تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

العرقية والطائفية – ديناصورية محدثة!

وكلاهما نتاج لانغلاق أوسع تصنعه تقاليد الاستبداد والقهر. وهي ظاهرة اقرب إلى البديهة يمكن التدليل عليها من خلال تأمل المسار التاريخي للدول والإمبراطوريات القديمة والمعاصرة. ولا يشذ التاريخ العراقي القديم والمعاصر عنها.

غير أن لكل مرحلة خصوصيتها. فإذا كان تاريخ العراق الحديث محكوما، وبالأخص بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام1958 بصعود التقاليد السياسية الراديكالية، فان نهايته المأساوية تكمن أساسا في سيطرة واستحكام التقاليد الحزبية الراديكالية الضيقة. بعبارة أخرى، إن السر الأكبر لانحطاط العراق السياسي والاجتماعي والأخلاقي المعاصر يكمن في سطوة الحزبية الضيقة.

ذلك يعني، أن السبب الجوهري الكامن وراء الانحطاط البنيوي الشامل للنظام السياسي والمدني العراقي يقوم في استفحال النظام الحزبي، والرؤية الحزبية، والسطوة الحزبية، أي تغليب الجزء على الكلّ. وقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها في ظل الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية. إذ أوصلت الجميع إلى إدراك إحدى البديهيات الكبرى للعلم السياسي والبدائل العقلانية القائلة، بان النظام الأمثل والأصلح للدولة والأمة هو النظام المدني الشرعي، أي النظام الذي يتمثل فكرة العام والكل وأولويتها في مواقفه من الدولة والمجتمع والأفراد والثقافة والقيم والحقوق. ومع أنها فكرة اقرب إلى البديهة في العالم المعاصر ومعقولة بمعايير المنطق المجرد، إلا أن التجربة العراقية الأخيرة بعد سقوط الصدامية تكشف عن أن النخب السياسية، والأحزاب منها بشكل خاص مازالت اشد تخلفا من الماضي. بمعنى أن تجربة ست سنوات ما بعد الصدامية، تشير إلى بقائها وسريانها في أنماط الرؤية الحزبية والممارسة العملية للأحزاب الكبرى والصغرى. بحيث تحولت "العملية السياسية" إلى مساومات جزئية وتافهة للمصالح الحزبية. وعوضا عن توتاليتارية مريضة واحدة نقف أمام أمراض متنوعة من الانحطاط. قد يكون أكثرها استفحالا هو صعود الحزبية الطائفية والعرقية والجهوية والفئوية.

طبعا أن هذه الأمراض ليست معزولة عن الماضي. لكن قيمة الأحزاب والنخب السياسية تقوم بالضبط في قدرتها على تجاوز وتذليل مصادر التخلف والانحطاط، وليس إعادة إنتاجها. وهو السبب القائم وراء انغلاق "العملية السياسية" ذاتها. وذلك لأنها عملية حزبية وليست سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أنها خالية من الأبعاد الاجتماعية والوطنية. وهو الدرس البليغ الذي أدركه الناخب العراقي في الانتخابات الأخيرة بصورة أوسع وأعمق وأسرع من الأحزاب "العريقة". فالعراقة لا تعني العراق بالضرورة، كما أنها قد تعني بقايا أطلال وديناصورية أوهام "كبرى". وليس مصادفة أن يهدم الناخب العراقي هذه الأطلال والأوهام في لحظة سريعة وحرجة. بحيث جرى للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث وضع النخب والأحزاب والسياسية أمام مهمة المراجعة النقدية الفعلية والوقوف الحذر والخائف أمام المجتمع. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى الانتخابات الأخيرة على أنها البروفة الأولية السياسية الأولى فعلا لصنع التاريخ السياسي للعراق الحديث.

لقد دفع الناخب العراقي مهمة تحويل الحزب السياسي التقليدي (العراقي) إلى حزب سياسي اجتماعي (وطني). وإذا كانت "ظاهرة الحبوبي" في كربلاء من بين أكثرها جلاء بهذا الصدد، فإنها مجرد إحدى المؤشرات الجلية لهذه العملية. بمعنى أنها التعبير المناسب عما يمكن دعوته بانتقال الوعي السياسي العراقي العام من الوعي المباشر إلى الوعي غير المباشر في التعامل مع الأحزاب والسلطة والمجتمع، أي الانتقال في مواقفه النقدية من الأحزاب صوب النفس.

فقد كان انتخاب الحبوبي هو الوجه الآخر وغير المباشر لانتخاب النفس في مواجهة الأحزاب. وهي فضيلة بمعايير الرؤية النقدية، ورذيلة بمعايير النظام السياسي الأمثل. فالحبوبي ليس فكرة أو منظومة أو تقاليد. وبالتالي فان تفضيل اختياره على الأحزاب يبقى في نهاية المطاف جزء من تقاليد الرفض وليس البناء. وفي هذا تكمن تناقض الفضيلة والرذيلة فيه. فهو فضيلة فيما يتعلق بالموقف النقدي والرافض للأحزاب التقليدية، ورذيلة من حيث إشارته إلى خلو العراق من أحزاب اجتماعية قادرة على اخذ زمام المبادرة من اجل بناء دولة عصرية ومجتمع مدني ونظام ديمقراطي فعلي.

أما من الناحية الموضوعية، فإننا نقف أمام ما يمكن دعوته ببداية الانقلاب في الموقف من الأحزاب التقليدية. أما المهمة اللاحقة فتقوم في تحويلها إلى مؤسسة اجتماعية سياسية وطنية بديلة. وهي الظاهرة التي يمكن تحسس معالمها الأولية في فوز المالكي. فالمالكي هو الصيغة العراقية لظاهرة الحبوبي، أي للظاهرة الاجتماعية السياسية الرافضة لتقاليد الحزبية الضيقة. وليس مصادفة أن يكون فوز المالكي قد جرى من خلال تغليب فكرة الدولة والشرعية، أي الطابع المدني وليس الحزبي. بينما تعرض أولئك الذين تمسكوا بالحزبية (الطائفية وغيرها) لهزيمة ساحقة.

كل ذلك يشير إلى حقيقة كبرى ألا وهي أن فوز الأحزاب السياسية القادم لم يعد جزء من تقاليد المؤامرة والمغامرة، بل من تقاليد الارتقاء إلى مصاف الرؤية الاجتماعية والوطنية. كما إننا نعثر فيها على التلاشي المحتوم للقوى الأشد تقليدية وانغلاقا بوصفها الموجة الأولى لانقراض ما يمكن دعوته بالقوى الديناصورية "الحديثة"، واقصد بذلك حزب آل الحكيم (بين الشيعة) والحزب الإسلامي (بين السنة) والأحزاب التقليدية (بالمعنى التقليدي) الكردية (آل برزان وعائلة الطالباني). بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ظاهرة انقراض القوى الأكثر تمثلا وغلوا بايديولوجيا الانغلاق الطائفي والعرقي. فجميعهم من صنف واحد. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم بمصيرهم الموحد أيضا. وذلك بسبب جذورهما الموحدة في الرؤية والذهنية والنفسية والأسس الاجتماعية. وإذا كانت النزعة "العرقية" من بين أشدها ثباتا ورسوخا فلأنها التعبير غير المباشر عن الأسس والمقدمات الأشد ثباتا ورسوخا للبنية التقليدية في مجال الوجود الاجتماعي والوعي. ولكل انقراض مقدماته وأطره. فالطائفية تندثر بسبب ارتقاء الوعي الثقافي والصراع الاجتماعي، بينما تندثر العرقية بسبب تعارضها مع فكرة بناء الدولة والمواطنة والشرعية. وهي الظاهرة التي يمكن رؤية ملامحها في "نزعات الموت" المتأوهة في خطاب هذه القوى الثلاث والصراع العنيف في داخلها. لكنه صراع لا يمكن توقع حلولا عقلانية فيه، بسبب طبيعته الذاتية. وذلك لان القضاء على الطائفية والعرقية يفترض الخروج عليها كليا. إنهما غير قابلان للإصلاح لأنهما لا يمتلكان منظومة حية، بل يعيشان بقوة الغريزة البدائية النابضة في نفسية وذهنية الطائفة والعرق. وكلاهما بنية تقليدية صرف.

إن البدائل الكبرى هي على الدوام تحرر من مغامرات الفردية والبنية التقليدية أيا كان شكلها ومحتواها وباعثها. أما البدائل الكبرى المتعلقة بمصير ومآل الدولة والأمة، فإنها تفترض وجود منظومة قيم ومفاهيم ومبادئ ومؤسسات عاملة وفاعلة بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية. الأمر الذي يضع مهمة إعادة النظر النقدية بتجربة سنوات ست من فكرة الدولة، والنظام السياسي، والمجتمع، والنخبة، بالشكل الذي يحررهم من ثقل وبقايا الطائفية والعرقية "المتجددة" عبر فيدرالية عرقية قبيلة، وطائفية حصص، وتقاسم غنائم حزبية، أي كل ما وجد تعبيره فيما يسمى "بالديمقراطية التوافقية" التي هي عين السعي المحموم لإضفاء الشرعية على "فيدرالية" عرقية ومحاصصة طائفية وحزبية غنائم.

***

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1060  الاربعاء 27/05/2009)

في المثقف اليوم