قضايا وآراء

الفنون التشكيلية المصرية في عصر اخناتون / زهير صاحب

وذلك بصدد البنية الشكلانية للاسلوب اللغوي، والدلالات التي تعبر عنها. فقد استعيض عن المنهج اللغوي القديم، باسلوب طريف قوامه كلمات واساليب الحديث المألوف بين عامة الناس. فقد كان الكهنوت قبل اخناتون، وفقا لآرائه المحافظة وسلفيته، يفرض على الكتاب والمفكرين، التزام المنهج اللغوي القديم، والتي اصبح من المستحيل مسايرتها للتجديدات الجديدة، حيث قاد المتحول في البنية الثقافية الى صعوبة فهمها. واصبحت نواة هذه الحركة الاصلاحية، تشييد بنية ادبية شارك فيها الشعب بنصيب موفور بدلا عن محدودية المؤلف والمتلقي، ويظهر فضل اخناتون في هذا المجال، من مقارنة بنائية اللغة في خصوصية وتفرد كلمات الاغاني الغرامية والتي تتصف بالتزمت وسلفية المرجع في عصر خفرع، لتفيض رقة وعذوبة في عصر اخناتون، فقد شرع الناس في قرض الشعر ونظم الاغاني وكتابة القصص انها البساطة حيث المعنى الحقيقي للاشياء.

ان ارادة الخلق في أي عصر من تاريخ الانسان، هي التعبير المتضايف لعلاقة الانسان بالعالم المحيط به، ذلك ان دائرة البنية الفكرية الاخناتونية المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها تعمل بها انظمة الفكر في تفاعل حيوي لما من شأنه ان يفرز انساقا ونظما تعم عالم التشكيل، ويتضح هذا المتحول ايضا في الفن المعماري، ذلك ان معابد اخناتون مكشوفة للسماء والشمس، يعم ضياء الشمس الوهاج كل ارجائها، وهي بمثابة الروح التي تبث الحياة في كل الكائنات بثا. ولم يعد المعبد في نظر اخناتون مقر الاله المشخص بتمثال يُعبد، بل بيئة مكانية يتعالق فيها الارضي والسماوي ويحل به حلولا. فكانت اضافته الى الروحانية التي هي الجوهر في هذا المعتقد، سحرا هو بمثابة الروح في الشعائر الاجتماعية . وبعد ان كان اسم (امون) يرتبط بدلالة المختبئ في معناه، وترتبط عبادته بالاسرار، ويدفع بتمثاله الى اشد الاماكن ظلمة في فضاءات المعبد. وتؤدئ طقوسه العبادية من قبل كهنة محدودين، فقد حدس (اخناتون) الصوت المهول عبر الطبيعة عبر الوضوح والحقيقة وجماهيرية العبادات، فانطباعاته لم تنبثق من مسرته في الملاحظة المباشرة والحسية للظواهر، بل كان سعيه الفكري منصبا في تكوين مضامين ذات مغزى اعمق، ذلك ان الكيان الروحي لانسان هذه الفنرة قد مر بتحول بالغ الاهمية لتكوين عالم من القيم المطلقة والباقية تعلو عالم الظواهر المتغيرة، وفي ذلك تحرر من تعسفات الواقع المعاش ونقد ينطلق من نقده للبنية المادية للوجود.

امتدت مساحة العاصمة الاخناتونية الجديدة زهاء عشرة كيلومترات طولا وحوالي الكيلومترين عرضا وحرص (اخناتون) وبنوع من انطباعية التخطيط الحضري والاقليمي الى الاكثار من الحدائق وزراعة الاشجار على جوانب الطرق، ساعيا الى تكوين منظومة من المرموزات، لقدرة القوة الكامنة في الشمس، بحيث لم يعد للطبيعة من دلالة في حيثيات الوجود بقدر ما تتحول لتعكس وضعا انسانيا. وكان قد منحها طاقة روحية عظمى وكبيرة الحيوية في شعائره الدينية. فكان تكثيفيا لفكرة الايمان بالقوى ذات القدرة المتفوقة على الطبيعة، ذلك انها في تظاهرها العيني غير مرئية، ومع ذلك فهي قوى فعالة مكتنفة بالاسرار، ولعل سر فعاليتها في تعاليها المثالي عن ارضية الانسان، ومن جهة اخرى فقد اتصل القصر بالمعبد مع حرص شديد بعدم الفصل بين العامة والخاصة، فاختلطت قصور الاغنياء بدور الاتباع واشترك الجميع في تمجيد (اتون) رمز الخلق والوجود ودفق الحياة الكامن في الموجودات والظواهر.

ولدت الافكار الاخناتونية تحولا شاملا في بنية الثقافة، بفعل الازاحة الفكرية الكبيرة التي احتلها، الامر الذي اوجد متحولا في انساق الفن وانظمة الصور في الرسم والنحت. فبدلا من البحث في صورة الملك الاله في منطقة الغيبي، اصبح حدس الفنان حرا في التعامل مع ارضية الصورة الملكية، مع انسانية الصورة، بدلا من جبروتها المتعالي، مع العاطفة والحس الانفعالي، بدلا من المذهب العقلاني الذي يقود الى المثالية التي تنشد المطلق. واذ وجد (ديلاكروا) في الحرية سعادته فالقيود لا تأتي بالابداع، فان التمرحلات التي ولدها الفكر الاخناتوني توليدا، قد ازاحت مؤقتا استعلاء الفن ليشمل كل الجماهير، نوعا من التمرحل من محدودية الكلاسيكية نحو اتساع افق الرؤية الرومانسية. فبدلا من احادية النفسير والتأويل، جاء اخناتون بحرية التأويل، فقد وصل الفن الى تمثيل نوع من الوحدة الرمزية، بين الرغبة والحقيقة، بين الحياة الحسية وحدس التعبيرية. ذلك ان الصور الاخناتونية باعتبارها انظمة شكلية. ليس لها نموذج في الوجود الشيئي، انها نماذج معدلة ترقى على المحاكاتية، فالرسم والنحت هنا، حدسي متحرر من محدودية القيود الحسية.

وحين ولدت فكرة الحداثة في تحطيم انظمة الصور الايقونية في الانطباعية والوحوشية والتعبيرية كمثال لا الحصر، بفعل حرية الذات في التعبير عن فلسفة العصر وقوانينه الفكرية. فان اخناتون قد نزل بذاته، من تعالي الميتافيزيقي الغيبي حتى لامست قدماه صعيد مصر، فازال قيود الكهنوت واسراره المصطنعة ليوسع من دائرة الاشكال المتوالدة من ذات الفنان، ويعيد صياغة الطبيعة في جوهرها وماهيتها، ويؤثر العلاقات والحوافز الشكلية في انظمة الصور، ويبشر لاول مرة في تاريخ الفن المصري، بنظام الصورة (المودليانية) وفقا لمزاجية الفنان واستثاراته الروحية، واضطرابه الفكري، هذه الحداثة الاخناتونية المبكرة، قد فسرت الوجود باعتباره امتداد لروح الفنان وسايكولوجيته، فالفنان برأي اخناتون مركز الكون والكون كله نابع منه كما رددّ (ديستوفيسكي) لاحقا (الوجود هو انا).

وحين نستقدم القديم لميول الذائقية المعاصرة او حين نقيم حوارا ساخنا وتواصلا في تحولات الاساليب الفنية عبر التاريخ، علينا اولا ان لا نحطم اسيجة البنية القديمة وانظمتها العاملة. وان نفهم الفن كونه نوعا من التمرحلات التراكمية بصدد الكيف، باعتباره يقع ضمن منطقة التجربة والنشاط الانساني، وحين نقيم هذا النوع من المفاهيمية المتعقلنة والواعية، فاننا نبغي وضع الاساليب الفنية في منطقها المحكم ضمن قوانين الفكر المعاصر، وبدون ذلك تصبح الكتابة نوعا من اللعب، الذي يبغي الانطباع، بدلا من التحليل والتركيب المعرفي للمنجزات التشكيلية، شأنها في ذلك شان المعارف الاخرى. وحيث ان اخناتون لن يفرد في منهجه الفكري تأويلا خاصا للنشاط الفني، الا اننا يمكن ان نسقط ميوله اللاهوتية، وقراءته وتحليله لنظام الوجود على انظمة الصور التشكيلية في عصره معتبرين المنجز التشكيلي، بمثابة نوع من التفاعل الجدلي، بين بنائية الفكر وما تتسم به انظمة الاشكال من علاقات، ومن جهة اخرى. فان استقصاء تحليلا تركيبا لانظمة الرسوم والنحوت من عصر اخناتون، باعتبارها نظم علاقات شكلانية، يمكن ان تضعنا ضمن المنهج او الاسلوب الذي يميز المدرسة التعبيرية في الفن الحديث.

لقد كان فن نحت التماثيل المصرية قبل عصر اخناتون، يبحث في آليات إحالة الفكرة الماورائية الى حضور مرئي، يبحث في كيفية قولبة الفكرة المعنية في قالب الخامة الفتشية، كانت الذات الجمعية تجرب وتؤول وتجتهد في مثالية الشكل حيث اللامحدود واللاتشبيهي واللاتشخيصي، تبدع صيرورة حضور الالهي بقالب الانساني، نوعا من التعالق بين الصورة الازلية بوعاء الصور الارضية الزائلة، فالنشاط الابداعي هنا محكوم بالفكرة وجوهريتها وشموليتها حيث دلالة النقاء الروحي والكوني للمطلق.

وبدراسة تحليلية تركيبية، تتوخى كشف دلالة الفكرة الكامنة في النسيج البنائي لتماثيل اخناتون، وآليات تعالق الخامة وميكانيزم احتوائها لماهية الفكرة، وما يشفر به الشكل من سمات شكلانية ودلالات تعبيرية ان فكرة التعبيرية الاخناتونية في الاساس، هي ان الفن ينبغي ان لا يتقيد بتسجيل الانطباعات المرئية، بل عليه ان يعبر عن التجارب العاطفية والقيم الروحية. ذلك انها تقوم على اعادة بناء العالم في حالته السرية الداخلية، بحيث لم يعد لطبيعة الاشياء من دلالة، الا بقدر ما تتحول لتعكس وضعا انسانيا. فالخارجي او الخاص لا يكون له من مجرد وجود، الا ان يكون تعبيرا عن الداخلي. فالصور الفنية هنا، ليست نقلا للواقع الخارجي، او تأويلا مثاليا للذات، بل هي افراغ لما في اعصاب الفنان من شحنة عاطفية متولدة عن انصهار الوجود في مخيلته، كما لو كان قطعة من ذاته، لا جزء من الواقع الموضوعي.

وبفعل الصوفية في ثقافة عصر اخناتون، ان بدت التماثيل وكأنها قادمة من كوكب اخر، فهناك قصدية واعية مستندة الى الخيال والارادة والوجدان، سعت الى تحطيم المنظومة الايقونية لنظام التماثيل الشكلي. بفعل التغلغل بما هو انفعالي، بغية كشف مشكلات الذات الانسانية. وبفعل ذلك بدى بورتريت (اخناتون) يمثل هذه الاستطالة، حيث تؤكد لوزية العينين المبالغ في امتداداتها، وامتداد الانف، ووعورة الشفتين، وتدلي الحنك . وهنا يمكن رصد نوعاً من النزعة العاطفية حلت محل المذهب العقلاني، وترجيح خطاب الذات المنفعلة على حساب الواقع. وفي ذلك نوعا من الجدلية بين الحسي والحدسي لتجاوز معايير الصورة المرئية، فالفنان هنا يؤدي على هواه لا على هوى النموذج، لوصول القيمة الروحية في سعيها نحو اللامادية، بفعل تسامي الذات نحو المثال المطلق الحدسي. ويتصل نظام الصورة باسلوبيته التعبيرية، بموديلات الرسام التعبيري (مودلياني) الايطالي الجنسية، وبصورة السيد المسيح والحواريين للرسام الالماني (نولدة). حيث كانت ذات الفنان تبدع الاشكال يمثل هذه الهلوسة الفريدة، التي تكشف اعمق الحقائق النفسية، حيث يتمثل الشكل بروح (فرويدية) وكأنها تحليل للشخصية، حيث الدخول الى الاعماق واماطة اللثام عن الكوامن المتوارية بحدسية خارقة.

وبفعل انكماش التعبير عن الحياة الداخلية، التي تتجاهل العالم الخارجي، ظهرت تماثيل (اخناتون) باكتاف ضيقة، وبطن متدلية، وساقين ظامرتين اصابها الهزال . ففي ذلك نوع من التمرحل بالشكل الواقعي، من صورته العرضية، الى شكله الجوهري الخالد. وفي ذلك كشف للمضمون الباطن للحقيقة. حيث تكتسب القصدية طاقة دفع روحية مهيمنة تستند الى مقولة الفنان، بالاهتمام بداخلية الشيء العميقة كعنصر مهيمن في نظام الشكل، لخلق اشكال بخيال يتجاوز منطق الواقع، ويحمل في بنيته العميقة، نظام ارتقاء الشكل نحو اللامحدود، في السمات الشكلية التي يبثها خطاب القشرة السطحية للتمثال. فقد اصبح الموضوع في التمثال، محض وسيلة لعلاقات شكلية وتجريدية.

وبفعل الخطاب الفكري العظيم الذي بثه (اخناتون) في العملية الابداعية في فن نحت التماثيل، باعتباره بشرا وليس الهاً، باعتباره ارضيا وليس سماويا، باعتباره مبشرا بفكرة الاله الواحد. ان بدت التعبيرية، كامنه كاسلوب في التماثيل الاخناتونية، ذلك انها تعبر قبل كل شيء عن تحسس الفنان، حتى لو كان الثمن تشويه الطبيعة والذي قد يحاذي السخرية. الا ان هذه السخرية كانت من نوع خاص، انها السخرية بالمعطيات الموضوعية وكل حيثياتها حين انتصر الذاتي على خصوصية الموضوعي، حين وجد الذاتي بنائيته باختلاق بنية عميقة، كانت معطياتها السطحية في السمات الشكلية الموضوعية، التي توحد بها اخناتون في حوار طقوسي وشعائري وروحي من نوع خاص مع الهة الواحد. بفعل صوفية الفكرة وحدس المعاناة، حتى ان تماثيله، كانت شكلانية صرفة، وكأنها نحتت من دون مادة، بفعل امتصاص الموضوعي لداخل بنية الذاتي، وتحليله وتركيبه كنظام يقود نسق الفن او نسق التشكيل، ومن ثم اخراجه بمثل هذه المدركات التي احالته الى دلالة رمزية ليس الا، بتأثر تفاعل نظم العلاقات والحوافز الشكلية الخالصة، ليجد حضوره الابدي في هيكل الفكر الديني الاخناتوني .

وبفعل التحولات الفكرية التي اصابت المضامين الكامنة في التماثيل في الصميم، فان الوعي والقصدية في آلية عمل الصورة الذهنية للفنان، كانت تنطلق مما هو داخلي واجتماعي وروحي. فمن صفات الفن، انه يحمل بداخله التوتر والتناقض، فهو لا يصدر من معاناة للواقع فحسب، بل لابد من عملية تركيب، لابد له ان يكتسب شكلا موضوعيا. فرغم ان انظمة بنية الفكر الاخناتوني قد ابدعت تجديدا مهما في الانساق الشكلية للتماثيل، الا ان هناك نوعا من التناقض يمكن رصده في انظمة العلامات الملحقة بالتماثيل، والذي يفسر نوعا من المراجعات السلفية في انظمة التماثيل الشكلية. فنظام حركة اليدين، باعتباره يدلل على نوع من الفعل الروحي، ما زالت متقاطعة امام الصدر، وهما حاملتين لرمزين قديمين، هما عصا الجبروت الملكي ومنشة طرد الارواح الشريرة . وكذلك زينت جبهة (اخناتون) رمز الافعى العظيمة، وهي رمز الحماية السماوية لشخص الملك على الارض . فبدت في انظمتها التواصلية، اشكالا طقوسية، تمتلك الوساطة بين القدرة الكلية وعامة الناس.

وتجد المعرفة الجمالية خصوصيتها في تماثيل (اخناتون)، في كيفية احالة الفكري التجريدي، الى بنائية شكلية محسوسة. وكذلك في ما يؤوله الفكر الابداعي للنظام الشكلي وبما يسمو به عن مشابهاته الايقونية، بفعل نشاط الذات المحللة والمؤولة لنظم العلاقات. ولعل في نظام اشتغال السطح الجمالي، وبما يجتازه من مناطق امتصاص وعكس الضياء، وتفاوت ملامس السطوح نوعا من تجزئة عناصر الحقيقة المرئية واعادة تركيبها، لتصعيد قوة التعبير في فعل الاحساس، بدلا من الاذعان الى ما تفرضه المراقبة البصرية. وفي ذلك تحرير بالكامل للفن من ماديته.

حين رسم (ادورد مانية) لوحته الذائعة الصيت (الغداء على العشب)، لاقى في زمانه ومكانه، رفضا كبيرا من متذوقي الفن، والسبب هو انه قدم خطابا تشكيليا انسانيا في موضوعيته، بدلا من تعالي الذات الجمعية التي وضعت الفن ضمن حدود الرأسمالية شكلا ومضمونا. هذا المثال وغيره الكثير، هو نوع من المتحولات في هيكل الصور وبنائها الشمولي، تبدعه مقولة الفنان، التي تقرر وتؤول وتفكر، لخلق اشكال بخيال يستطيع تجاوز منطق الواقع. ففي النحت على السطح ذي البعدين في عصر (اخناتون) حدث تحول خطير في بنائية الصور النحتية، فبدلا من ان تكون معمارية، اصبحت اعمالا تزيينية، وبدلا من ان تكون ملكية صرفة وظيفتها ارشفة عبادات الملوك والالهية وانتصاراتهم الحربية، غدت انسانية الطابع وبشرية النزعة، تمثل الخاص على حساب العام الملكي المحدود. وعوضا عن تقصياتها الفكرية في منطقة الميتافيزيقيا المغيبة، لتحل اللامرئي بقوالب المرئيات، بدأت تشتغل بنوع من الكشف الحدسي لكشف الحقائق الكامنة في بواطن المرئيات. فالتشكيل هنا حدسي متحرر من ضغوط القيود الحسية، وهو محمل بطاقة روحية مهيمنة، حين يزاوج بين الذاتي والخارجي، بحيث ان الخارجي او الخاص لا يكون له من مبرر وجود الا تعبيرا عن الداخلي، فهناك عالما ذاتيا ليس اقل واقعية ولا اقل حقيقة من العالم الذي يعتبره الحس المشترك عالما موضوعيا وواقعيا.

581-masr

وفي مشاهد تعبد (اخناتون) المبجل، في بؤرة الشمس الوهاجة، كان الفكر في بنائيته بين خطابا روحيا وصوفيا يتصل باعمق مناطق الروح. فالمكان وتمثيله هنا مغيب، ليس كما في الوجود المتعين، فهو فاقد لهويته الجغرافية والزمانية . فالشخصية مفرغة تماما من وجودها المادي كأيقونة معاشة، ومرّحلة بفعل ضغوط البنية العميقة، الى منطقة تتوسط الشعور واللاشعور، نوعا من الصوفية عصفت بالمتعبد السومري وحمورابي من بعده، ليجتاز حالة البشرية وصولا الى منزلة الابدية، فهناك الم ومعاناة نلمسه بين الحين والحين في الصورة، التي تخاطب الناظر طالبة ان يتعاطف مع موضوعية المشهد وضمنا مع الفنان، الذي استطاع بنوعية الوضع الحركي، ان يبث المشاعر السايكولوجية عبر كلية الهيئة الخارجي، فالشكل هنا ليس مجرد انعكاس للعالم المحيط، انه انتاج روحي، انه ابداع اظافه للوجود. وهو رغم فقدانه الارتباط بالواقع بصدد مشابهاته الطبيعية، الا انه يبقى عظيم الفاعلية في قيمه الروحية الاجتماعية .

وفي شعائر (اخناتون) وتعبده لالهة الواحد، الذي اظهر تخفيه الماورائي، بقرص الشمس رمزا وليس تجسيدا. وضع (اخناتون) ذاته، في نظام تقابل تضايفي مع زوجته المخلصة (نفرتيتي)، فالصور النحتية تظهرهما بجلسات عائلية من نوع خاص، وهما يحتفلان بمولوديهما الجديدين، بنوع من الاحالة الفكرية والتدليل الرمزي، لقدرة آلهة (اتون) في خلق البشرية ورغم من النشاط الابداعي محكوم بفعل عوامل ضاغطة بالفكر وجوهريتها وشموليتها، فان انظمة الاشكال في اسلوب التمثيل كتأويلات، كانت قراءة الفنان الذاتية، المتعالقة مع افكار (اخناتون) في الوحدانية، ذلك ان التعبيرية الاخناتونية في مشاهد النحت على السطح ذي البعدين، كانت تشتغل بآليات خلاف المرئيات المحسوسة، مستندة الى الذات الحرة والعاطفة الفردية، وبنوع من التسامي فوق مستوى الواقع، نوعا من الفن يحمل في بنائيته التوتر والتناقض. فهنا تبرز قدرة الفنان، على ادراك الداخلي، واسفاره للخارج، وفقا لالية يحتل فيها التعبير الروحي مكان الصدارة، في حين تراجع ما هو طبيعي او مادي محض لمرتبة ثانوية. وكانت هذه الشعائر الرمزية بمثابة نوع من المحرك الذي يزود ميكانزم الحياة بتيار عاطفي يسيرها، فالصلة بالعالم المنظور غير كافية لخلق نجاح الطقوس السحرية، فهي بحاجة لتتعالق مع تيار عنيف من العوامل السايكولوجية والهيجان العاطفي، لخلق صلة متممة مع العالم الروحي. فكل شيء بهذا الخصوص، يعمل استنادا الى قانون الاستعطاف فقد كان الفكر يعمل باليه، تهدف لخلق موازنة بين الاحساس الداخلي وعالم التجربة الخارجي، فتكون مهمة الفن ادراك هذه الموازنة.

وبدلا من اخفاء عملية النحت، فانهم يمسرحونها، وهذا يزيد من اغراء المرء على النظر الى الاسلوب التعبيري الاخناتوني، ضمن سياق خيالي من الزمن، فيعيد المرء رسم الصورة من جديد في عين البصيرة، وهذا البعد الزمني يحل محل البعد المكاني المألوف، الذي يتحول الى سطح غير مؤكد. فهناك مقتربات جديدة في عصر (اخناتون) تؤكد الربط بين الافكار الجديدة وانظمتها الشكلية المستحدثة. حين سيطرت على عملية النحت، نوعا من تقنية النحوت الغائرة عميقا في سطوح الارضيات، مع التأكيد المهيمن على حركة الخط في تحديد المشاهد، والذي يشفر عن نوع من التوترات السايكلوجية والدافعية الانفعالية للذات، في تخطيها الحسيات نحو عالم الحدوس الروحية وبنفس الاسلوبية التي تميز رسوم الفنان (كاكوشكا) ومعظم رسوم ما يعرف بجماعة الجسر التعبيرية، حين تكون وظيفة الشكل التأملية، ان يقدم مقتربا عقليا لتلك الدلالية الوجدانية التي تجتاز بنائية الافكار. ذلك ان طبيعة التجديد في حركة الطرز الفنية، يجب ان تكون اولا نهضة نوعية وكيفية في طريقة التفكير. ومع تخفي قوالب الاشكال عميقا في ارضياتها، كان فعل ضوء الشمس هو ان يستنظرها من الاعماق، ان يولدها من جديد بنور الحقيقة الحقة. بواسطة التضاد بين توهج الشمس التي تنير سطوح النحوت، وظلمة الخطوط والنتوءات، هذا الكيف من التفاوت في نظم العلاقات الفيزيائية التي تميز سطوح الاعمال النحتية وبما فيها من تعقيدات بنائية الملامس والصلابة والانارة، عرفها الفن الحديث كتمظهرات جمالية خالصة، في حين قدمها فن (اخناتون) كنوع من التجليات التي تعمل على تطويع المظهر الخارجي للاشكال الى بنية تعبيرية، امعانا منه في تكثيف بنية الاشكال نحو ما هو اكثر صدقا وثباتا، وبشكل يدعو الى التحرر من قيود المظهرية السطحية، سعيا منه لتحقيق وجود حقيقي وجوهري.

ان السمة الوحيدة التي تبعث على الدهشة، هي كيف ظل هذا الاسلوب، على الرغم من كل المتحولات والتجديدات، فنا ملوكيا، شعائريا، رسميا، فرغم ان الموضوعات تعبر عن عالم جديد، والوجوه تعكس روحا جديدة، وحساسية جديدة، فان وضع المواجهة، والطريقة التكميلية، والنسب التي تحدد وفقا للمكانة الاجتماعية، التي تميز الاشكال البشرية في مشاهد النحت على السطح ذي البعدين. بقيت مظاهر تميز الصور، فهنا تتحرك الاشكال في مسطحات قائمة الزوايا، حين يدير الشكل مساحة صورة باكملها نحو المشاهد، ويظهر الوجه الجانبي بعين امامية. ذلك ان الصورة تظل نتاجا لفن خاص بالسادة يقصد منه تخليد ذكرى الملك، صحيح ان (اخناتون) لم يعد يصور بوصفه الها متحررا تماما من جميع القيود الارضية، لكنه ما زال خاضعا لقواعد اللياقة الخاصة بالبلاط .

ان فحصا تحليليا تركيبيا لنظام الشكل الذي يصور الصورة الاخناتونية) سيجد ان هذه التكعيبية البيكاسوية المبكرة، تلتقي مع نظام الاشكال التي تصور (اخناتون)، فقد اعلن (بيكاسو) ان تفكيك وتركيب صورة البورتريت بمثل هذا النوع من التجريدات ومع ذلك يظل وجها. ومع اختلاف القصدية في تحطيم ايقونية الشكل، واختلاف بنية الثقافة والذائقية التي تميز عصر بيكاسو عن عصر اخناتون. فان مظاهر الاختزال والتبسيط التي تميز مثل هذه التركيبات او التاليفات الشكلانية، مردها الى ان الوعي والقصدية في آلية عمل الصور الذهنية للفنان الاخناتوني، لم تكن خوضا في تفاصيل الاشكال المرئية، بل ترجمة للمعنى ونقلا للفهم. وذلك يبرز في نظام الشكل، بتمثيل الدائم والعام والخاضع لقوانين ثابتة، وهو ذلك النظام الذي يبغي تفريد العام ليعبر عن المفاهيم المثالية السامية، وهو مفهوم يخرج بالمادي الى حيز مثالي رفيع بقوة معتقد وقوة نهوض اجتماعي. ولعل ذلك يفسر الانتقال في النظام الشكلي من صورته العرضية الى نظامه الجوهري الذي يبغي العموم بالرمز. وهكذا يكون المنجز التشكيلي الوسيط، بين التمظهرات الطبيعية وعالم الموجودات الروحية، في تفاعل جدلي بين الشيء وجوهره والشكل ومضمونه.

ان دراسة تحليلية تركيبية لنظم العلاقات التي تميز فن التصوير المصري قبل عصر (اخناتون)، ستظهر ان الفكر الكامن في بنائية مثل هذه الرسوم، كان بمثابة خطاب تبثه الرسوم نحو المطلق، بفعل ارتباط الرسوم بوظائف روحية واجتماعية، وقد امتلكت حيز الفكر الديني. فقد كان عليها اعادة تصوير العالم المرئي لخلق الصورة البديلة الازلية عنه، والتي لا تقبل التحولات في عالم خلود الروح الابدي. وهذا الفعل المتحقق في الرسوم، كان مرتبطا بفاعلية السحر التشابهي، ذلك ان وظيفة الصور هنا، هو ان تشتغل كوسيط سحري، يعمل على احلال انظمة بنية الحياة المعاشة في بنية اخرى، تتميز بصفة الثبات والخلود وعدم التحولات، وحفزت اصول الملك السماوية وقدرته الكونية وطابعه اللازمني، وبنائيته كعنصر ضاغط في نظام الصور، الى ان يجتهد الفن ليقدم معادلا لذلك المعنى اللامرئي، فقد كان نظام الصور بمثابة نوع من الصورة المعبودة. وقد شكل كل ذلك منظومة من المرجعيات والمفاهيم الضاغطة والمهيمنة التي قولبت العملية الابداعية في فن التصوير وشكلت نوعا من فكرة الايديولوجيا في انظمة حركة المضمون، مما جعل فن التصوير المصري بانساقه التصويرية، يميل الى الثبات في بنائية مضامينه وشكلانية انظمته الشكلية.

ومثلما احدث كتاب (جان جاك روسو) العقد الاجتماعي، الذي نادى بالحرية في العملية الابداعية الفنية باعتبارها ارقى القيم الانسانية، انقلابا من الكلاسيكية المقيدة للحوافز الابداعية نحو حرية تحرير الخطاب التشكيلي في الرومانسية. كذلك ولدت الديانة الاخناتونية، متحولا هاما في الاسلوبية المصرية في فن التصوير توليدا، ذلك ان فكرة التوحيد، والطابع الصوفي للعبادات، وتحرر الذات الفنية من مرجعياتها الضاغطة المهيمنة، والصدق والعاطفة العارمة. التي اتسمت بها سايكلوجية النفوس في هذا العصر العظيم. ان تحولت الاسلوبية نحو الفردي بدلا من المحدد العام، حيث شرع الفنان يدير ظهره للعالم الخارجي متجها نحو الداخل، لاقتناعه، ان في وسع التناغمات الصورية، ان تحدث تأثيرا في النفس البشرية كما تفعل الموسيقى، فقد آمن بقوة اللون والخط السايكولوجية، موازنا بين السمات الصورية والحالات العاطفية للذات، فقد صار اللون والخط وسطا للتعبير عن انفعال لا يشترط صدق المحاكاتية. ذلك ان اللوحة الاخناتونية ناتجة عن ضغط الاحاسيس المتأتية من استجابة عاطفية.

جانب الفنانون في عصر (اخناتون) النزعة المادية، ونشدوا حالة الانسان الروحية ولجأوا الى اخضاع الطبيعة، وجعلها نسخة طبق الاصل لاستجاباتهم الذاتية للعالم من حولهم. ولما كانوا يبتغون الكوني والشمولي، اكثر من اهتمامهم بالخاص والطارئ فقد سعوا الى المناهظة المقصودة للطبيعة المرئية، باستخدام اللون المشدد والشكل المبسط، فقد ابدوا اهتماما اقل بالتشبيه من اهتمامهم بالرؤية الفنية، وبذلوا جهدا فكريا تحليليا تركيبيا لاختراق الظواهر، بغية كشف عما شعروا انه يؤلف الجوهر الاساس في الاشياء، بانتهاج اساليب الاختزال والبسيط والتأويل الشكلي، بقصد اقصاء المشابهة، تجانسا مع الهاجس الانفعالي لتجسيد دلالية المفهوم لهذا الواقع الروحاني الجديد.

هذه الروح الجديدة، نجدها في تصوير حياة المستنقعات البرية، مرحة جذلة تخالف المخالفة كلها للصور الهادئة الرتيبة من العهد القديم، وتمثل ذلك ايضا في الصور الجصية التي تزين جدران وارضيات قصر (اخناتون) وغدا الناس اكثر حساسية بمظاهر الحياة، تسودهم روح مرحة هشة، حين بدت روح التأمل العميق تشغل ذهنية المتعبدين. ذلك ان الفكر الاخناتوني، قد بث الرغبة بالذات. ان تدخل سر الحياة، وان تتعقب دروب الطاقة الخلاقة في الوجود، وان تبتكر لا ابتداءا من الواقع المنظور، بل اتفاقا مع حقيقة اكثر عمقا ونوعا من البدائية التي لا تحترم قواعد الواقعية البصرية، وترتكن على العواطف والانفعالات، اكثر من ارتكانها على منطق المعرفة والعقل، عن طريق النزول الى اعماق الروح.

ويبدوا ان فكرة المركز المهيمن قد تركت اثرها في نوعية موضوعات الرسوم الجدارية الاخناتونية، فعلى احد جدران منزل العمارنة، تظهر اثنان من بنات اخناتون بنوع من الحوار الانطباعي . ويظهر ان فكرة الموضوع مشوبة هنا بالتعبير الروحي، ففي مثل هذه التكوينات الفنية، يعرض الموضوع داخل بناء حسي وشكلي وعاطفي وروحي، فيمتلك حيوية لا يملكها انموذجه في الحياة الواقعية. فرؤية مثل هذه الاشكال، ما هو الا امتلاء بعدد كبير من الاحاسيس الانسانية، وتمثيلها يوجب جمعها في شكل فني، شأنها شأن الفكرة حيث يستوعبها ويغنيها. حيث امتصت ذهنية الفنان فكرة الموضوع امتصاصا، واعادت اخراجها وفق نظام الشكل التعبيري، والذي هو انعكاس لذات الفنان الحرة الكاشفة المؤولة، بدلا من ترديد اشكالها الواقعية. فثمة حقيقة داخلية او باطنية تفصح عنها الحقيقة الظاهرة، وكان السعي منصبا في تكوين مضامين ذات مغزى اعمق، فهي تمثلات الوجود الانساني وبما يرضي حاجاته التعبيرية.

اولى الفنان انبساطية الصورة جل اهتمامه، فكل شكل له علاقة بشكل او بأخر يسطح الصورة، ويمتد اللون فوق الصورة كلها موحدا الاعلى بالاسفل والخلف بالامام، وبمستويات مسطحة غير معدلة من اللون الوهاج، فحقق معادلا بين السطح والفضاء نوع من التمثيل الانفعالي، لم ينل فيه تعالي الموضوع اهمية تذكر، ذلك ان للفتيات اشكال تجريدية، منتزعات من الزمان والمكان، الى عالم حلمي ينقل ايحاءاً بالرسوم اليابانية، وكلاسيكية تماثيل (تاناغرا) الصغيرة. ففي انظمة الصور الاخناتونية تتحد الالوان التي اضيفت من الباليت مباشرة، بالانحناءات المبسطة والمنسابة للخط، لتشكل كلاً زخرفيا يحدد قصدية الفنان من خلال التكوين، ويماثل هذا الوعي بقوة اللون العاطفية، ما نشهده في رسوم جماعة الفارس الازرق ضمن تعبيرية الفن الحديث.

واحال الفكر الاخناتوني، حوافز الطبيعة الحسية، الى مدركات ذهنية، وقولبها بأنظمة خاصة في عالم التشكيل. ذلك ان الذهنية في تحليلها وتركيبها لنظم العلاقات التي تميز المناظر الطبيعية احالت رسوم الطبيعية الى دلالات جمالية، فكما فعل الوحشيون بعد ذلك بزمن طويل، اتسمت رسوم الطبيعية الاخناتونية بالتسطيح وتحليل عناصر الحقيقة المرئية، بغية تصعيد قوة التعبير الكامن في الذات المتفلسفة، بدلا من انصياعهم الى معطيات المراقبة البصرية التقريرية. مؤكدين سيطرة الحدس على المعرفة الذهنية، واسقاط الحالة الفردية على الطبيعية والانسان. فالفن عندهم قبل ان يكون اشكالا حسية، كان اشكالا رامزة مستخلصة من الطبيعة، نوعا من اعادة صياغة الطبيعية في جوهرها وماهيتها، فهي تعود الى الواقع التشكيلي (نسق التشكيل) وليس الى الواقع المادي. فالالوان هنا لا تستثير حواس الانسان فقط، بل الولوج الى روحه.

لقد اصبحت اللوحة، نظاما بنائيا من خلال خلق العلاقات بين الاشكال والسطوح اللونية، فقد غيبوا مبدأ التظليل وتدرجات اللون وعلاقات المنظور في رسومهم. وفضلوا التحديدات الخطية والتسطيح، وصراع الالوان في امتداداتها النسبية . وحين اتصفت الصورة بالتقشف اللوني واستبعاد الالوان المتممة (المتكاملة) واختزال عدد الالوان واعتماد الاشكال والسطوح التي وضفت في اتجاهات متعددة، فأن في هذا التناظر الموسيقي من الاهمية بمكان التناغم واللحن والايقاع. فتتجلى الروح والعاطفة والفكر في كل واحد لابراز قيمتها التعبيرية، بغية الافصاح عن خطاب (اخناتون) الذي عاش ومات في محراب اله واحد.

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2036الأثنين 20 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم