قضايا وآراء

الفنان فؤاد ذنون شمعة عراقية تحترق لتضيء باحة المسرح

لتخترق فضاءات تلك اللوعة المهمومة بالإبداع والتجديد، لتشظي جدران الصمت الموحش داخل الذات، وتهرب مندهشة تقودها خطاها المؤطرة بالرفعة، صوب تلك المناخات المغلفة بالبوح، وحينما يكون ذلك المُلهم (الفن) هو الجذوى الناهضة والمتجذرة داخل ماهيات الذات، حينها يكون الإفصاح عن الدلائل والرموز والماهيات رائعا وراقيا ومبهرا، بالقدر الذي يسكن هذا الكائن المُلهم (الفن) داخل تلك الرؤى الحالمات لذات الفنان، ليرتقي بمنتجه الابداعي صوب مساحات الإبداع الواسعة، ليسجل  له تاريخا ملحميا، تنقشه الذاكرة الفنية العراقية بإبهار وإجلال أخاذين .

 والفنان المبدع الخلاق (فؤاد ذنون) مدير الفرقة القومية للفنون الشعبية التابعة  للمؤسسة العامة للسينما والمسرح العراقية، من طراز الفنانين العراقيين المتجذرين في ذاكرة الفن وذاكرة الوطن على حد سواء، حيث سجلت تلك الذاكرة الحية اسمه بأحرف من طراز لامع، وبأحرف منحوتة بماء الذاكرة الجمعية المشاهداتية العرضية الراقية، على مستوى مسارح العراق، والمسارح العربية والعالمية، على مدى أكثر من أربعة عقود خلت، أسس (ذنون) خلالها كينونته الفنية الرائعة، التي يشار لها بالبنان بجل المحافل الفنية العربية والعالمية، باعتباره فنانا شاملا متعدد المواهب، ذو بصيرة إخراجية وفلكلورية عراقية نافذة، ويمتلك آفاق مبهرة، والتي صقلها عبر مهاراته الذاتية التي استطاع من خلالها أن يؤطر نتاجه الفني الرائع بأسلوب فنيّ راقيّ، اجتهد ان ترتقي به لمصاف الاحتراف، ليسكن مطمئنا داخل ملامحه الفنية الرائعة، ولا يغادرها البتة .

 التقيت بالفنان (فؤاد ذنون) في أروقة المؤسسة العامة للسينما والمسرح في بغداد، وقد علت على محياه ابتسامته الشفيفة المعهودة،  بادرته قائلا قبل ان نلج في أحاديث الماضي الموجع الفائت، حين كان (ذنون) يصهر نفسه حد ان يذوب او يحترق في البروفات والعروض، ليخرج بالتالي (بخفي حنين) او برغيف خبز يقتاد به هو وعياله، لكنه بذات الوقت كان حالما كبيرا وصاحب رؤية واضحة وعلمية للفلكلور العراقي، لذلك كان فنانا ملتصقا بأرض العراق ولم يغادرها البتة رغم ان كل عائلته يقطنون خارج العراق سألته كيف الحال أبو علاوي : -

وبضحكته المجلجة الجملية، ومفردته التي يطلقها باستمرار وعلى وجه السرعة.

-حبيبي .. بشرني كيف حالك أنت .

لان منطقة اشتغال (فؤاد ذنون) هي الفنون الشعبية، فتجده دائم الحركة ولا يستقر في مكان واحد، وحتى مكتبه كمديرا للفرقة، لا تتجاوز مدة جلوسه فيه سوى بضع دقائق، لذا أحسست بان عليّ أن ادخل بصلب موضوعتي المزمع على انجازها، فقلت على طريقته المحببه وعلى وجه السرعة ايضا .

-كيف الحال؟ اين العائلة الآن  .. معك في بغداد ؟ .

-لا والله حبيبي، العائلة كلها في الأردن، وأنا وحدي هنا في بغداد، وأخوك انشطر الى نصفين نصف داخل بغداد والآخر مع عائلتي .

-تزورهم ؟

-لا وعيونك .. إلا أذا سنحت الفرصة لي، أو كان هناك فترة استراحة من العمل في الفرقة (ابوك) نفسي واذهب لأراهم، وأنت خير العارفين، ذرة تراب من ارض العراق ( تسوالها) جبل من ذهب بالغربة .

 تفرست في ملامح وجهه التي بدت أكثر تعبا وإرهاقا، وقلت في نفسي، هذا هو ديدن العراقي الأصيل، يحترق داخل وطنه، ولا يغادره، وبخاصة الفنان المرهف الحس المهموم بانشغالاته الفنية الخصبة، والذي تسكنه تلك الشجون العبقة، والملامح الجمالية العالية، ليحليها الى صور مرئية سامية ترتقي لمصاف نهضة العراق الجديد الذي ننشده جميعا وعلى مختلف المستويات الفنية والثقافية والاقتصادية والإنسانية .

ولم أشعره البتة وأنا التقيه، بأنني مزمع في الكتابة عنه وعن مسيرة الفنية الطويلة الرائعة التي لا اعرف مستجداتها، فحاولت أن انتزع منه وعلى عجلة أيضا، ما ارميه من مقصدي في لقاءه، لذا بادرته قائلا :-

-عاشت أيدك وذهنك الفني المتقد الراقي، في إخراج  اوبريت المصالحة العراقية، الذي شاهدته عندما دعيت في احتفالية مؤسسة النور بعامها الرابع في العام الماضي ، والله واقسم لك، لقد بكى الجميع وبخاصة المغتربين من أهل مؤسسة النور، حتى ابتلت وجناتهم الرقيقة بدمع يشبه لون طلع نخل العراق البهي، أما أنا شخصيا الذي لم أغادر بغداد منذ السقوط لحد اللحظة، لم أتمالك نفسي، فبكيت كثيرا ، على العراق وعلى أهل العراق الطيبين النجباء الاصلاء، الذين فعل الزمن بهم ما فعل، نعم أبكاني، مما اضطرني للخروج خارج صالة العرض لأجهش بالبكاء، فأجابني على الفور .

- (لعد آني شكول) نشف دمعي، وذبلت جفنايّ أثناء البروفات من (الكهد)  .

حاولت ان اتجه بموضوعتي باتجاه آخر، لعلني انتزع منه بعض الذي يخصني من هذه العجالة، قلت له حبيبي ابو علي، أتذكر انك بدأت الفن عام .. عام .. قاطعني بطريقته المحببة والسريعة .

-حبيبي أستاذ سعدي، أنت خير من يعرفني، أنا بدأت مشواري في طريق الفن الغير معبد، والغير مفروش بالزهور، (خو أنت هم لاحك هوايّ من الضيم) في صميم كبدك، أنا بدأت عام 1971، في مجال الرقص الشعبي لأنه قريب من الرياضة، وكنت حينها شابا يافعا، عاش في كنف منطقة شعبية قديمة، وبطبعي أحب التراث والفلكلور العراقي، بل اعشقه، حد الهوس، واعشق الموسيقى بجل انتماءاتها، الشعبية والعربية والعالمية، فقلت في نفسي، أفضل شي اجمع كل هذه المخاصب الفنية، وادرس التراث والفلكلور واقرأ عنهما، وأتخصص بإخراج اللوحات الفلكلورية والتراثية العراقية .

 وقبل أن أغادره، سألته هل من جديد، تفرحنا به على مستوى الفرجة العرضية الجملية التي عودتنا عليها، وتثلج صدورنا به، في عهد العراق الجديد، بعد ان استنزفت دموع مآقينا قي لوحاتك السابقة الرائعة المكتنزة بالإبهار الجمالي، والتأثيث الصوري الراقي ؟

أجاب وأيضا بطريقته المحببة السريعة :-

-ستشاهد عن قريب، لوحات فلكلورية تراثية عراقية تذكر الجميع بأيام طفولتهم وألعابهم الجميلة في أزقة المحلات البغدادية القديمة، وأنا أقوم الآن بالبروفات عليها مع أعضاء الفرقة الذين اعتبرهم أولادي والذين وقفوا معي وقفة (زلم) رجالا ونساءا، لأنهم مثلي لم يغادروا وطنهم، وظلوا متمسكين بترابه كالفنانة الراقية (هناء عبد الله) التي يتذكرها جميع العراقيين بلوحة (أم العباية) الشهيرة ولأنها من الفنانات الراقيات اللواتي نذرن أنفسهن للفن . 

 وقبل ان يغادرني، أظنه قد اكتشف خفايا اللعبة الدرامية التي حكتها ضده، وأفصح عن نواياه قائلا، بداعت أبو حيدر هذا للنشر، فلم استطع إخفاء الأمر عليه، فقلت، بلى، فأردف وقد ارتسمت على محياه ابتسامة تكاد تنفرج عنها كل أساريره، أرجوك إذا نشرت ما تحدثنا به للتو، ان تسجل امتناني الوفير وعرفاني الجم للسيد معالي وزير الثقافة والدكتور شفيق المهدي مدير المؤسسة، لمساندتهم لي ولإعمالي، ومساندتهم للفرقة، ووقفتهم النبيلة الرائعة، مع جل قضايا الفن والثقافة العراقية وبالإجمال، من اجل ان نخطو خطوات واثقة جريئة على طريق ترصين مهمات الفن والثقافة، وفي بناء العراق الجديد الذي ننشده جميعا، وبلا استثناء .

 غادرت ذلك الوجه الذي أنهكه العمل لأربعين عاما ونيف، في جل مخاصب الفن والمكابدات اليومية والبحث والتقصي في كتب التراث والفلكلور، ليطل على جمهوره بلوحة تراثية رائعة تثلج صدروهم، لتتنفس راءاتهم هواءا فنيا راقيا نقيا، بعدما ملأتها الحروب بدخانها العفن، هذا الفنان الرائع النبيل (فؤاد ذنون) حينما تراه تشعر على الفور من نبرة صوته واتقاده الفني النبيل، وحرقته على فنه، وعشقه لوطنه (العراق) وكأنه شمعة عراقية جليلة تحترق، لتنير باحة المسرح الذي علينا جميعا، أن نجعله وضاءا على الدوام .

  

[email protected]

 

في المثقف اليوم