قضايا وآراء

مفاعل ديمونة وقانون السرية .. مصنع نسيج لتصنيع البلوتونيوم / إيناس نجلاوي

فعلى مدى سنوات كان الكيان الصهيوني يصف مجمع ديمونة بأنه مصنع للنسيج ولم يعترف البتة بالغرض الحقيقي له وهو صناعة البلوتونيوم لإنتاج قنابل نووية. وكان منهاج العمل في المصنع أشبه بالنظام القبلي; مجتمع يهودي مغلق محاط بالسرية ينشط كخلية نحل، يؤدي أفراده عملا يكتنفه الغموض والسرية، اقسموا على الكتمان ثم أجبروا على الصمت الدائم. 

أثارت هالة الإبهام تلك فضول وتساؤلات الرئيس الأمريكي جون كينيدي: ماهي حقيقة مصنع ديمونا ??ا؟ لما?ا لا يخضع للتفتيش؟ ولما?ا ترفض "إسرائيل" التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية؟.. وأجاب بن غوريون على أسئلة كينيدي بالموافقة على تفتيش مصنع ديمونا في 1961. وانتهى التفتيش، وأ?علن ديمونا منطقة أبحاث ?رية لأهداف سلمية، وأغلق الملف…

 

كسر حاجز الصمت:

بحلول عام 1986، كشف موردخاي فعنونو، (فني نووي التحق بالعمل في مفاعل ديمونة كمتدرب وانتهى به المطاف في منشأة ماشون 2 المبنية تحت سطح الأرض والمخصصة حسب شهادته لإنتاج مواد البلوتونيوم والليثيوم ديوترايد والبريليوم التي تدخل في صناعة القنابل النووية)، بأن المصنع ليس سوى فرن ?ري لإنتاج أسلحة نووية سرا... وما لبث أن اختفى وأخذ معه تفاصيل اللغز. ولو أنه فضح غير الكيان الصهيوني لتحول إلى أسطورة عالمية، وربما حاز على جائزة نوبل للسلام. وأغلق الملف ثانية...

لكن قناة BBC World تمكنت سنة 2003 من فتح الملف مجددا وكشف الحقيقة. ثارت ثائرة اليهود مع أول إعلان لموضوع البرنامج وهددوا بمقاطعة القناة، وحين لم تُجدِ التهديد نفعا عادوا لتقمص شخصية الضحية التي أصبحت هزلية. إلا أن العراقيل الصهيونية لم تنجح في ثني القناة عن عرض "سلاح إسرائيل السري".

لم يكن شيمون بيريز الأب الروحي للبرنامج النووي الصهيوني فحسب، بل أيضا مدافعا شرسا عنه بمناوراته اللفظية وتلاعبه بالكلمات والتفافه على أسئلة المنشطة حين أجاب: "عندما تكون محاصرا بالأعداء فان لجوؤك إلى الخداع للدفاع عن نفسك لا يعتبر وسيلة لا أخلاقية". اليهود المساكين محاصرون بالأعداء العرب الأشرار، ولحماية أنفسهم يتسترون خلف مصنع نسيج لإنشاء فرن ?ري قادر على تحويل الشرق الأوسط إلى سحابة غازات وإشعاعات نووية في غضون ساعات معدودة. هل يصح تسمية تهديد كافة العرب بالانقراض مجرد خداع؟!

ولكن التاريخ أبى إلا أن يكشف فظاعة ??ا التضليل من خلال شهادة فعنونو وتسجيل القناة البريطانية التي نجحت في فتح أعين العالم على حقائق مريعة و موثقة بالأدلة والشهود... بدأ البرنامج وكل العالم مشدود إلى ما سوف يكشفه... فعنونو ??? عن الصمت سنة 1986 ويكشف بشريط مصور (60 صورة ملتقطة لداخل المفاعل) عن سبب عدم تمكن المفتشين الدوليين (في 1961) من العثور على ما يدين الكيان الصهيوني. في الواقع، شعب الله المحتال قام بخداع المفتشين؛ ف?ت?حْت? الأرض كانت هناك 6طوابق كاملة لتصنيع الترسانة النووية الصهيونية. تمكن العمال، بأوامر فوقية، من إغلاق منا?? الطوابق الست بالطوب لتضليل بعثة التفتيش الدولية ومنعها من الوصول إلى لب الحقيقة.

حدثت ??ه الواقعة في نفس السنة التي اغتيل فيها كينيدي (1961)، وكل الرؤساء ا??ين خلفوه سكتوا عن موضوع الفرن الـ?ري، فهل كان اغتيال كينيدي حلقة من حلقات الاغتيالات السياسة التي دبرها الموساد؟ لقد حاول كينيدي وقف البرنامج النووي الصهيوني، لكن اغتياله سمح للفرن بالاستمرار في تخليق الموت. بعد ?لك توصلت غولدا مائير إلى اتفاق يتم تجديده فور وصول أي رئيس أمريكي جديد إلى المكتب البيضاوي، وينص على السماح للكيان الصهيوني بالمضي قدما في مشروعه النووي طالما أنه يبقى طي الكتمان، و??ا ما يُعرف بـ"الغموض النووي". والاتفاق دائم السريان، وقد برر بيريز الغموض النووي بأنه احتيال مشروع وخداع ماهر!

 

الجزرة والعصا:

ثم فر فعنونو إلى لندن حفاظا على حياته، وهناك تلقفه صحفي لـ"الصنداي تايمز" ونشر اعترافاته. وما إن ظهرت على الصحف حتى أصبح خائنا لأسرار إسرائيل الكبرى وعدوا وجبت تصفيته. تمت التصفية بطريقة جد تقليدية: فتاة عميلة تنجح في التودد إليه و تدعوه في نزهة إلى روما، فوافق على عرض الحسناء... وفي ايطاليا، اقتحم عناصر الموساد محل إقامته بطريقة مافياوية، خدروه وشحنوه بحرا إلى "إسرائيل" داخل صندوق. في الكيان الصهيوني، كان ينظر لفعنونو بازدراء كخائن أفشى سرا من أسرار إسرائيل وترك ديانتهم اليهودية لاعتناق المسيحية. 

 

عقوبة إفشاء السر المقدس:

عن سبب كسر قانون السرية رغم خطورة الخطوة، يرد فعنونو في حديث صحفي: "قررت القيام بذلك، لأن السلطات الإسرائيلية كانت تكذب على طول الخط من حيث تكرارها أن المسئولين السياسيين الإسرائيليين لا ينوون أبدا حيازة السلاح النووي. لكن في الحقيقة، كانوا ينتجون الكثير من المواد الإشعاعية التي في النهاية كانت تستعمل لنفس الغرض ذاته: تجهيز القنابل النووية و بكميات مهولة: حسبت وقتها أي في سنة 1986أكثر من مائة قنبلة ذرية. لقد بدأوا وقتها في صناعة القنابل الهدروجينية قوية المفعول. و هو السبب الذي جعلني أقرر الكشف للعالم كله ما كان يتم تحضيره في السر، لأنني أيضا أردت أن امنع الإسرائيليين من استعمال القنابل الذرية، وهذا منعا لحرب نووية في الشرق الأوسط."

وعُرِض على محكمة يهودية أدانته بتهمتي التجسس والخيانة العظمى، وحُكِم عليه بالسجن لمدة 18سنة، منها 12سنة حبسا انفراديا في زنزانة 6×9 متر بسجن أشكلوم، حتى يكون عبرة لغيره... 

ومن انعكاسات كشف السر إلى العلن أن تحول ديمونا إلى خطر استراتيجي على أمن "إسرائيل"، وهدفا من أهداف المقاومة الفلسطينية. ففي الشهر الرابع من انتفاضة 1987 تمكن 3فدائيين فلسطينيين من الاستيلاء على حافلة مخصصة لنقل علماء ا??رة اليهود إلى المركز النووي ديمونا. واقتضى الأمر حضور إسحاق رابين-وزير الحرب ???اك- إلى عين المكان، واتخذ قراره بقصف الحافلة رغم وجود 11خبيرا نوويا على متنها حتى لا يتفشى خبر العملية ويفتضح سر الفرن. لكن الموساد لم يكتف بتدمير الحافلة بركابها. فبعد عملية المفاعل بشهر واحد، أُغتيل أبو جهاد الأب الروحي للانتفاضة...

 

الإشعاعات النووية المتسربة:

يبدو أن قدر ملف ديمونا ألّا يطوى أبدا. سنوات بعد اعتقال فعنونو، يكشف برنامج على التلفزيون العبري جانبا آخر من الكارثة؛ فأكثر من 100عامل في المفاعل أصيبوا بالسرطان جراء التسرب الإشعاعي ولم يحصلوا على تعويضات للعلاج. ولا يجرؤون ??لك على المطالبة بحقوقهم أو رفع قضايا لتحميل المركز النووي مسؤولية ما أصابهم. كما لا يجرؤون على الإدلاء بأية تصريحات للإعلام لان لا أحد يرغب في أن ينتهي به المطاف إلى نفس مصير فعنونو.

الكل في الكيان الصهيوني يعرف يحيى حوريف، ?اك الرجل ا??ي يملك مكتبا في وزارة الدفاع. لكن عمال ديمونة يعرفون الدور الحقيقي ا??ي يلعبه حوريف داخل "إسرائيل"، فهو واجهة القوة الخفية التي تدير الاستخبارات وتفرض الصمت بالتهديد...

وحين راجت الشائعات حول تسربات إشعاعية خطيرة ووجود فضلات نووية في ديمونة، تم على الفور تقليب الأرض التي تحوي النفايات الجرثومية لطمرها ومحو الأدلة. ثم اصطحب وزير البيئة آنذاك (يوسي سريد) مجموعة من الصحفيين إلى ديمونا، لكنه منعهم من ا?? الأجهزة الخاصة بهم، واكتفى باستخدام جهاز قياس مدى الإشعاع الخاص بالوزارة، ليعلن بعدها للصحافة أن المكان سليم و لا يحوي أية فضلات نووية. وتحت الإلحاح، اضطر للتصريح بان القمامة مدفونة في مكان لا يمكنه الكشف عنه وإلا أضاع منصبه. فالمفاعل لا يخضع لرقابة البرلمان أو التفتيش، وإنما يتبع مباشرة لرئيس الوزراء نظرا لكونه قدس الأقداس ا??ي لا يحق لأي إنسان الاطلاع عليه أو كشفه، وإلا استحق العقاب فورا...

 

سياسة الكيل بمكيالين:

الكونغرس الضليع في قلب الإدارات الأمريكية وا??ي لايتوانى عن الإطاحة برؤسائها إذا ما ثبت تورطهم في فضائح سياسية أو مالية أو حتى شخصية، لا يستطيع توجيه سؤال واحد لـ"إسرائيل" حول حقيقة مفاعل ديمونة. والبنتاغون ا??ي اعترف، بُعيْد دخول بغداد، بان قواته في العراق هي قوات احتلال، أمر دوغلاس فايف (مساعد وزير الدفاع الأمريكي) برفض المشاركة في البرنامج البريطاني للإدلاء بمعلومات عن سادس أكبر ترسانة نووية في العالم، وحجم المساعدات الأمريكية المقدرة بـ3ملايير دولار سنويا للكيان الصهيوني لمساعدته في تطوير من 100الى200 رأس نووي وتخليق ميكروب عضوي يطارد جينات خاصة بالإنسان العربي لتدمير جهاز مناعته...

إذن، ترك المجتمع الدولي حربا أسبابها ودوافعها متوفرة ???1957، وساند أمريكا في عدوان قام على النوايا ومبدأ الحروب ا?ستباقية. وهنا أجاب بيريز بأنه لا يمكن عقد أي مقارنة، فإسرائيل دولة ديمقراطية أما العراق فليس دولة بل مافيا، وصدام ليس قائدا بل مجرما وسفاحا!!!

عن ??ا النفاق الدولي والكيل بمكيالين، يقول فعنونو:"لا يكتفي الآخر بغض النظر عما في حوزة إسرائيل من أسلحة مدمرة، بل و يتم تقديم الدعم السري لها. هنالك تعاون سري بين إسرائيل و بريطانيا، فرنسا، و الولايات المتحدة. هذه الدول قررت المساهمة في القوة النووية الإسرائيلية لأجل جعل إسرائيل دولة استعمارية في العالم العربي. إنهم يساعدون إسرائيل كي تكون هذه الأخيرة في خدمتهم كدولة استعمارية تسيطر على منطقة الشرق الأوسط، مما سيسمح لهم بالاستحواذ على المنابع البترولية و إخضاع العرب إلى التخلف و الصراعات الداخلية. هذه هي أسباب الدعم الذي يقدمونه لإسرائيل.

 

متى سيهدم شمشون المعبد؟

أثناء عرض البرنامج، كم تمنيت لو أن بيريز كان مسؤولا عربيا ليدافع عن حق العراق وكل الدول العربية بامتلاك سلاح الردع لمواجهة الخطر الصهيوأمريكي، و ????اءل عن حقيقة القنابل المسيلة للدموع التي تستخدمها قوات الجيش الصهيوني ???2001 ضد المدنيين الفلسطينيين وتصيبهم بتشنجات وانقباضات لا يمكن علاجها لأن طبيعة الغاز المستخدم في ??ه القنابل غير معروفة. يستغل الجيش الصهيوني حملاته على قطاع غزة والضفة لتجريب أسلحته الحديثة ومدى فعاليتها على فئران فلسطين. فالفرد العربي لا يساوي شيئا بدليل مبادلة العلج الصهيوني جلعاد شاليط بـ1027 أسير فلسطيني! 

والسؤال الأهم: متى ستستخدم ??ه الترسانة النووية لتحويل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى كومة من الرماد وسحابة من الغازات؟ في ديمونة عبارة –بمثابة برتوكول إضافي لحكماء صهيون- مفاداها أن على آخر جندي يغادر ??ا المكان إطفاء كل الأضواء!!! هل تُترجم ??ه العبارة بأنه في حال استحال على اليهود تثبيت أقدامهم في فلسطين، سيكون عليهم توجيه الرؤوس ا??رية نحو العرب قبل الرحيل عن المشرق، تماما كشمشون ا??ي بعد فقدان شعره(سر قوته)، انتقم بتدمير المعبد على كل الرؤوس دون استثناء؟

تزامن عرض البرنامج مع امتلاء سماء مصر بالاستعراضات العسكرية وإشراف مبارك على احتفالات تخرج دفعات جديدة لوحدات الجيش المصري ا??ي لن يستطيع الصمود دقيقة واحدة في حال قرر شمشون هدم المعبد وتصدير الموت المحتوم. وما?ا أعدت بقية الأنظمة العربية-توفاها الله- لصد عدو يملك قا?فات قادرة على الوصول إلى موسكو، وقنابل نيوترون تستطيع قتل البشر دون المساس بالمباني التي يتواجدون بداخلها؟

 

العلم والمعرفة سلاح لتوازن الرعب:

لم يتساءل حكامنا، أثناء الغرق في نشوة تحرير العراق، عما يمكن فعله لمواجهة خطر أسلحة الدمار الشامل الصهيونية؟ قال يوما عرفات في غمرة الثورة والحماس:"??ه المقدسات نحميها بصدورنا، بأرواحنا، بدمائنا". لكن صدرونا وحِميتنا العمياء لن تقاوم حرارة الفرن ا??ري ولن تسلم من الانصهار...

السلاح الفيصل هو العلم والمعرفة، لما?ا لا نقرأ لعدونا مادام أشقاؤنا أقرانا لنا في الجهل؟ لما?ا لا نطلِع على عقلية عدونا ونستخلص العبر من دهاءه وخبثه على مدار التاريخ؟ و لما?ا لا نعود إلى كتاب الله ونستمسك بالعروة الوثقى؟ حين تشتت اليهود بين أصقاع الدنيا، كان صوت واحد يناديهم أن يتحدوا ويجتمعوا، يواسيهم ويُهوِن عليهم ضياعهم و عزلتهم. ?اك الصوت لم يكن سوى التوراة؛ انه المغناطيس ا??ي يجـ?ب كل يهود العالم وحتى الملحدون منهم يحملونه في قلوبهم. ومن التوراة صنعوا سفينة نجاتهم التي رست بهم على شاطئ قلب العروبة، فاستوطنوه بعد أن غرزوا فيه كل سكاكينهم. ومازال قلبنا ينزف وسيظل مادام سلاح الردع غير متوفر وما ظلت الأدمغة البشرية العربية مهملة، لا تجد الخلاص إلا في الهجرة نحو أمريكا و أوروبا...

علينا ألّا ننسى أن أنظمتنا تخا?لت عن نجدة علماء الـ?رة العراقيين، فلا نظاما عربيا احتضنهم و وفر لهم الحماية والأمن من مخالب الموساد، من منطلق أن حاميهم صدام سقط، ونحن حشيشة طالبة معيشة لا حاجة لنا إلى السلاح النووي...

اُغتِيل منهم من اُغتِيل وخُطِف من خطِف وجرى توزيعهم بين مراكز البحوث اليهودية والأمريكية، ليُجبروا على تطوير كل سلاح ومركب كيماوي وجرثومة من شأنهم إبادة العرب أجمعين. أما نحن فخسرنا عن سابق إصرار وترصد آخر العباقرة وعلماء الـ?رة العرب، خاصة وان جامعات العالم أغلقت أبوابها في وجوه دارسي العلوم النووية الـ?ين تُشتم منهم رائحة العروبة. وبـ?لك خالفنا شرع الله ولم نُعِّد? لهم ما استطعنا من قوة، نُرهِب به عدو الله وعدونا...

 

ملاحظة:

اغتصبت منطقة ديمونة من فلسطين عام 1955 لتوطين 36عائلة يهودية مهاجرة من شمال إفريقيا (مردخاي فعنونو يهودي من أصل مغربي)، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مجمع عسكري مغلق سري للغاية.

 

    بقلم: إيناس نجلاوي – خنشلة

  أستا?ة جامعية – جامعة تبسة الجزائر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2035 الأحد 19 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم