطريقة تستند إلى رؤية منظومية، أي إلى منظومة منهجية للبديل الإعلامي، مهمته تعميق وتجذير الوعي الذاتي الديمقراطي الإنساني بما في ذلك بالنسبة لبناء مستقبل الإعلام الحر.

وهو الأمر الذي يجعل من الضروري صياغة فلسفة خاصة بالإعلام الحكومي والاجتماعي (الشعبي) والخاص للمساهمة في تأسيس وترسيخ قيم الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهي قيم يمكن إرسائها على أربع دعائم كبرى وهي الفكرة الوطنية، وفكرة الدولة وسيادتها الذاتية، والفكرة الاجتماعية، وفكرة العقلانية الإنسانية.

إن مهمة هذه الفلسفة تقوم في صياغة الرؤية الإستراتيجية لما هو ضروري بالنسبة للبدائل الواقعية والمعقولة. مما يفترض ضرورة انطلاقها من الواقع كما هو ومن إشكالاته الفعلية. وبالتالي من إمكانياته الواقعية والفعلية. وكلاهما يفترضان وجود أسس ومبادئ عامة للإعلام المرئي والمسموع والمكتوب فيما يتعلق بمكونات البديل المنشود.

والمقصود بالرؤية المنهجية، الرؤية المستندة إلى منظومة متكاملة في فهم ماهية الظواهر والقضايا وأسبابها واحتمالاتها ومن ثم البدائل الواقعية المبنية على دعائم الفكرة الوطنية (العراقية) وفكرة سيادة الدولة (الدولة الشرعية) والفكرة الاجتماعية (المجتمع المدني) وفكرة العقلانية الإنسانية (الثقافة البديلة). ومهمة الإعلام المباشرة تنحصر في المجال الأخير ومن خلاله يمكن غرس وتأسيس الدعائم بوصفها منظومة في الوعي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي للفرد والجماعة والمجتمع ككل.

إن منظومة الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب ينبغي أن تستند إلى مبادئ تتطابق فيها الوسيلة بالغاية بالشكل الذي يستجيب لما ادعوه بوحدة أو منظومة الدعائم الكبرى المشار إليها آنفا. ولعل أهمها هي:

  1. المهمة الإعلامية وليس الإخبارية. بمعنى التركيز على إعلام المشاهد والمستمع بما يحدث من خلال تبطين الخبر بماهية ما يجري وأسبابه الفعلية.
  2. المهمة الإخبارية وليس التأثير الأيديولوجي. من خلال التركيز على أولوية الأخبار فيما يتعلق بالأحداث التي تتداخل فيها جوانب يصعب فكها بصورة موضوعية ومجردة (القضايا القومية والدينية وما شابه ذلك)
  3. التحرر من الحزبية. إلغاء التحزب الضيق في كافة مظاهره وأشكاله ومستوياته (السياسية والجهوية والطائفية والقومية والدينية)
  4. تعميق الرؤية السياسية الاجتماعية. من خلال رفع الخبر والبرامج إلى مستوى الرؤية القادرة على تربية المواقف والقيم الفاعلة في اتجاه اجتماعي.
  5. التحرر من فكرة الهجوم والمحاربة. من خلال الإزالة التدريجية لنفسية العداء والكراهية من العبارة والمواقف والصور والتشبيهات لكي يعمل ذلك على تنقية العقل والوجدان واعتدالها في العلم والعمل.
  6. الجدل العقلاني. حول كافة القضايا من اجل ترسيخ قيم الحرية والنظام
  7. أولوية البدائل الحرة. في الموقف والرؤية والحلول تجاه كافة القضايا المطروحة وإبرازها الدائم من اجل أن تكون محور النقاش والجدل الاجتماعي والفكري
  8. الحرفية العالية. بالوسيلة والمحتوى والغاية من خلال تصنيع برامج خاصة ومحترفة تجمع بين كل المكونات الضرورية لترقية الروح الإنساني من جد وهزل ومأساوية وفكاهة وما إلى ذلك من وحدة للمتناقضات الضرورية. وتطبيق ذلك في برامج خاصة من حيث وحدة الشكل والمضمون بالنسبة للأطفال واليافعين والمراهقين والشباب والنساء.

إن تحقيق هذه الرؤية يفترض بناء شبكة إعلامية عراقية متناسقة في الرصد والإجابة والاستجابة على التحديات الكبرى التي يواجهها العراق من خلال تأسيس وغرس:

  1. 1.الفكرة الوطنية العامة.
  2. 2.نقد الطائفية السياسية من جانب الجميع.
  3. 3.نقد نفسية وذهنية التوتاليتارية الدنيوية والدينية.
  4. 4.تشجيع وتوسيع النقد الساخر (المسرحي والغنائي) لظواهر التعصب والإرهاب والطائفية والجهوية.
  5. 5.الدعاية الإعلامية الهجومية، التي تأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد النفسية والاجتماعية العراقية.
  6. 6.بلورة صيغة عملية من فلسفة التحدي العقلاني لمختلف مظاهر خرق الحرية والنظام.

 

***  ***  ***

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2029 الاثنين 13 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم