قضايا وآراء

حوارية الصمت .. قراءة في قصة "الانتهازي" للقاص د. قصي الشيخ عسكر / جعفر كمال

من خلال مهارات تتماهى بفنية تلبي حاجات المتلقي في تحديث السرد الاستهلالي المر، المحمول على تدويرات قصيدة النثر التي اشتهر بها حسب الشيخ جعفر، نقرأ:

"أغوصُ في توحّدي
أبحث في تشردي
عن نخلة ومسجد قديمْ
يأوي إليه مثلما العصفور
وجهيَ الضائعَ اليتيمْ
ليكتب الآن:
قوّستُ، كالفقهاء، أكتافي وقارا
وأطلتُ لحيتيَ احمرارا
وسكرتُ، والصبيانُ تضحكُ: ياخَزَعْبَل
كالطاس في طَرَقاتها والغرقى المدينه
ويدي تدقّ وتنقرُ
وأنا الصدى المتقهقرُ"

وفي هذا البعد نجد القاص يوظف نصه تعبيرا عن رؤياه الشعرية، بِطَرقات تنويعية بين البطل المحصن بالواقعية الانتهازية، وبين الرائي الذي يكشف لنا عن توليدات جانبية من مضمون محمول على النطق الارشادي، وهو يكشف عن عناصر يستلهمها من صوّر تسجيلية في ما يحيط البطل، أي إنه يمضي بالحوار الجانبي الذي يتعمد فصل البطل عن المشاركة الحياتية مع الآخرين بالمباشرة الكلامية لا بالفعل التقليدي، وفق تصوير يعمل على سياق منهج الحكواتي مبيناً ردة الفعل من الآخرين على تصرفات البطل، حيث تبدأ الحقيقة مؤلمة بواقعيتها وهو يحاول بهذا الأسلوب الابتعاد بنظرته الفاحصة عن الأدب الواقعي، مع انه قدم لقصته بأن الحكاية حدثت بالواقع، وهذا صحيح، لكن الانزياح الذي يتحدد بالجانب الدلالي حقق الموازاة التصويرية مع واقع ينحو نحو عوالم الرؤى بكل تجسيداتها، وهذا ما فعل من حلاوة الحكاية باسلوب تشويقي ممتع استباح التقليدية في أسلوبية القصة القصيرة، وتبنى تقنية حساب الحروف وفي هذا نقرأ:

"وإذا اتفق ومشى شخص من قبيلة " س " مع آخر من قبيلة " ص " فإن جبارا في البدء يهرول نحو الذي تعود أن يعطيه أكثر فيخفي قطعة النقود في جيبه ويكرع زجاجة الشراب بنفس واحد لكي لايفوته الشخص الآخر الذي أهمله أول مرة، فيرحب به مثلما رحب بالأول.

ويقع بإحراج، فيخلع طربوشه، ويحك هامته، ويضيق أجفانه،فيقول:

ماالفرق بين " س " و " ك "، هما في الحقيقة قبيلة واحدة انحدرت من " ع " و "ع " له ثلاثة أولاد " م "و " ل " و " ك "، " س " من " م " و " ص " من " ك ".

ممتعاً النص بنظرة تجديدية مطعمة بافكار تحليلية تستلهم تصورات الحدث الشعري من ارشادية المخيال النوعي، حيث أصبح الشعر أثراً ضاغطاً على البناء الداخلي الذي يجانس التدوير في معطيات التصوير الذي يشهد على أن البطل هو الفاعل الحقيقي لقيادة المتعة في ألوان الحكاية، وليس الكاتب، وكأن الكاتب هنا ناقل رمزي للأحداث، وهذا اسميه بالملقن الذاتي، الذي يقف وراء سياق الدلالات، وتبني إيماءات المعاني وذلك ببسط مفاهيمها من غير المشاهدة العلنية، وإنما بإشارات حسية توصيلية عبر هبوب بلاغي معين، وهو تجانس الشخصية مع واقع فرضه البطل بقدرته وإبداعه الدستوري الخاص به هو، لكننا نجد من خلال قدرة الكاتب على التوصيل أنه ناطق في صمته، مع أن الكاتب لم يعن بعناصر التوليف القصصي بل حيدها جانباً معتمدا على مناغاة توليفية من مجموعة خيوط طرزت المحاكاة بتقنية توصيلية ممتعة، وهذا ما نسميه بالاستمرارية الإبداعية، أي أنه خارج نطاق الشيخوخة الكتابية، ومن خلال هذه الرؤية التجديدية أكاد أزعم أن النص القصصي التراثي يكون أكثر أهمية من تلك النصوص القصصية المعمولة بأسلوبية الابتكار، مع أن التجديد التنويعي في مراعاة اللغة هو ابتكار بسياق لا يخرج عن طاعة المدرسة "القديمة" فاحلام البطل التي لا تتوقف بمتابعة تمرده وتخطيه ما يسمى بالتقاليد أصبحت له متعة يكسب منها شِبَعاً ماديا معينا، حيث نجده أي البطل أصبح رمزاً مؤثراً بالدونية والاحتيال، وفي هذا نقرأ: "كل منا يعرف أصله ويفخر به أمام الناس، أما جبار فكان ينتسب لكل العشائر .حين يبصر فردا من عشيرة " س " يهرول نحوه ويصافحه بحرارة،ويهتف : أهلا بك يا ابن عمي . أنت من عشيرتي عشيرة " س " فيمد العابر يده إلى جيبه وينقد جبارا قطعة معدنية ثم يأمر صاحب الحانوت المجاور للمركز أن يقدم له زجاجة شراب، وإن أبصر شخصا من عشيرة " ك " هرول نحوه بالطريقة نفسها واستقبله بالأحضان، وصاح كعادته : أهلا بك يابن عمي أنت من عشيرتي عشيرة " ك " .

لأنه يمثل السلطة بلباسه وسلطته وفعله، إذن فالنظام ممثلا بجبار الشرطي يمارس الاحتيال على المواطن، يسرق رغيفه وحريته وكرامته بعين ضاحكة، لأن المدخل الفلسفي القائل" الخاص جوهر العام" اراده الكاتب أن أن يصل عن طريق الرمزية المغطاة بالاشارات والتلويح المقصود، أي أنها تسير على وجهين في محاكاة الآخر، فتكون المخضب الحقيقي لتقديرات الانتماءات عند البطل، لهذ الفرد أو لتلك العشيرة، بتوظيف ناغى وقرب من أسلوب عشائري يسمى "ذب الجرش" وهو نظام استضافة عشيرة كبيرة كتميم مثلا لعشيرة صغيرة. حيث وصلت عن طريق محاكاة الواقع بانزياح توليدي ممتع في هذا السياق: "السبب نفسه جر عشيرة " ك " إلى الخروج بتظاهرة ضخمة جابت الشوارع، وحملت الأعلام،ورددت الشعارات، ثم خرجت عشيرة " ص " ورفعت الشعارات نفسها، وتبعتها عشيرة " ع " فحدث هرج وفوضى في البلد، فتوقفت الأعمال. الحوانيت أغلقت أبوابها، وانتشر المسلحون في شوارع المدينة." إذن السلطة استطاعت أن تغيب جبار حتى لا يكون معبراً عن دنائتها وفجورها، فلذلك كان موته ملبيا لأسلوبية الاضهار لشخصية معينة، ومتى انتهى العمل بها، تعمل الحكومة على اخفاء تلك الشخصية على أساس انتفاء العمل بها.

 

جعفر كمال

 

للاطلاع

الانتهازي / قصي الشيخ عسكر

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2038 الاربعاء 22 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم