قضايا وآراء

الحدود المتسامية في صيرورة الثقافة الإسلامية / ميثم الجنابي

ووعيها العملي (الأخلاقي) التحقيق المتجدد لقيمها ومبادئها الجوهرية. أي كل ما يحدد خصوصية الثقافة ويعطي لها في نفس الوقت أسلوبها المتميز في إدراك الصواب والخطأ، والجميل والقبيح، والفضيلة والرذيلة، والمقدّس والمدّنس، والأنا والآخر، والماضي والمستقبل، والحياة والموت، والمطلق وما سواه.

فالثقافة ليست منطقا ولا بديهة. غير أن لها منطقها الخاص بها، الذي يتجلى في كيفية حل المعضلات الكبرى للوجود الطبيعي والماوراطبيعي. ومجموع هذه الحلول يكوّن الروح الثقافي للامة. وله، شأن كل روح، بنيته الداخلية المتصيّرة تاريخيا، بوصفها الاستجابة المعقولة لتوليف الطبيعي والماوراطبيعي (المادي والروحي، القديم والمحدث، التاريخي والمثالي...) في التجارب الاجتماعية والسياسية والفكرية للفرد والجماعة. وهو توليف يؤسس لبنية العقيدة الثقافية ومبادئها الكلية وأسلوب تحقيقه في العلم والعمل.

وليس مصادفة أن تتراكم في مجرى الصيرورة الثقافية للإسلام، العناصر التي أبدعت الحديث القائل، بان الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ. فطوبى للغرباء! لقد أرادت القول، بان كل حركة كبرى إلى الأمام هي رجوع إلى المبادئ الأولى. غير أن الثقافة لم تصغ هذه الفكرة بمعايير العقل المطلق، بل ضمن مطلق روحها الأخلاقي، ومعايير رؤيتها الخاصة عن وحدة الطبيعي والماوراطبيعي.

فقد انطلق الإسلام في حله لهذه الوحدة من إشكالية الحياة والموت، أي من المقدمة "الخالدة" للأسطورة والمنطق. واجتهد في حل إشكالاتها المتنوعة،  باعتبارها إشكالية البداية والنهاية، والبدء والمعاد. وسواء جرى وعي هذه الإشكالية بصورة مباشرة أم غير مباشرة، فأنها تغلغلت في مواقفه وأحكامه، وصوره ورموزه، وتمنياته وتخيلاته. ودارت هذه المواقف والأحكام والصور والرموز حول الليل والنهار، والشمس والقمر، والنور والظلام، والعلم والجهل، والثرى والثريا، والآفاق والأنفس، لتكشف عن الأعماق السحيقة والذرى القصوى للوجود، وتجعل منها في نفس الوقت معالم الرؤية الظاهرية للحركة القائمة وراء الأشياء والظواهر. بحيث شقت هذه الرؤية لنفسها الطريق حتى إلى مظهر العبارة القرآنية الأولى. لهذا عادة ما كانت تتكون من كلمتين أو أربع. واستجاب هذا المظهر لثقل الثنائيات المتضادة وثقل ترابطها. بحيث أثرت أيضا على بناء نفسية التعامل مع الأشياء والظواهر في وحدتها. ومن ثم بناء الهيكل غير المرئي لروح الاعتدال. ومن الممكن الاستشهاد بأمثلة كثيرة متناثرة خصوصا في السور المكية المتعلقة بقضايا السلوك والأخلاق والوجود والماورائيات، كما هو الحال،على سبيل المثال في الآية (إن من أعطى واتقى نيسره لليسرى. ومن بخل واستغنى فنيسره للعسرى)، وفي الآية (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين)، أو في الآية (وإذا السماء انفطرت. وإذا الكواكب انتثرت. وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وما أّخرت). فإذا  كان القسم بالليل والنهار، وبالنجوم والكواكب، وبالشمس والقمر، هو من  بقايا الصور القديمة ورموزها، فان فاعليتها في رؤية "الحدود المعقولة" بين الطبيعي والماوراطبيعي كانت تخدم بناء الرؤية الوحدانية وحركتها الفاعلة في الغاية والمعنى. فالقران يقسم بالقمر. والليل إذا أدبر. والصبح إذا أسفر، وبالشمس وضحاها. والقمر إذا تلاه، وبمواقع النجوم. وبرب المشرق والمغرب. آي في الكل المكون للوجود،الذي يجعل من البداية والنهاية الحركة الدائبة للمعنى، والتي تفترض ضمن منطق الوحدانية الدينية التبرير الأخلاقي لنهاية العالم، باعتبارها بدايته الحقة. وهي نهاية (حتمية) تفترض بذاتها إدراك قيمة المعنى الماوراطبيعي للنفس في وجودها. فإذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتشرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وما أخرت.

لكن حتمية البداية - النهاية الملازمة لوجود الأشياء والأحياء هي ليست مصير الدهر الجاهلي (الوثني)، بل الطور الذي يتمثل حقيقة معنى الوجود (الطبيعي) واستمراره غير المتناهي. فقد نظرت الوثنية الجاهلية إلى الدهر نظرتها إلى قوة وحيدة متعالية ومحايثة لوجود الإنسان والظواهر. وجعلت الوجود وكل ما فيه لحظة. كما اختزلت البداية والنهاية في فكرتها القائلة، بأنه لا شيء إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. مما حدد موقف الوثنية من الحياة والموت بوصفهما مرورا للزمن لا غير، أي لا معنى في الدهر سوى قدرته على  كسر وإعادة لحم مكونات الوجود. في حين واجه الإسلام دهر الجاهلية القاسي والبارد بالزمن الإلهي ودفئه الإنساني من خلال "تصغيره" الأيام. فقد اعتبر القرآن يوم الله كألف سنة مما يعدون. انه حاول توحيد الأزل والأبد في الرؤية الإنسانية لمعنى الحياة والموت.

فإذا كان الموت بالنسبة للجاهلي هو المصير النهائي للإنسان والخاتمة التي لابد منها، فان الإسلام أعطى لها أبعادا غير متناهية من خلال إدراجها في المعنى المتراكم في أفعال الإنسان وحياته. فالإسلام يؤيد اليقين القائل بان الجميع أموات، وانه لا فرار من الموت، وانه "أينما يكون الإنسان يدركه الموت ولو كان في بروج مشيدة". لكنه وضع هذا اليقين ضمن إطاره الأخلاقي والماوراطبيعي من خلال ربط الموت بالله، باعتباره رجوعا إليه، انطلاقا من أن الله "هو الذي يحي ويميت وإليه المصير"، وأن "كل نفس ذائقة الموت"، "ثم إلينا ترجعون". ولكنه ربط هذا الرجوع "بالأذن الإلهي"، وذلك لأنه "ما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتابا مؤجل". فالله هو الذي "يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، ويرسل الأخرى إلى اجل مسمى"، كما يقول القرآن. ذلك يعني أن الرجوع إلى الله بأذنه هو رجوع النفس إلى مصدرها المطلق. ولم يعد وجودها وهلاكها شيئا ما عابرا في المصير أو الدهر، كما أن وجودها ليس لحظة حرجة في الصيرورة الباردة للوجود والعدم، بل هو الاختيار المباشر لها في مجرى خلقها الدائم (خلق ثم موت ثم بعث).

لم تشغل الرؤية القرآنية الأولى نفسها بجدل البحث عن الأبعاد غير المتناهية للمعنى المتناهي في الوجود الفردي للنفس، بل انهمكت في إقرار قيمة الاختيار الإلهي لها، انطلاقا من أن "كل نفس بما كسبت رهينة". وأن كسبها هذا معلوم، "لأننا نحن خلقنا الإنسان، ونعلم ما توسوس به نفسه"، و"نحن اقرب إليه من حبل الوريد". لقد ربط القران في كل واحد طبيعية الزمن الإنساني بالأبعاد غير المتناهية للمطلق الإلهي. وهذا معناه تحديد وتقييد الزمن الإنساني بالمطلق الأخلاقي للحياة والموت، استنادا إلى "أن الإنسان كادح إلى ربه فملاقيه" .

 قطعت هذه الرؤية الحياة بالموت، والموت بالحياة من خلال تكويرهما في الوحدة الخالدة للفعل الإلهي. فقد نظرت الجاهلية إلى الحياة نظرتها إلى لعب ولهو وتكاثر في الأموال والأولاد وتفاخر، بينما اعتبر الإسلام حياة كهذه مجرد "متاع  الغرور"، لأنها عرضة للزوال مثلها "كمثل ماء انزل من السماء فاختلط به نبات الأرض، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ظن أهلها انهم قادرون عليها". بينما يتبين غرورها حالما يأتيها "الأمر ليلا أو نهارا ليجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس". ويكفي المرء زيارة المقابر لان يرى بأم عينيه كم ألهاهم التكاثر عن رؤية حدودها العابرة.

شكلت هذه الآراء النقدية مقدمة توكيد الفعل الإلهي الحر عن حقيقة الحياة ومعناها. فالحياة الدنيا هي لهو ولعب، بينما الحياة الآخرة "هي الحياة لو علم الإنسان". وأن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، بينما "الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابا وأملا". لهذا شدد القران على أن أولئك الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله "ويبغونها عوجا، أولئك في ضلال مبين". وهو تحذير سجله القرآن بصيغ شتى تتراوح بين التوبيخ والوعيد بالعذاب، لأنه وجد في هذه المواقف والأفعال خروجا عن الحق. من هنا الفكرة القرآنية التي تطابق بين الوعد بالثواب والحق، وبين الاغترار بالحياة العابرة والغرور التام، كما في الآية "أن وعد الله حق. فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور". ذلك يعني، أن القرآن ربط تذليل اليقين الوثني عن الحياة الدنيا باليقين الإسلامي عن أن الحق هو الله.

وشكلت هذه الفكرة عصب الرؤية الإسلامية للتوحيد. كما أنها اختزلت الصيغ والمستويات المتباينة لرؤية الواحد الحق. لهذا خاطب الوثنية قائلا "ادعوا الله أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى". "فالله هو رب الناس. ملك  الناس. إله الناس". وهو "في السماء إله. وفي الأرض"، و"يسبح له ما في السموات والأرض"، و"له يسجد ما في السموات والأرض طوعا وكرها". وبيده "ملكوت كل  شيء وإليه يرجعون". وكل ما عداه مجرد أسماء وأنداد لا وجود لها بنفسها. فالله هو الملك الحق لا إله إلا هو. فهو الذي "خلق فسوّى. وقدّر فهدى". وهو الذي "خلق الإنسان وعلمه البيان"، وهو الذي "رفع السماء ووضع الميزان"، بحيث "لا ينفذ منها شيء إلا بسلطان". فلا طير يطير ولا ماء يسقي ولا نار تحترق ولا حي  يحيا ويموت إلا به. فهو مصدر كل وجود، وما عداه فان.

 جعلت التوحيدية الإسلامية الله مصدر وغاية الوجود والفعل، واعتبرته مبتدأ ومنتهى كل شيء. فهو "الأول والآخر، والظاهر والباطن"، و"نور السموات والأرض. ونور على نور". والخالص الوجود، الذي يحدد بذاته معنى الفعل وقيمته لأنه هو ذاته في كل فعل، والكل بالنسبة له سواء. فإذا "فتح الرحمة فلا ممسك لها، وإذا أمسكها فلا مرسل لها من بعده". ففيه يذوب الواقع والمصير، دون أن يعني ذلك "اغترابه المتعالي". وحتى في "تعاليه" اقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. إذ "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا وهو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا".   

حددت هذه الرؤية الوحدانية جوهرية الله في الفعل الفردي والجماعي، أي جوهرية الواحد. فلا دعوة إلا إليه. إذ لو كان في الوجود أكثر من إله لفسدت الآلهة، كما أن له المشرق والمغرب، وأين ما يولي الإنسان وجهه فثم وجه الله. وأدى ذلك إلى مرادفة ومطابقة الله مع الحق، انطلاقا من أن واحدية الله تحوي في ذاتها واحدية الحق. فالله "هو الحق" وما غيره باطل. وهو "الملك الحق". وأن "الحكم إلا له يقضي الحق" وجودا وفعلا في الآفاق والأنفس حتى يتبين للجميع انه الحق، أنه مصدر الحكمة الشاملة في الوجود. ومن ثم، فان الجماعة والأمة هما النموذج الأمثل لحكمته في الوجود الاجتماعي والروحي للإنسان.

إن تحول الجماعة والأمة إلى النموذج الأمثل للوجود الاجتماعي والروحي للإنسان هو التجلي العملي للتوحيد، لأنه يفترض في وجود الجماعة والأمة تجانس الرؤية التوحيدية في المسلم والمؤمن. فالجماعة هي جماعة المسلمين، والأمة هي أمة المؤمنين. وفي وحدتهما تتجلى معقولية المبادئ الإسلامية الكبرى وأركان الإسلام الإيمانية من صلاة وزكاة وصوم وحج. وهذه بدورها ليست إلا الحدود الدنيا للكل الديني - الدنيوي للجماعة والأمة. فالحدود تشكل هنا، إن أمكن القول، الهيكل غير المرئي لروح الاعتدال، لأنها نفسها صارت معالم الجماعة في تمثيلها لحقيقة الواحد. فالجماعة هي الكل الواحد على مثال الواحد الحق. فالله، كما يقول القران "لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفون". وانه "يضلّ من يشاء وبهدي من يشاء".

 قدم الإسلام في مبادئه الأولى الواحد الحق على انه المثال الأعلى للمحاكاة الممكنة في "طريق الاستقامة". وربط هذه الإمكانية بالجماعة من خلال مطابقته حقيقة الجماعة والأمة مع الحق، والحق مع الاعتدال. فإذا كان التوحيد هو مبدأ الوحدة الاجتماعية في الجماعة، والروحية في الأمة، فإن توليفها أدى بالضرورة إلى صياغة مبدأ "الأمة الوسط"، باعتبارها النموذج العملي للروح الاجتماعي- الأخلاقي - الوحداني. لهذا خاطب أتباعه قائلا "كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس". فهو لم يصغ وسطيتها بمعايير المكان والزمان، بل بحدود الاعتدال الأخلاقي. من هنا دعوة القران في الآية القائلة "ولتكن منكم أمة يدعون  للخير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر". ووجدت هذه الأمة الواجبة تعبيرها في الآية القرآنية التي صّورت الأمة الإسلامية الناشئة "بخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر". وهو تقييم مبني لا على أساس أفضليتها كما هي، بل على أساس أفضلية "الأمة الوسط" من خلال جعل الوسط خيرا (فضيلة). فالأمة الوسط هي أمة الخير كما أن الأمة الوسط هي أمة الخير. وأدى ذلك إلى وضع أسس التآلف الكبير للثقافة الإسلامية في مبدئها القائل، بان الجماعة تحفظ اعتدال الأمة، كما يبدع اعتدال الجماعة واحديتها الاجتماعية- الروحية بوصفها أمة.

أدت وحدة الجماعة والاعتدال، باعتبارها المكون الجوهري للواحدية الإسلامية إلى إبداع ممثولها في واحدية الإسلام الثقافية. وذلك لان بناء الجماعة بالاعتدال المعقول ضمن تقاليد الجماعة، أسس لاحقا لفكرة الأصول وأسلوبها المناسب في وحدة المعقول والمنقول، باعتبارها الصيغة النظرية الشاملة لتجليات الاعتدال(كالرواية والدراية في الحديث، والاجتهاد والإجماع  في الفقه). وبهذا تكونت إمكانية تحول الأمة إلى الكل المتنوع في تجارب الاعتدال الحق. وأدى ذلك إلى إبداع قيمة السّنة، باعتبارها الصيغة العملية للاعتدال (كالدين والدنيا في السياسة، والعادات والعبادات في الشريعة). أما توليفهما الدائم (النظري والعملي)، فقد شق لنفسه الطريق إلى ثنائيات الثقافة الإسلامية (الظاهر والباطن، والسلف والخلف، والإسلام والإيمان، والدنيا والآخرة وغيرها).

ولدّت صيرورة الواحدية الثقافية وأصولها الكبرى إمكانية تجذير التنوع المتصارع للتماهي الذاتي، الذي اتخذ في التقاليد الإسلامية هيئة "الفرقة الناجية"، باعتبارها الحصيلة المتجددة للعلم والعمل الإسلاميين في بحثهما الدائم عن مثال للاعتدال. وجرى وضع ذلك في الحديث القائل بان اليهود انقسموا إلى إحدى وسبعين فرقة، والنصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، والإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، وهي فرقة أهل السنّة والجماعة. ذلك يعني أن صراع الأمة الإسلامية المتصيّرة في مجرى بناء الدولة قد اظهر إلى الوجود قيمة وفاعلية "الفرقة الناجية"، باعتبارها التشخيص الممكن للعدل والحق والحقيقة. ومن ثم احتواءها على أسس المرجعية الضرورية للاعتدال في الجماعة، والجماعة في العدل. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون السنّة، تاريخيا، هي سنّة الجماعة، أي تجاربها المتراكمة في الإجماع المقبول، فإن المقبول "إيمانا" ما هو في الواقع سوى الحصيلة المتراكمة في إدراك الجماعة الثقافي (التاريخي) لحدود الاعتدال(العقلي). ووجد ذلك تعبيره الخاص في سيادة المبدأ العلمي (المنهجي) عن وحدة المعقول والمنقول، والمبدأ العملي (الأخلاقي) عن وحدة الدين والدنيا.

لم يكن بإمكان الأمة بلوغ وحدة المبادئ العلمية (العقلية) والعملية في حياتها العامة والخاصة، دون الكيفية التي انعكست فيها الرؤية التوحيدية للإسلام في التجارب الاجتماعية- السياسية والأخلاقية للأمة نفسها. فقد توحد التاريخ والتوحيد والإسلام على إبداع مكونات الاعتدال. لكن الاعتدال لم يكن فعلا أو نتيجة غائية بقدر ما كان يختمر في مآسي الهزائم وأفراح الانتصارات، وتكامل من نسيج الرؤية المتراكمة في تأمل ما كان ويكون. فهي أطراف ساهمت في بلورة الوعي الديني- الأخلاقي نتيجة لقيمة القدرة الإلهية في البداية والنهاية. وليس مصادفة أن تحصر الكلمة القرآنية بين جوانحها هواجس وعواطف الخوارج الأولى في قتلهم الخليفة عثمان بن عفان لأنهم وجدوا في سلوكه خروجا عن العدل (الحق). وأن يتبع المحّكمة (أو الخوارج الخلص) ذات الحوافز، لكن من خلال تأطيرها في حاكمية الله، أي في جعلهم الله الحكم الوحيد الحق (العدل). مما أدى إلى بلورة قيمة الحق (العدل) وأولويته في الرؤية الاجتماعية- السياسية- الأخلاقية، بحيث جعلهم يكفّرون كل من لا يشاطر اعتقاداتهم هذه  .

ولئن كانت هذه الممارسة تبدو في مظهرها وكأنها تهشيم لوحدة الأمة باسم أخلاقية الإسلام، فإنها كانت في الواقع نتاج الشقاق التاريخي بين الطابع الاجتماعي السياسي للتوحيد وروحه الأخلاقي. وإذا كان من الصعب بالنسبة للخوارج الخلص أن يتعاملوا مع هذا الواقع باسم المصالح العليا للدولة، فلأن الدولة لم تكتمل في أعينهم وتتخذ معناها إلا من خلال مبدأ الحق (أو العدل) الشامل. لقد حاولوا ربط المكون الاجتماعي السياسي الأخلاقي بمبدأ العدل فقط. وجعلوا منه بداية ونهاية الوجود الإسلامي للأمة. ولم يتعاملوا مع "مكابرة" الفكر النظري في تفريعاته عن المسلم والمؤمن، انطلاقا من أن العمل هو المعيار النهائي للإيمان، أي أنهم لم يتعاملوا مع الإنسان بمعايير الروح والجسد، ولم يعترفوا بتجزئة ما هو واحد بحد ذاته. وفحوى ذلك أنهم لم يرتقوا إلى مصاف الميتافيزيقيا من اجل رؤية العالم وما يجري فيه، كما لم يبحثوا في أعماق العدل السحيقة عن معاني القضاء والقدر. لقد أدمجوا هذه المكونات في دعوتهم للفعل الواجب. لذا واجهتم السلطة بالعنف المقترن بدعوى سعيها إحقاق العدل وإقرار أمان الأمة في الدين والدنيا. وأدت هذه المواجهة في غضون القرن الأول للهجرة إلى زرع كل بذور الصراعات المتبرعمة والساعية إلى التماس أشعة شمس الإسلام الحق، أي كل ما أدى إلى إبداع واحدية الثقافة الإسلامية في نزوعها صوب الوحدة والاعتدال.

فإذا كان الخوارج قد أثاروا مشكلة "الكبائر" وما ترتب عليها من أخلاقية صارمة في العمل، باعتباره محك الإيمان، فإن المرجئة، نقيضهم المباشر، جعلوا من فكرة وحدة الإيمان وحقيقته غير المتبعّضة نقطة انطلاقهم الأساسية. فقد استجمعت المرجئة تجربة الماضي وتمثلت الصيغة الشكلية لأخلاق الخوارج عن وحدة القول والعمل، والإسلام والإيمان، وأدرجتها في فكرة أولوية النية والعقد وتأخير العمل، كما في قولها(الشهير) "لا تضّر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة"! ولم يعق تمّثلها لتقاليد الحدود الصارمة للخوارج من تذليل عقبات التكفير والاتهام من خلال نقلها متضادات الضر والمنفعة، والكفر والإيمان، والمعصية والطاعة، بوصفها تجليات ظاهرية للإيمان،إلى باطن الإنسان (القلب والنية والمعرفة).

مثلت المرجئة في أفكارها هذه، وفي نشاطها العملي أسلوب المساومة الحرة المثلى. فقد عارضت الخوارج معارضة تامة. وبينهما تراوحت نماذج التطرف الظاهر والباطن،أي كل ما حاول تمزيق القدر الضروري من عناصر الوحدة المتراكمة في الانتماء العلمي والعملي للكل الإسلامي (الأمة). وهي ظاهرة نعثر عليها فيما اصطلحت عليه تقاليد الإسلام بتسمية الغلاة (المتطرفين)، أي الاتجاه الذي حاصر الماضي والمستقبل بسمو الحدس الأخلاقي القائل بان الابتعاد عن الحق والعدل هو خطيئة كبرى. إلا انه لم ينظر إلى الحق والعدل نظرته إلى مبادئ مستقلة، بل أعتبرها فعلا اقرب إلى الاختيار السياسي "المتشنج". وفي هذا يكمن سر التباين في مواقف الإسلاميين من تحديد الغلو والغلاة، واشتراكهم في الوقت نفسه بإظهار أولوية الإلهيات والسياسيات في الغلوّ.

وهذا التحديد نابع مما للسياسة من أثر كبير في كسب الآلهة وإشراكها الدائم من خلال ما ترتئيه صدقا وإخلاص، و"كذبا" و"إفلاسا" للنفس والآخرين في الأقوال والأعمال. ومع ذلك لم يعق هذا تراكم الأحكام الموضوعية عن الغلو. على العكس! لقد جرى تراكمها على مدى القرنين الأوليين للهجرة في مجرى البحث والصراع الفكري حول ماهية المسلم. فقد قال البعض المسلم هو من اقّر بنبوة محمد وأن ما جاء به هو الحق، كائنا بعد ذلك قوله ما كان. وقال البعض الآخر هو من نطق بالشهادة الإسلامية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، سواء اخلص في قوله أم اعتقد خلافه. والمسلم عند قسم ثالث هو من اعتقد بوجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة. وربط آخرون ماهية المسلم بسلسلة اعتقادات تبدأ بالإقرار بوجود الله وانه قديم خالق العالم مرورا بالمبادئ والاعتقادات الإسلامية الأساسية وانتهاء بالخلوّ من البدع المؤدية إلى الكفر. وهي تحديدات تربط ماهية الإسلام بالظاهر، باعتباره الحق وما عداه غلوّ (باطل).

فسحت هذه المواقف المجال أمام "التهّور" العميق للباطن، بسبب صعوبة  إدراجه في "أحكام العقائد"، وأدت في الوقت نفسه إلى تأسيس ما يمكن دعوته بالقدر الضروري للوحدة (في الجسد والمظاهر واللسان)، والتي سبق وأن تغلغلت قيمتها وضرورتها، باعتبارها شرطا للاعتدال، في وعي ومشاعر الأمة الناشئة. وليس مصادفة أن يجري "الإجماع" الأولى، بما في ذلك من جانب الشيعة، على وصم السبئية بالغلوّ والخروج عن الإسلام، لقولها بإلوهية الإمام علي. بمعنى مطابقتها الحق مع الرجال، والأمة مع الأفراد. الأمر الذي جعل اتجاهات الغلوّ  تتطرف في ما دعته تقاليد الإسلام المعتدلة "بانتظار الموتى" على أنهم الأئمة ومعالم الإقرار الخالص بصحة العقيدة. لهذا تحولت فكرة "من عرف الإمام فليصنع ما يشاء" إلى شعار الأنا المتيقنة بعصمة مواقفها المناهضة لكل المكونات المساهمة في إبداع روح الاعتدال كالظاهر والباطن، والعادات والعبادات، والتفسير والتأويل، والرواية والدراية.

لقد أنسن الغلوّ الحق وأجبره على التبجح في تنافس تياراته حتى جعله يقوم بتسويف الوجود باسم الظلّ، وتمادى به الأمر بحيث اخذ يحشر أجساد الأئمة في تاريخ الخلق الإلهي للأشباح (الاظلّة والأجساد) والأرواح (الحق والحقيقة). ومن ثم جعله فكرة التناسخ نموذجا معقولا لتصوراته عن العدل باعتباره الحكمة المرسلة في شظايا "العقل الفعال". لذا كان بإمكان بعض اتجاهات الغلوّ (كالمنصورية) أن تقول بان الجنة هي رجل أمرنا بموالاته وهو إمام الوقت، وأن النار هي رجل أمرنا بمعاداته وهو خصم الإمام. فمن ظفر بذلك الرجل سقط عنه التكليف[i]. إذ العبادات، حسب تأويل الفرقة الجناحية هي مجرد "كنايات عمن تجب موالاتهم من أهل البيت"[ii].

واستثارت هذه الخلاصة الرؤية الاجتماعية- السياسية القائلة، كما هو الحال عند الجارودية، بان الأمة الإسلامية كفرت وضلت في تركها بيعة الإمام علي[iii]، أو أن تتجسد بتطرف اشد كما في فكرة الفرقة المنصورية عن أن الله بعث محمدا بالتنزيل وعليا بالتأويل مع ما يترتب عليها من صيغة سياسية تقرّ بإمكانية وشرعية اغتيال المعارضين باعتباره جهادا خفيا[iv].     

إن أنسنة وشخصنة الإلوهية والمحرمات والواجبات في الدين والدنيا، والظاهر والباطن، والرواية والدراية، باعتبارها المكونات الضرورية للوجود الاجتماعي الثقافي للأمم ساهم في غرس جذور الغلوّ، باعتبارها النتوءات المثيرة للمشاعر الحساسة. مما ألهب ضمير الاعتدال وواقعيته العقلانية في صياغة الحكم النظري العام، الذي حصر معنى وقيمة الغلوّ في كونه إبداع المقالات على قاعدة غير مسموعة ولا معقولة[v]. وساهم بصورة غير مباشرة في استعادة الرؤية الباحثة في السلوك والعقل والضمير عما يمكنه أن يكون اعتدالا أو توفيقا للمنقول والمعقول كما هو الحال بالنسبة لقضية الشرع والعقل (الإيمان والعقل). بمعنى استثارت العناصر العقلانية والواقعية والمعتدلة في الغلوّ ،لأنه نفسه ما هو إلا الصيغة الأكثر تماديا لمبدأ الحق والعدل، والأكثر ضبطا لها ضمن “حدود" المساعي المتنورة بالمبادئ لا بالأشخاص، وبالميتافيزيقيا لا بالتاريخ، وبالأخلاق لا بالسياسة. أي بالتوحيدية الاجتماعية- الأخلاقية- الروحية الإسلامية.

ويمكن أن نتخذ من الحسن البصري النموذج الأول والأرفع لهذه الظاهرة، باعتباره الكيان الذي شخّصن بذاته مبادئ الإسلام، وفي تاريخه ميتافيزيقيتها، وفي سياسته أخلاقها. فقد مثل الحسن البصري في سلوكه التجلي الأرفع للروح الأخلاقي الإسلامي. وحوّل جسده إلى وعاء التقية الرفيعة والتأمل الوجداني للوجود. وعّبر عنهما بالحزن، كما لو انه أراد أن يبكي الوجود متأسيا على ما فيه من  قطع للإرادة في سعيها للتمام. فقد قال البعض عنه "ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن. وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة". ووصفه البعض الآخر بالإنسان ذو القلب المحزون. بينما صوّره البعض الآخر "بحليف الخوف، أليف الهمّ والشجن، عديم النوم والوسن"[vi]. وتجسد هذا الوجدان في سيادة فكرة الخوف في آرائه ومواقفه الأخلاقية. فقد آثر القول بان "المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا، ولا يسعه غير ذلك لأنه بين مخافتين"، وانه "يحق لمن يعلم أن الموت مورده ، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله مشهده، أن يطول حزنه"، وأن "طول الحزن في الدنيا تلقيح العمل الصالح"[vii].

 لقد ذلل الحسن البصري في ذاته الاجتماعية - الأخلاقية ضيق السياسة وغلوّ ذواتها. لهذا وسمته الشيعة، وبالأخص غلاتها وبعض روافضها، بأنه لسان بني أمية. وقالوا عنه "لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري ما قام لبني مروان أمر في الدنيا". في حين تحسست السلطة الأموية في صمته معارضة مستترة، وفي آرائه القدرية تحديا لجبريتها السياسية. أما في الواقع، فان شخصنته للحزن هو رد فعل اجتماعي- أخلاقي ضد الرذيلة الاجتماعية والسياسية، كما نعثر عليه في مظهره وسلوكه، وجسده وروحه، وكلماته وخطاباته، التي وجهها للعامة والسلطة. أما قدريته فلم تكن إلا القدر المتسامي للحرية في إدراك جوهرية الحق (العدل). فقد أكد في جوابه على استفسار الخليفة عبد الملك بن مروان عما إذا كان كلامه بالقدر يتفق مع ما في القران والسنّة، قائلا بان من الضروري الاحتجاج بحجج الله لا الهوى، وأن معنى الإرادة وحقيقتها في إتباع الحق، وأن قضاء الله وقدره هو أمره بالمعروف والعدل والإحسان[viii].

لقد كان "ارتفاعه" عن "هوى" المتصارعين الصيغة الأخلاقية المتسامية للعدل. لذا بدا في مظهره تجسيدا لهذه المتضادات.أما في الواقع فقد كان تجليا نموذجيا للاعتدال الاجتماعي- الأخلاقي- السياسي من خلال "اعتزال" الغلوّ. وليس مصادفة أن يكون نفسه مصدر "اعتزال" المعتزلة الأوائل عنه. فإذا كان المظهر الخارجي للاعتزال الأول جرى من خلال الابتعاد الظاهري عنه، فان المعنى التاريخي والثقافي لهذا الابتعاد هو اقتراب منه. فقد مّهد الحسن البصري لفكرة "المنزلة بين المنزلتين"، باعتبارها الصيغة الأكثر تمثلا للاعتدال النظري والعملي المتراكم في مجرى القرن الأول للهجرة. فهي المرحلة التي دارت فيها دائرة الرؤية الإسلامية راجعة صوب تهذيب المبدأ الإسلامي القائل بأن التوحيد هو شرط الاعتدال، ولكن في مستواه النظري الجديد.

إن ابتداء المعتزلة حركتهم بفكرة المنزلة بين المنزلتين، وانتهاءها بإعلان العقل حاكما أعلى، يعكس المسار الضروري لوعي الذات الإسلامي الأول في تذليل تطرف الصراعات وغلوّها الذاتي، بمعنى أوليتها في وضع الأسس النظرية لفكرة الاعتدال من خلال إبعاد الغلوّ الظاهري والباطني، والواقعي والضمني، وإحلالها محله مركزية الرؤية العقلانية وتوحيدها الأخلاقي. وليس مصادفة أن يدعو المعتزلة أنفسهم بأهل العدل والتوحيد. وعند هذا الحد تكون الثقافة الإسلامية قد قطعت الشوط الضروري الأول في إدراك حدودها المتسامية على طريق تأسيسها النظري لمنظومة العقل الأخلاقي، وتطبيقه في مختلف ميادين الحياة.

 



[i] الشهرستاني: الملل والنحل ج1،ص179

[ii] البغدادي: الفرق بين الفرق، ص187

[iii] النوبختي: فرق الشيعة، ص21

[iv] النوبختي: فرق الشيعة، ص38

[v] الشهرستاني: الملل والنحل، ج1، ص181

[vi] الاصفهاني: حلية الاولياء، ج2، ص133

[vii] الاصفهاني: حلية الاولياء، ج2، ص132

[viii] جواب الحسن البصري على كتاب عبد الملك بن مروان(ضمن كتاب "الفكر الاخلاقي العربي)،ص20-28.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2032 الخميس 16 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم