قضايا وآراء

صيرورة الاعتدال الثقافي في الثقافة الاسلامية / ميثم الجنابي

موقع الجوهر الفاعل في الكلّ  الاجتماعي- السياسي للأمة، كما هو الحال عند المعتزلة، يتطابق مع بلوغ الثقافة حدودها الأولية المتسامية. إذ يفترض الوعي في وحدة مكوناته النظرية والعملية ضرورة التحقيق الدائم لمبادئه الكبرى. وبما أن هذه المبادئ قد تجسدت في الجماعة والاعتدال، باعتبارهما المكونين العضويين للوجود الطبيعي (الاجتماعي- السياسي) والماوراطبيعي (الأخلاقي - الروحي) للامة، من هنا كان الرجوع إليهما تهذيبا وتعميقا دائما للوسط والاعتدال. وشق ذلك لنفسه الطريق إلى وحدة الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، والعادات والعبادات، والسلف والخلف، والرواية والدراية، والمعقول والمنقول، والاجتهاد والإجماع ، والظاهر والباطن، والشريعة والحقيقة، بوصفها مكونات الاعتدال التاريخي والثقافي لعالم الإسلام.

وشكلت إشكالية العقل والشرع من بين أكثرها شمولا بفعل تمّثلها النموذجي لوحدة التاريخ والمنطق في صيرورة الثنائيات الكبرى للاعتدال الإسلامي. إذ وّحدت في ذاتها وحلّت الإشكاليات المتراكمة في مجرى صيرورة الإسلام الثقافي للوجود والميتافيزيقيا والمعرفة، كما يمكن العثور عليها وعلى حلها في الإشكاليات المذكورة أعلاه، من خلال تحديد وتقييد كل منها للأخرى. فوحدة الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، والعادات والعبادات، والسلف والخلف هي النماذج التي توحد في كلّها الوجود الاجتماعي- السياسي والحقوقي للأمة، بينما شكلت ثنائيات الرواية والدراية، والمعقول والمنقول، والاجتهاد والإجماع نماذج أسلوبها المعرفي. في حين تراكمت في ثنائيات الظاهر والباطن رؤاها الميتافيزيقية والروحية.

وتعادل مساهمة علم الكلام في وضع إشكالية العقل والشرع في ميدان الظاهرية وأساليبها الإدراك النظري والعملي للحدود الجسدية الضرورية للانا والجماعة. فالجماعة لا تستطيع الفعل دون ضوابط، لأنها هي نفسها التجسيد الضروري لهذه الضوابط. وليس مصادفة أن تسود في الرؤية الفقهية عناصر الاستحسان والضرورة، كتعبير عن إدراك الحقيقة القائلة، بان كل خطوة إلى الأمام  في ميدان الحرية تفترض كحد أدنى ملاءمتها لاستحسان الشرع وعقل الضرورة. وهي نتيجة حددت لدرجة كبيرة بناء السيور غير المرئية في الثنائيات الكبرى للوجود الاجتماعي- الثقافي للخلافة في مراحل ازدهارها. مما أسهم في تقييد العقل النظري والعملي بقيود المنطق المنظومي والمنطق الثقافي وتنشيطه في الوقت نفسه ضمن مشاكله ومشاغله الخاصة. وبالتالي ساهم في صنع الإمكانية المتجددة لإبداع قيم الاعتدال.

احتوت هذه الظاهرة في أعماقها أيضا على إمكانية تحّجر الاعتدال وتمذهبه في العقائد. فبالقدر الذي كانت ثنائيات الكلّ الإسلامي تفعل على نسج منظومات الفكر وتقييد "خروجها" عن صراط الجماعة (أو التقاليد التاريخية والروحية للأمة) من خلال إدانة التهور العملي وإنكار قيمة المبادئ الجزئية أيا كانت فضيلتها، فإن خطورتها كانت تقوم في إمكانية دمج هذه الثنائيات في قواعد العقائد لا في تحريرها الدائم من ثقل المذهبية - الفرقية.

إن الخطورة تكمن في إمكانية تحويل الاعتدال إلى قواعد العقيدة لا إلى روحه. وهو أمر كان يعيق إمكانية التوليف المجدد للاجتهاد وللإجماع في الاجتهاد.  فمعادلة الإجماع والاجتهاد في مضمونها الثقافي هي الصيغة الأوسع شمولا لفاعلية المرجعيات الفكرية والروحية الكبرى للإسلام، التي تعكس في استتبابها المنطقي (والشكلي أيضا) الإدراك النظري والعملي لمعنى الحدود الثقافية. لذلك لم يؤد الانهماك المتزايد في تنظير الاعتدال إلا إلى تحجرّه. وبالتالي إعاقة إدراك الحقيقة القائلة بان الاعتدال هو "تثوير حق"، و"منطق خالص"، و"خير أسمى" وليس مجرد قواعد في عقيدة. وحالما جرى وعي مبادئ الإسلام الكبرى وثنائياته الفكرية والروحية في مضمار العقائد الكلامية والفقهية، فأنها أدت بالضرورة إلى تزايد تقنينها وتحجرّها في العرف المذهبي وتقاليد الإجماع الفرقي. وأدت بالنتيجة إلى أن يسيطر في ورعها سوط القانون، وفي رؤيتها السياسية أولوية الضرورة المستحسنة، وفي فكرها مفارقات السفسطة ومنطق الجدل المذهبي الضيق. وتجسّد ذلك بصورة نموذجية في الاشعرية عبر اعتدالها المحافظ في ردها "التاريخي" على "تطرّف" المعتزلة العقلي، وعبر توفيقيتها السلفية ومشروعها الثقافي للأصالة الإسلامية. وليس مصادفة أيضا أن تتعرض إلى ردود تاريخية من الباطنية بمختلف تياراتها، وردود ثقافية من جانب الفلسفة.

فقد كان البديل الفكري العملي للباطنية، كما هو الحال عند أخوان الصفا، الرد التاريخي على الصيغة اللاهوتية المقننة للعقائد. ولكنه رد لم يستطع تجاوز الظاهرية وتوظيفها في نظام مقبول ومعقول للأمة، يستند ويعمل بوحي تقاليدها الخاصة عن وحدة العقل والشرع، والمعقول والمنقول، ولا نفيها الكامل في "باطنية الحق"، كما هو الحال عند المتصوفة. من هنا تراوح الأخوان في الكلّ الثقافي لعالم الإسلام. ومع ذلك استطاعوا في تراوحهم بين الظاهرية والباطنية تجاوز جزئية الثنائية التقليدية للعقل والشرع من خلال إدراجها في رؤية منظومية للبديل الفكري - العملي.

أبقى إخوان الصفا على وحدة العقل والشرع من خلال إدراجها في وحدة الفلسفة والشريعة باعتبارها الصيغة الشاملة والتامةّ لجمع الأمة وتوحيدها الجديد. إذ وجدوا في هذه الوحدة العقلية الأخلاقية المرنة أسلوبا لاستعادة حقيقة التوحيد ونبذ الخلاف المذهبي والسياسي. لهذا تناولوا بالشرح والتعليق أسباب الخلافات بشكل عام ونماذجها الكبرى الملموسة في عصرهم بشكل خاص. فتكلموا عن أسباب الاختلاف، والمختلف فيها، ومستويات الاختلاف. وارجعوا سبب اختلاف البشر إلى كل من تركيب البدن (مزاجه وأخلاطه) والطبيعة والمناخ المحيطين بهم من تراب البلد وتغير أهويته والأزمان التي تنشأ فيه، والعادات والتقاليد والأديان، وكذلك إلى أشكال الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم. وهي أسباب تشكل المقدمة الطبيعية والتاريخية للرؤية الثقافية لا لحقائق الأشياء كما هي. فهي تحدد طبيعة الاختلاف لا نوعيته المعرفية. إذ لنوعية المعرفة قوامها الذاتي في مستويات المعرفة نفسها من الحسيات والمعقولات والإلهيات[i]. إما تنوعها الكمي فيعود، حسب نظر الأخوان، إلى دقة المعاني ولطافتها وخفائها، وإلى تباين فنون الطرق المؤدية إليها، وإلى تفاوت قوى النفس المدركة، أي إلى كل من موضوع المعرفة وأساليبها ومستوى تطورها بذاتها وبقواها(نفوسها)[ii]. وإذا كان موضوع المعرفة يعكس إشكاليات المحسوس والمعقول، فان الخلافات المترتبة على مستوى تطور المعرفة تنبع من تفاوت قوى النفس المدركة وهي الحواس الخمس، والقوة المتخيلة والمفكرة والحافظة. فتفاوت إدراك الحواس الخمس لا يستتبع اختلافها في ذواتها، ولكن في اختلاف أحوالها في إدراكها صور المعلومات. أما علة ذلك فتقوم في اختلاف إدراكها في الجودة والرداءة. فكل حاسة من الحواس الخمس تحتاج في إدراك محسوساته إلى شروط معدودة لا زائدة ولا ناقصة. وأن نقص بعض منها كزيادتها يؤدي إلى إعاقة المعرفة الصحيحة. فالقوة الباصرة، على سبيل المثال، تحتاج في إدراكها المبصرات إلى قدر معين من الضوء والبعد والمحاذاة والوضع. وينطبق هذا بدوره على قوى الحواس الأخرى. ذلك يعني أن لكل حاسة محسوسات مختصة لها بالذات ومحسوسات بالعرض. فإذا كان النور هو الشرط الذاتي(الضروري) للبصر، فإن الألوان عرضية، لأنها من توسط النور والضياء. ومن هنا إمكانية الخطأ في الألوان. وأن تغليب العرضي على الذاتي يؤدي إلى الخطأ والخلاف. وينطبق هذا على قوى النفس الأخرى كالمتخيلة والمتفكرة. فالمتخيلة لها قدرة الجمع والتركيب مما له حقيقة في الهيولي ولا حقيقة له. ولكنها  تعجز عن تخيل شئ لم تؤد إليه حاسة من الحواس. أما ضعفها فيقوم في جعلها حكم ما تتخيله حكما حقا بلا حجة ولا برهان. وفي حالة عجزها عن تصور شيء، فأنها تنكره دون دليل وبرهان[iii]. في حين تختص القوة المفكرة بالفكر والروية والتمييز والتصور والاعتبار والتركيب والتحليل والجمع والقياس البرهاني. أما اشتراكها مع القوى الأخرى فهو عرضي لها لا ذاتي.

وإذا كانت قيمة الخلافات المتعلقة بدقة ولطافة المعاني وبقوى النفس تعّبر عن أطراف المعرفة، فإن "فنون الطرق المؤدية" إليها هو الوسط الذي تنعكس فيه حقيقة الخلافات الفكرية الكبرى بسبب تمثلّه إشكالية الذاتي والعرضي في الحس والإدراك العقلي، باعتبارها إشكالية الأصل والفرع  في أساليب المعرفة نفسها. وإذا كان تركيز الأخوان منصبا على القياس، باعتباره أكثر المصادر إثارة للاختلاف في الأفكار والديانات، فلأنهم وجدوا فيه الطريق الأكبر لمعارف الإنسان وعلمه. فالقياس هو الحكم على الأمور الكليات الغائبات بصفات قد أدركت جميعها في بعض جزئياتها[iv]. وهي أنواع مختلفة بحسب أصول الصنائع والعلوم وقوانينها. إلا أن كثرتها لا تخرجها عن ثلاثة أنواع وهي ما يستعمل بالأيدي كالقبان والشاهين والمكاييل، وما يستعمل باللسان، كالعروض التي يستعملها الشعراء والخطباء والموسيقيين، وما يستعمل بالضمير من جانب الفقهاء والحكماء وغيرهم عند تفكرهم بالمعلومات المحسوسات والمشاهدات واستخراجهم الخفيات المعقولات وصحة القياسات في إدراك المبرهنات. فالقياسات إذن، هي طرقات أو مناهج إلى المعلومات وموازين يجري التحاكم إليها في طلب العدل والإنصاف والحقائق والاستواء وتجنب الزور والخطأ والظلم والجور ورفع الخلاف والمنازعة[v]. أنها تمثل في ذاتها حقائق العدل واليقين لمعرفي والاجتماعي والأخلاقي. إذ اعتبروا القياسات بحد ذاتها صادقة وقادرة على بلوغ الحقيقية لولا ما يجري فيها من الخطأ بفعل الغش والسهو والجهل واعوجاج القياس[vi]. إن الخطأ لا فيها، كما لا يعني ذلك تلقائيتها في حل الخلافات. وإذا كان الغش والسهو والجهل من تسيب النفس في الاجتماع والعلم، فإن اعوجاج القياس هو الابتعاد عن الصدق فيه، أو الابتعاد عن القياس بوصفه ميزانا صائبا للمعرفة. لذا تناولوا  بالدراسة والتحليل ما أسموه "بالاعوجاج من القياس الحق في الآراء الحكمية والاعتقادية".

لقد أرادوا القول، بان الجميع تسعى إلى إدراك الحقيقة، غير أن كلا منهم يصل إليها بما هو ميسر له في قوى نفسه. لهذا تباينت درجات الحق والحقيقة في آرائهم وأحكامهم. إنهم سعوا لتأسيس موضوعية الحقيقة في القياس وقياسها المتنوع والمختلف في الاجتهادات. لهذا نظروا إلى الاختلافات في الاعتقادات نظرتهم إلى محاولات متنوعة لإدراك حقائق الوجود وعللها. فالثنوية، على سبيل المثال، لم تعد شركا وإلحادا، بل اعتقادا ناتجا عن رؤية تعدد العلل في الوجود من  خير و شر ونور وظلام. والاختلاف في ماهية العقل هو اختلاف حول العقل المكتسب لا العقل باعتباره اشرف الموجودات. وبالتالي، فإن الاختلاف فيه ناتج عن تباين المراتب في  درجاته[vii]. وهي نظرات تعكس بما في ذلك ، توجههم الإنساني الرفيع وانفتاحهم العقلاني ومعارضتهم للاستبداد الفكري تحت أي  فكرة أو شعار كان. وهو موقف نعثر عليه أيضا في استفاضتهم عن اختلافات القياس. أنهم أسسوا لقيمة البحث عن الحقيقة. وجعلوا بالتالي من كل اقتراب او بعد عنها مجرد اجتهاد. ولم يتناولوا هذه القضية ضمن معايير المنطق الخالص فحسب، بل وربطوها بالمصالح الاجتماعية والفضائل الأخلاقية.

فعندما تناولوا مسالة الاختلاف في ماهية الهيولي، نراهم يشيرون إلى أن الاختلاف فيه يتراوح بين من يعتقد أنها أجزاء صغيرة لا تتجزأ مختلفة الكيفيات (نارية وترابية وهوائية) تشكل في اختلاطها وتألفها الكائنات من معادن ونبات وحيوان وأفلاك، ومن يرى أنها أجزاء متماثلة يسد بعضها مسد بعض، وأن تأليفها وتشكيلها واختلاطها يؤدي إلى أعراض وكيفيات وهيئات وصفات وألوان وطعوم وروائح. ومن يعتقد أن الهيولي جوهر بسيط روحاني معّرى عن جميع الكيفيات قابل لها على النظام والترتيب[viii]. وقد وجد الأخوان في هذا التسلسل المعروض للآراء درجات في الاقتراب من الحقيقة. وحاولوا تفسير أسباب الاختلاف في القياس انطلاقا من أن الرأي الأول مبني على قياسهم هيولي الصناعة من نجارة وفلاحة وموسيقى وعقاقير وأصباغ، بينما الثاني يتبع رؤيتهم اختلاف أسمائها وأفعالها كتنوع الآلات واستعمالاتها مثل السكين والمنشار وأدوات الطبخ وغيرها من الحديد. وهي خلافات استتبعت إشكالية العلة النهائية والغاية (الغائية). كما أنها ظهرت من تنوع الرؤية في استعمال القياس. فمن تأمل أفعال البشر وجد لكل فعل مقصد وغاية. ومن هنا ظهور القائل بعلة واحدة ومن قائل بتعدد العلل. واختلف من قال بعلة واحدة بين قائل بأنها إرادة الله ومشيئته ومن قائل بأنها علمه فقط. وتنوعت اختلافاتهم وتفرعت[ix]. وينطبق هذا على اختلاف الاعتقادات بماهية الخير والشر. فمن يقول بعرضيتها في العالم، ومن يقول بذاتيتها. والأوائل ينقسمون إلى من يقول بأنها قديمة وعادمة للصور والأشكال والكيفية، ومن يقول أن المقصود بالشر هو عدم الخيرات عن الهيولي ونقصانها منه. لأنه لو تركت لحالها لأدى ذلك إلى رجوعها إلى حالاتها الأولى، ومن ثم إبطال نظام العالم واضمحلال وجود الخلائق. أما قياسهم في ذلك فيعود إلى سيادة النظرة الجزئية. إذ وجدوا في الموجودات الجزئية من عالم الكون والفساد (الصيرورة والانحلال) والصناعات البشرية أشكالها ونماذجها الملموسة[x]. واختلفوا في قياساتهم لقضايا الجبر والقدر، وأحكام النجوم والوعد والوعيد والذات والصفات (الإلهية)[xi].

إن استعراض الأخوان وتحليلهم لاختلافات الفكر والاعتقادات يتضمن في أعماقه محاولة بناء نظام الشروط الضرورية للمعرفة الحقة. إذ للمعرفة الحقة، كما يقول الأخوان مقدماتها في أصول العلوم نفسها. فلكل علم وأدب وصناعة ومذهب أهلا، ولأهلها فيه أصولا فيها متفقون في أوائل عقولهم ولا يختلفون فيها. وأن كانت عند غيرهم بخلاف ذلك. وأن لتلك الأصول فروعا هم فيها مختلفون[xii].  ففي الحساب ماهية العدد وكيفية نشوئه من الواحد، وفي الهندسة المقادير والأبعاد الثلاثة وهي الخط والسطح والجسم، والطول والعرض والعمق، وفي الموسيقى معرفة النسب وفي الطبيعيات معرفة الهيولي والصورة والمكان والزمان والحركة[xiii]. لقد أراد الأخوان بناء الصيغة المثلى لحقائق المعرفة الحسية والعقلية من خلال ترتيب ما هو ذاتي وما هو عرضي في الحس والإدراك بحيث ترتقي إلى مستوى الأصل والفرع  في المنهج أو الطرق والفنون، وفي العلم (المعرفة). أنهم حالوا التأسيس للأصول الذاتية (الجوهرية) في المعرفة وأساليبها وفسحوا المجال أمام الإمكانية الدائمة للخلاف في الفروع. لقد انطلقوا من انه "ليس على العقلاء كثير عيب في مخالفة بعضهم بعضا" وانه "عسير جدا اجتماع العقلاء على رأي واحد كلهم في شيئ واحد. إنما يتفقون في الأصول ويختلفون في الفروع"[xiv]. إضافة لذلك أنهم وجدوا في الاختلاف قيمة علمية هائلة بالنسبة لتعميق وتدقيق المعرفة وشحذ العقل النظري (المنطقي) والعملي (الأخلاقي). إذ وجدوا فيه أيضا فوائدا كثيرة مثل طلب الحجة، وغوص النفوس في طلب المعاني الدقيقة، ووضع القياسات، واتساع المعارف، واليقظة الدائمة، والنقد المثير لانتباه النفس لكسب الفضيلة والصلاح[xv].

لم يكن تأسيس أصول الفكر الأعم ووضعها في إطار معقول ومقبول للجميع فعلا نظريا خالصا فحسب، بل وعمليا أخلاقيا أيضا، لأنه يهدف إلى إعادة ترسيخ  قيمة الوحدة الاجتماعية-الروحية للأمة. لهذا استعرضوا ما أسموه بالآراء الفاسدة كالقول بان العالم قديم لا صانع له ولا مدبر، والقول بان للعالم صانعين، وإنكار الثواب والعقاب، والاعتقاد بان الله هو روح القدس الذي قتلته اليهود وصلبت ناسوته، والاعتقاد بان الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين، والترخيص في الشبهات والإباحية، وإيمان القسوة القائل بان الله يعذب عبيده، والحسية المفرطة (الحشوية) واعتقاد الأمر إيمانا وإنكاره عقلا. وأكثر من ذلك الجدل المميز لمن أسموهم بعلماء السوء، أي"أولئك الذين يخوضون في المعقولات ولا يعلمون في الحسيات، ويتعاطون البراهين والقياسات ولا يحسنون الرياضيات، ويتكلمون في الإلهيات ويجهلون الطبيعيات، ويناقشون أمورا لا تفيد الدين في العلم والعمل، ولا تنتج حكمة ويضيعون الوقت في أمور لا تحدث ولا توجد ولا قيمة لها"[xvi].

إن مطابقة "الآراء الفاسدة" مع آراء أهل الغلوّ في الفرق والأديان بصدد قضايا الإلهيات والاجتماع والسياسة والأخلاق، يهدف في منظومتهم الفكرية إلى عقلنة شريعة الاعتدال. فعندما تناول الأخوان اختلافات الفكر  في العلوم الدينية والدنيوية، فأنهم أعاروا الاهتمام إلى ما في العلوم الدينية من آثار  للجدل والخلاف، بسبب تآلف واختلاط الوحدة أو الشقاق فيها. وعندما قسموها إلى علوم حكمية ونبوية، فأنهم أعاروا اهتمامهم إلى الأولى من خلال تحديدهم ماهية الدين أشاروا إلى أن الأصل فيه هو الاعتقاد في الضمير والسر، والفرع فيه وهو القول والعمل في الجهر والإعلان[xvii]. أما الاعتقاد (الأصل) فينقسم إلى ثلاثة أنواع للخاصة والعامة وللجميع. وأفضلها ما هو شامل للجميع، أي توليف الأصل والفرع  في الرؤية، أو الاعتقاد والعمل بالشكل الذي يخدم وحدة الكل الاجتماعي- الروحي للأمة. فالركن الأول من الاعتقاد هو ليس الإيمان التقليدي، بل الإيمان الذي يناسب الجميع، أي الخاصة والعامة. وقد حّده الأخوان "بالاستبصار والمشاهدة بعين البصيرة واليقين بالقلب الصافي من الشوائب للنفس الزكية التقية من الذنب، بعد تأمل شديد للمحسوسات ودقة نظر في المعقولات ودراية بالرياضيات وبحث عن القياسات كما فعلت القدماء الحكماء والموحدون الربانيون، وإقرار باللسان وإيمان بالقلب وتسليم بالقول كإقرار الأنبياء للملائكة وحيا وإنباء، أو كإقرار المؤمنين للأنبياء إيمانا وتسليما". أما الركن الثاني فهو الطاعة، أو الانقياد من المأمورين والمرءوسين للآمرين والناهيين[xviii].

وليست وحدة الاعتقاد والطاعة سوى الصيغة النظرية لوحدة ما دعاه الأخوان بصفاء النفس واستقامة الطريق، باعتبارها أسلوب تجسيد البديل الفكري - العملي الذي أوجزوه في كل من ضرورة العمل بأحكام الشريعة ووصايا الأنبياء وإشارات الحكماء، وترك الخصومات والأخلاق الردية، واجتناب الآراء الفاسدة، وتعلم العلم الحكمي والشرعي والرياضي والطبيعي والإلهي[xix]. ووضعوا في صفاء النفس الرجوع إلى جوهرها الأول وفطرتها وروحانيتها. وانطلقوا من أن مثلها في إدراك صور الموجودات الحسية والعقلية كمثل المرآة، كلما كانت أكثر صفاء واعتدالا كلما كانت أكثر سلامة في عكس صور الموجودات، وانه لا طريق لإزالة الصدأ عنها إلا بإزالة حجاب الجهل. أما اعوجاجها فبسبب تمسكها بالآراء الفاسدة[xx]. لهذا قالوا، بان اقرب الطرقات التي لا عوائق فيها وأسلمها لبلوغ هذه الغاية هو ترك المجادلة في الإلهيات إلا بعد تصفية القلب، ثم الاعتماد على الإلهام الشخصي وتفاسير الأولياء وألسنة الحكماء[xxi].

أنهم حالوا بناء منظومة مترابطة للأصول والفروع النظرية والعملية في المحسوسات والإلهيات عبر تأسيسها المعقول في وحدة أركان الاعتقاد وتجسيدها المقبول في وحدة أساليب صفاء النفس واستقامة الطريق. ولم  يجدوا في أمرهم هذا، كما يقولون،"رأيا مستحدثا، بل هو رأي قديم قد سبق إليه الحكماء والفلاسفة الفضلاء، وهو طريق سلكه الأنبياء، ومذهب مضى عليه خلفاء الأنبياء والأئمة المهديون"[xxii]. أنهم أرادوا توحيد وتوليف الكل الثقافي الإنساني في نظام بديل عبّروا عنه رمزا في قولهم: "كنا في كهف أبينا آدم مدة من الزمان تتقلب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرق في البلاد في مملكة الناموس الأكبر وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء"[xxiii]. وهي رؤية حددت سلوكهم النظري والعملي من خلال وحدة الأصول والفروع في أركان العقيدة وأساليبها فيما أسموه بضرورة ركوب السفينة التي بناها نوح للنجاة من طوفان الطبيعة للسلام من أمواج الهيولي ورؤية ملكوت السموات كما رآها إبراهيم، وتتميم الميعاد والمجيء إلى الميقات لقضاء الأمر كما فعل موسى، والعمل لكي ينفخ الروح في الروح حتى يمكن رؤية يسوع عن ميمنة عرش الرب، والخروج عن ظلمة اهرمن لأجل رؤية اليزدان قد اشرق في فسحة افريحون، والدخول إلى هيكل عاديمون من اجل رؤية الأفلاك التي يحيكها أفلاطون، والرقود من أول ليلة القدر من اجل رؤية المعراج مع طلوع الفجر[xxiv].

إنهم أرادوا تمّثل الكل الثقافي - التاريخي من خلال تمثيلهم للبعد الروحي في التجربة الإنسانية. لهذا جعلوا من شريعة الأنبياء وسلوكهم، وعقل الحكماء وألسنتهم الوحدة الضرورية للبديل الفكري - العملي باعتباره التمثل الأصدق للاعتدال المبدع. ووجدوا في وحدة الدين والفلسفة الصيغة المناسبة لتجاوز ثنائية العقل والشرع العادية، والصيغة المثلى للأبعاد الإنسانية في منظومتهم الفكرية. إذ استجابت لمتطلبات ما أسميته بتمّثل وتمثيل الكلّ الثقافي العالمي. من هنا إشاراتهم المتكررة إلى أن استشهادهم بأقاويل الفلاسفة ووصاياهم، وأفعال الأنبياء وسنن  شرائعهم بسبب وجود "أقوام متفلسفين لا يعرفون من الفلسفة إلا أسمها، وأقوام من الشرعيين لا يعرفون من أسرار الشريعة إلا رسومها، يتصدرون ويتكلمون فيها بما لا يحسنون، ويناظرون فيمالا يدرون ويناقضون تارة الفلسفة بالشريعة، وتارة الشريعة بالفلسفة فيقعون في الحيرة والشك، فيضلّون ويضلّون"[xxv].

من المعلوم أن اشد النماذج تجانسا في تمّثل حقائق الكلّ الثقافي العالمي لابد  لها من أن تعاني صعوبات التخلّص من الوقوع في شباك الانتقائية. وبغض النظر عن أن الانتقائية تحوي في أعماقها فرضيات متنوعة، ومن ثم تساهم في رص بنيان التسامح والانفتاح والنزعة الإنسانية أو تساهم في مد قنواتها، إلا أن غاياتها المعلنة عن الاعتدال تبقى مع ذلك موضعا للشك والجدل وذلك بسبب ضعف قدرتها على تأسيس هذه الغايات بقواعد الثقافة ومنطقها. وبالتالي عجزها عن إبداع اليقين الضروري بقواعد الرؤيا المتراكمة في منطق الثقافة. وهو ضعف لازم منظومة الأخوان في تأسيسهم للاعتدال، بحيث جعل من منطقهم الانتقائي في توليف الكل الثقافي العالمي هدفا للنقد المنطقي والتجريح الأدبي. فقد وصف أبو حيان التوحيدي في إحدى "مؤانساته" رسائلهم بأنها"مليئة بكل فن بلا إشباع ولا كفاية" وبمجموعها ليست إلا "خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات". وعندما حملها إلى شيخه أبي سليمان المنطقي، ردها عليه بعد أن قرأها قائلا: تعبوا وما اغنوا، ونصبوا وما اجروا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما اطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا"[xxvi].

ومن الممكن قبول النقد الجارح في هذه العبارات والارتياح جزئيا إلى ما يرمز إليه من طابع تلفيقي وتلزيقي في فكر الأخوان. غير انه نقد شكلي مختل ثقافيا. فقد كان "التلفيق والتلزيق" تمثّلا واعيا للإبداع الإنساني، بينما وجد فيه السجستاني "المنطقي" افتقادا للمنطق. لهذا رد على دعوى الأخوان تطهير الشريعة مما أصابها من دنس الجهالات واختلاطها بالضلالات بمساعدة الفلسفة، باعتبارها هادية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، قائلا: إن ما ينوون القيام به هو مجرد ظنهم أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة وأن يضموا الشريعة  للفلسفة"[xxvii]. لقد وجد هذا النقد في توفيق الفلسفة والشريعة عند الأخوان تلفيقا أو دسا لأحدهما في الآخر. وهو نقد حاول كشف الضعف القائم في تأسيس الأخوان للوحدة المفترضة بين الحكمة والشريعة كما صاغتها تقاليد الإسلام الحقيقية عن وحدة المعقول والمنقول. فقد اعتبر السجستاني محاولاتهم بهذا الصدد فعلا شبيها بفعل أولئك الذين فزعوا إلى الفلسفة قبلهم من فرق الإسلام والأديان الأخرى. أي فعلا عاجزا عن تحقيق مقالاتهم بشواهدهم وشهادتهم، إضافة لذلك انهم لم يشتغلوا بطريقتهم ولا وجدت عندهم ما لم  يكن عند فرق الإسلام الأخرى في كتاب ربها واثر نبيها[xxviii]. وينطبق هذا أيضا على الغايات العملية للإخوان في مواقفهم من ماهية وقيمة الشريعة والفلسفة. فالشريعة حسب نظر المقدسي، وكما يوردها التوحيدي، هي طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء. والأنبياء يطيبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول المرض بالعافية فقط. أما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا[xxix]. حيث وجد التوحيدي في هذه الفكرة تناقضا وحكما لا معنى له. إذ لا معنى لوجود طبيبين واحد للمرضى وآخر للأصحاء.

كان الرد المباشر وغير المباشر على انتقائية الأخوان يهدف إلى إبراز الثغرة الحية في توليف الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين. وهي ثغرة تعمّقت في مجرى توليف الأخوان للكلّ الثقافي العالمي خارج الدراسة النقدية المباشرة  لحصيلة الثقافة الإسلامية. لهذا بقي الاعتدال في توليفهم للفلسفة والشريعة يتلألأ  في مغامرات الروح الطوباوي. أما العبارات المتناثرة والدقيقة في مظهرها مثل القول بان جمعهم بين الفلسفة والشريعة مبنيا على اعتراف الفلسفة بالشريعة وأن كانت الشريعة جاحدة لها، وأن الشريعة عامة والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة كما أن الخاصة تمامها بالعامة، وهما متطابقتان إحداهما على الأخرى،لأنها كالظهارة التي لابد لها من البطانة، وكالبطانة التي لابد  لها من الظهارة[xxx]، فقد  ظلت جزئية الطابع وسريعة الانحلال في تنوع الرسائل وموسوعيتها. لذا ظلت عاجزة عن تذليل العقبة التاريخية والثقافية بين الشريعة الإسلامية والفلسفة الإغريقية. أي أن مطابقتهم الشريعة بالظاهر وبالعامة وتجريدها عن أعماق الباطن والخاصة، ومطابقة الفلسفة بالخاصة والحكمة العقلية أدى إلى "اغتراب" بديلهم المعرفي عن حقائق الكلّ الإسلامي.

لقد لمس الأخوان عصب القضية وتحسسوا إشكالاتها الجوهرية إلا أنهم وقفوا عند حدود الرؤية الافتراضية للاعتدال. بينما ظلت محاولاتهم النظرية حلّ هذه الإشكالية وتجسيدها العملي بالصيغة التي تستجيب لتقاليد الاعتدال في تاريخ الأمة الإسلامية أسيرة التعالي المميز للروح المتثاقف. ومن هنا إبقاءهم على توازي الفلسفة والشريعة حيث اعتبروا الفلسفة برهانية ويقينية وروحانية، بينما الشريعة ظنية وتقليدية وجسمية.

إن رفع موازاة الفلسفة والشريعة نظريا إلى مصاف الثنوية الضرورية لوحدة الأمة يقابل عمليا الإبقاء على تعارضهما الثقافي. فقد شدد الأخوان على عدم تضاد  الفلسفة والشريعة. وابقوا دون وعي على ما الثقافة من اغتراب عما هو غريب على شريعتها. واستثاروا حفيظة الروح المتحزب في الكلام والفقه في تشديده على تضادهما. حيث جرى تصوير التضاد بين الفلسفة والشريعة كخط فاصل بين عالمين وكيانين، لا بين أسلوبين و"حقيقتين". وهي فجوة كان يصعب ردمها دون إزالة حوافز التضاد والتضاد نفسه من وعي البدائل الفكرية. بمعنى ضرورة إدراجهما ككيانات معقولة ومقبولة في وحدة التاريخ والثقافة الإسلاميين. وهي مهمة حاولت الفلسفة الإسلامية ابتدأ من الكندي وانتهاء بابن رشد حلها بالشكل الذي يعيد ألفة التاريخ  والثقافة الإسلامية والعالمية في منطق الحق والحقيقة. بمعنى محاولتها تذليل صفة التضاد بين الفلسفة والشريعة من خلال التأسيس لوحدتهما العضوية في الرؤية العقلانية عن المثال. واكتفي هنا بتحليل آراء ومواقف الفارابي وابن رشد. فهما يشكلان من الناحية التاريخية والفكرية مراحل البداية والنهاية في وضع وحل إشكالية الفلسفة والدين في عصور الازدهار الإسلامي.

فقد شدد الفارابي على أن غاية الفلسفة الكمال الأقصى والسعادة، وأن تاريخها ابتدأ بالكلدانيين مرورا بالمصريين وانتهاء باليونانيين ثم استكمالها وتمامها عند السريان والعرب المسلمين. انه أراد التأكيد على الفتها التاريخية - الثقافية في المنطقة، ومنطقها العام في تتبع الكمال والسعادة الإنسانية[xxxi]. لهذا لم ينهمك بالتدليل على انعدام الخلاف والتضاد بينهما، بل توجه صوب البرهنة على كونهما أسلوبين لغاية متسامية وحقيقتين لروح فعال. فالفلسفة في نهاية المطاف، ما هي إلا محاكاة للملة (الدين). وذلك لانهما يبغيان المبدأ الأول وعلم السبب الأول، ويعطيان الغاية القصوى، أو المبادئ الكبرى للوجود والمعرفة والأخلاق.غير أن ما تعطيه الفلسفة معقولا أو متصورا يعطيه الدين (الملة) متخيلا. ذلك يعني أن تباين أساليبهما لا يتعارض مع سعيهما إلى غاية واحدة. الفلسفة تبرهن والدين يقنع. الأولى هي إدراك الموجودات بصورة معقولة وبراهين يقينية، والثاني هو تخيل مثالاتها بالتصديق على الطرق الاقناعية[xxxii]. أي أن حقائقهما العقلية والخيالية باعتبارها النتاج الملازم لأسلوبيهما البرهاني والاقناعي تستمد مقوماتها من الوجود الواقعي للأشياء ومنطق العلم والفضيلة. من هنا توكيده على أن جوهر الفيلسوف والرئيس الأول وواضع النواميس واحد. لان حقيقة كل منهم تستلزم حقيقة الآخر. إذ لا معنى للحقائق النظرية المكتسبة بالعقل دون تجسيدها في ما سواه. وبما أن اكتشاف الحقائق غير ممكن دون فضيلة فكرية لذا يستحيل تجسيده دون فضيلة عملية وقواها من الإقناع والتخيل[xxxiii].

ولا يعني ذلك هرمية الاستعلاء والاستكبار المميزة لثنوية الخواص والعوام، بل التطويع الفلسفي الإسلامي النظري العملي والتاريخي الثقافي، الذي يذلل معارضتهما وتضادهما. ومن هنا استنتاجه القائل بان حصول الأشياء النظرية المبرهن عليها في العلوم النظرية بصورة خيالية في نفوس الجمهور يؤدي إلى أن يقع بها التصديق،ومن ثم حصول العمل حسب شروطها. مما يسهم في بلوغ الأشياء النظرية والعملية غاياتها. وهو الأمر الذي يجعل تسميتها عند واضع النواميس فلسفة، وعند الجمهور دينا. فهي حقيقة واحدة  تتخذ عند الجمهور هيئة الدين وعند الخواص هيئة الفلسفة. فالفلسفة هي الدين، والدين هو الفلسفة. أنهما وجوه مختلفة لحقيقة وغاية واحدة[xxxiv].

احتوت هذه الرؤية على إمكانية تثقيف العلاقة المتشنجة بين الدين والفلسفة. من خلال رفع ثنائية التضاد فيها إلى مصاف الرؤية الثقافية. وأسهمت من ثم في تذليل الأبعاد التأويلية اللاهوتية والسياسية لثنائية الظاهر والباطن وتقليديتها المذهبية الضيقة في اجترار وتكرار "المكر المتحجر" في النصوص المقدسة. لقد وضع الفارابي الدين والفلسفة في إطار الرؤية الثقافية والعقلانية الفعالة لخدمة الاعتدال الاجتماعي- الروحي للأمة.

إلا أن هذا التأسيس الثقافي العقلاني لم يتعد آنذاك غير حدود المبادئ الأولية  للرؤية المنطقية القائلة بان الفلسفة هي تصور وبرهان، والدين هو تخيل وإقناع. فقد كانت هذه الصيغة الرد المناسب والواقعي والأصيل على تقاليد معارضة أحدهما بالآخر. وهي حصيلة عمقها ابن رشد من خلال رفع التأسيس الثقافي لحقيقة الدين والفلسفة إلى مصاف الرؤية المنطقية وإدراجها في الوقت نفسه ضمن منطق الثقافة الإسلامية. وهي فكرة وضعها في أفكاره العميقة القائلة، بان من صفات الفيلسوف الحق أن  يكون صحيح الاعتقاد لآراء الملة (الدين)التي نشأ فيها، متمسكا بالأفعال الفاضلة التي في ملته ،كأن  يكون متمسكا بالفضائل المشهورة. ذلك يعني أن الفيلسوف الحق هو ذاك الذي يمثل في إبداعه وقناعاته ونفسه، ثقافة  أمته وفضائلها المتسامية أولا وقبل كل شيئ. ووضع هذه الفكرة في أساس تصنيفه وانتقاده في نفس الوقت لأنواع الفلاسفة الخارجين عن فلاسفة الحق، وهم "الفيلسوف الباطل والفيلسوف المبهرج والفيلسوف الزور".

أما ابن رشد فقد أدرج علاقة الفلسفة والدين ضمن علاقة الحكمة والشريعة. وبهذا يكون قد أدرجها في مساق اللغة المقبولة والمعقولة لتقاليد الثقافة الإسلامية. وينطبق هذا على محاولة حل هذه العلاقة ضمن تقاليد الإشكاليات الشرعية العقلية الإسلامية عن المباح والمحظور والمأمور به (المندوب أو الواجب). لهذا تسائل في بداية الأمر عما إذا كان النظر في العلوم الفلسفية والمنطق مباحا بالشرع أو محظورا، أو مأمورا به سواء على جهة الندب أو على جهة الوجوب[xxxv]. ذلك يعني انه حاول دمجهما في نسيج الرؤية الإسلامية الثقافية ومنطقها، ومن ثم إضفاء الصيغة المنطقية عليها. بمعنى دفع الحصيلة الفكرية لأراء الفارابي إلى النهاية. فهو يشير في المقدمة إلى اشتراك الحكمة والشريعة في مساعي النظر العقلي. إذ ليس فعل الفلسفة، كما يقول ابن رشد، أكثر من النظر إلى الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. فالموجودات إنما تدل على الصانع  بمعرفة صنعتها. والشريعة أيضا تحث على المعرفة بالندب والوجوب. فهناك آيات كثيرة تدل على الحث على وجوب استعمال النظر بالعقل. وإذا تقرر "أن الشرع أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا اكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي"[xxxvi]. وهو قياس (عقلي) يحدد مقاصد الحكمة والشريعة. ومن هنا استنتاجه القائل بان المقصد النهائي للشرع والحكمة هو هو نفسه. غير أن لكل منهما مستواه وخصوصيته، كما نقول بان معرفة الله والموجودات ممكنة بالبرهان والأقاويل الجدلية والخطابية. بمعنى أن كل منها داع إلى الحق ولكن بمستواه الخاص. فإذا كانت الشريعة الإسلامية داعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإن ذلك يلزم ألا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، انطلاقا من أن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له[xxxvii].

 لقد أراد ابن رشد تأسيس الرؤية الثقافية في المواقف من الحكمة (الفلسفة) بالشكل الذي يجعلها مقبولة ضمن تقاليد الإسلام نفسه. بمعنى سعيه منطقة الرؤية الثقافية من خلال إزالة التعارض الممكن بين الرؤية الإيمانية والبرهانية، بوصفه تعارضا "تأويليا" لا تعارضا ذاتيا. وهي نتيجة حاول من خلالها توسيع الأساس العقلاني للثقافة الإسلامية باعتباره الشرط الضروري لاعتدالها. وجعل من ذلك أسلوبا لتذليل المذهبية الضيقة، وتوسيع حرية الفكر، وتهشيم الانغلاق الثقافي، وتوسيع مداه الإنساني، وتذليل الخطأ والرذيلة وتقرير الحق والفضيلة. وليس مصادفة أن يعيد صياغة الحصيلة النظرية لعلاقة الحكمة والشريعة في إطار ما دعاه بتقرير ما بينهما من الاتصال، ضمن الوحدة النظرية - العملية لفكرة الحق والحقيقة، أي ضمن إطار الوحدة الجديدة للثقافة والمنطق.

فهو ينطلق من الإقرار بان مقصود الشرع هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه وبخاصة الشريفة منها ومعرفة السعادة والشقاء. أما العمل الحق فهو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة. وإذا كان تعليم العمل الحق يجري عبر العلم النفساني (الأخلاقي) والبدني (الحقوقي)، فان تعليم العلم الحق يجري من خلال التصور والتصديق. وإذا كانت طرق التصور هي تصور الشيء نفسه أو مثاله، فان طرق التصديق هي نفسها الأدلة البرهانية والجدلية والخطابية. وإذا كانت الفلسفة (الحكمة) تستلزم بالضرورة ارتقاء "خطابها" إلى درجة البرهان باستعمال الأدلة البرهانية في تعليم علومها، فان مهمة الشرع الأساسية تقوم في تعليم الجميع. لهذا وجب أن يشتمل الشرع "على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصور"[xxxviii]. وهي غاية سعى ابن رشد إلى تحقيقها من خلالها تذليل منطق الاحتواء ونفسية الاغتراب بين الحكمة والشريعة عبر إدراجهما في قوالب المنطق المتسامي للعقل. فقد اعتبر"الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، مع ما توقع  بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة"[xxxix].

سعى ابن رشد إلى مجانسة الحكمة والشريعة عبر شرعنة الفلسفة وفلسفة الشريعة وصهرهما في وحدة التجارب العلمية والعملية المتراكمة للإسلام. وهي مجانسة تضمنت في ذاتها على توليف الكل العقلاني والشرعي لعالم الإسلام  بالشكل الذي يخدم تأسيس الرؤية الثقافية والمنطقية للغاية الإنسانية الكبرى: السعادة. وهو توليف احتوى بحد ذاته على إمكانيات جديدة لعقلنة الدين وتذويبه في الانفتاح الإنساني تجاه العلم الحق والعمل الحق. ومن ثم تمّثل الإمكانيات المتنوعة والصيغ العديدة لتوليف العقل والحكمة في عقلانية حكيمة أو حكمة عقلانية. وليست هذه  بدورها في عرف الإسلام وتقاليده المتسامية سوى جمعية الروح الأخلاقي أو وحدانية المبادئ الما فوق تاريخية (الماوراطبيعية) وتمثيلها العملي المفترض في الجماعة والاعتدال. أما انكسارها الخاص في مساعي توحيد الفلسفة والدين فليس إلا الصيغة النظرية لتأسيس شرعية الجماعة والأمة بمبادئ الاعتدال العقلي. أي الصيغة المعقولة للحكمة الخالدة باعتبارها المثال المتسامي للثقافة الإسلامية. وهي آفاق سوف يشترك في تعميقها لاحقا التصوف في شخصية ابن عربي، والعلم التاريخي في شخصية ابن خلدون. بمعنى التأسيس لمطلق الرؤية الروحية - الأخلاقية والتاريخية - السياسية.

***   ***    ***

 



[i] إخوان الصفا: الرسائل ج 3 ، ص  402  .

[ii] لهذا أكدوا على أن لرجحان عقل العقلاء درجات مرتبطة بحسب"طبقاتهم" في أمور الدين والدنيا، حصروها في تسع وهي طبقات الأنبياء والعباد والحكماء والملوك والفلاحون والحرفيون والتجار والخدم والضعفاء (الرسائل ج 3 ، ص 428 ).

[iii] إخوان الصفا: الرسائل، ج3  ص416- 420 .

[iv] المصدر السابق، ج3  ص 444 .

[v] المصدر السابق، ج3  ص 447 - 448.

[vi] المصدر السابق، ج3  ص 448.

[vii] المصدر السابق، ج3  ص 467 .

[viii] المصدر السابق، ج3  ص 469.

[ix] المصدر السابق، ج3  ص 470 .

[x] المصدر السابق، ج3  ص 473 .

[xi] المصدر السابق، ج3  ص 495 - 508 ، ص 513 - 516 .

[xii] المصدر السابق، ج3  ص 432 .

[xiii] المصدر السابق، ج3  ص 432 - 436.

[xiv] المصدر السابق، ج3  ص 431.

[xv] المصدر السابق، ج3  ص 490 - 491.

[xvi] المصدر السابق، ج3  ص 523 - 537 .

[xvii] المصدر السابق، ج3  ص 451 - 452 .

[xviii] المصدر السابق، ج3  ص 452 - 453 .

[xix] المصدر السابق، ج3  ص 538 .

[xx] المصدر السابق، ج4  ص 6-7.

[xxi] المصدر السابق، ج4  ص 9 .

[xxii] المصدر السابق، ج4  ص 126 .

[xxiii] المصدر السابق، ج4  ص 18 .

[xxiv] المصدر السابق، ج4  ص 18- 19 .

[xxv] المصدر السابق، ج 4  ص 36 .

[xxvi] التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة ج2  ص 6.

[xxvii] المصدر السابق، ج 2 ص 6 .

[xxviii] المصدر السابق، ج2 ص 9 .

[xxix] المصدر السابق، ج2  ص 11 .

[xxx] المصدر السابق، ج 2 ص 16 .

[xxxi] ومع ذلك أكد الفارابي على "يونانية" الفلسفة بوصفها علما. من هنا قوله بان الفلسفة باعتبارها  الحكمة على الإطلاق والفضائل كلها وعلم العلوم (أم العلوم) أو العلم(الصناعة) الذي يستعمل العلوم (الصناعات)كلها والفضيلة التي تستعمل الفضائل كلها،والحكمة التي تستعمل الحكم كلها،فأنها يونانية الصنع (تحصيل السعادة ص 88 - 89).

[xxxii] الفارابي: تحصيل السعادة ص 90 .

[xxxiii] المصدر السابق، ص 91 .

[xxxiv] المصدر السابق، ص 94 .

[xxxv] ابن رشد: فصل المقال وتقرير فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ص 5. 

[xxxvi] المصدر السابق، ص 6. 

[xxxvii] المصدر السابق، ص 13. 

[xxxviii] المصدر السابق، ص 30 . 

[xxxix] المصدر السابق، ص 39 .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2036 الأثنين 20 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم