قضايا وآراء

(سائق الستوته) خارطة اجتماعية بحاجة لمن يدرسها / زيد الحلي

كانت سحابة صيف مرت بسلام، فرحتُ كثيراً لقناعتي بأنه سيتحرك ضمن فضاء إبداعاته لتقديم أعمال تبقى راسخة في ذهن المشاهد ..

لن أتحدث عن عمليه السابقين في " الشرقية " وهما (حب وحرب) و(دار دور) فقد كُتب عنهما الكثير، لكني أكتب اليوم عن عمله الأخير الذي قُدم في رمضان الفائت، وأعادت عرضه قناة " الشرقية " مؤخراً ... انه مسلسل (سايق الستوته) ..

العمل برمته، بانوراما اجتماعية لواقع عراقي بأمتياز، يعيشه العراقيون من خلال أمكنته وشخوصه التي تتنازعها ارهاصات ورؤى وأحلام عديدة، تتباعد في امنياتها غير انها تلتقي في أهدافها وهي البحث عن الطمانينة والسكينة الداخلية المفقودة في ذواتهم ..

ناقش المسلسل، ماضي العراق المعاصر لاسيّما بغداد بأزقتها وشخوصها الأصيلة والهامشية، وحاضر يعكس حالة اللاإستقرار النفسي في المجتمع الذي يعيش العراقيون فيه تحت حالات السرقات والنهب والفلتان وشظف العيش، وقدم لوحات انسانية لرؤية المستقبل جسدتها أمنيات " حساني " بأمتلاك جسد رياضي، مفتول العضلات مثل أبطال العالم في الكمال الجسماني وهو الرجل القزم، و" أم حساني" الحالمة بالزواج بعد وفاة زوجها وامنية زوجة ابن "صابر" بانجاب طفل ..الخ .

لم يجلس مؤلفا المسلسل (قاسم الملاك وفلاح عبد اللطيف) ومخرجه (جمال عبد جاسم) في غرفهم، ويغمضوا عيونهم ليفكروا في كيفية حل مشاكل المجتمع بل اتجهوا بحدسهم الاجتماعي الى التفاعل مع الناس بمختلف الشرائح من خلال الإطلاع على ظروفهم وأمنياتهم، وذهبوا بعيداً في التعاطف مع المجتمع وأوساطه .. التفتوا الى ظاهرة التسوّل ومافياته، والمرضى العقليين والأنحلال الاجتماعي من خلال مشاهد محلات التجميل، وفتيات الغناء في الافراح وغنج (صفية) الباحثة عن أنوثة ضائعة و.. و

ودائما يقلب الملاك في أعماله، المعادلة على عقب من خلال سعيه التعرض لحياة الناس الذين ينتمون الى المرتبة الدنيا في المجتمع، وصياغتها في إطار فني جميل، وكأنه طفل يرسم لوحة .واتساقا مع الجو الشعبي للمسلسل، لمسنا لغة شعبية بسيطة قريبة من روحية الأحداث تنم عن قدرة كبيرة في قيادة دفة حوار الشخصيات رغم تشعبها، ووعي كبير في البناء الدرامي.

تم اختيار لغة االمسلسل ومفرداته بعناية غلبت فيها الكوميديا، فمن المعروف ان لكل مصطلح الكثير من المرادفات لكن العمل توقف عند أجملها وأكثرها تأثيراً في الإذن العراقية .. وأكد على أن يكون الحوار مبتسماً دائماً.. ومقبولاً لدى الناس، فالابتسامة تعرف طريقها إلى القلب دون إستئذان .. لقد ابتعد المسلسل عن التكلف بالحوار والتمثيل، فكان مثل نسمة باردة في قيض حرارة صيف عراقي ونجح المسلسل في ذلك.

ويبدو ان الملاك يدرك ان فكرة العمل الفني لكي تصل وتحدث تأثيرها في الآخرين لابد من مشاهد لديه الإستعداد والإسترخاء وهذا لن يحدث إلاّ بوجود فكرة قوية مركزة ومؤثرة، ولكي تكون الفكرة مؤثرة في الآخر فيجب ان تكون قوية وكثيفة، فالفكر الضعيف أو الفكرة التي نتجت من تركيز مختل، لا يمكن أن تؤثر في المجتمع.

لقد دعا المسلسل بجرأة ملحوظة، من خلال فكرته وشخصية (صابر) الى قيام وطن يتوق إلى التعافي من الجراح والوثوب الى النهوض من الكبوات تحت وطأة ضغوط مضنية مضرجة بدماء الضحايا تمثلت بالأنفجارات والألغام والكمائن والغدر بالأسلحة الكاتمة، وهذا الأمر ليس جديداً على الفنان الملاك، فهو أحد الداخلين بقوة الى عالم الممنوعات والمحظورات ومن الساعين الى تسليط الضوء على المخبوء خلف الجدران ..

ما يحسب للمسلسل انه في هذا الاتجاه سلط الضوء على ظاهرة التفكك الاسري في المجتمع وهي ظاهرة تستحق التركيز عليها لانها تسير بهذا المجتمع الى طريق مظلم .. وهذه الظاهرة تزداد إتساعاً زيادة ملحوظة جداً وبات لزاماً علينا ان نتصدى لها ونحاربها لكي نتخلص منها لانها ذات أثر سيء على المجتمع .. وانطلاقاً من مفهوم ان الأسرة هي نواة المجتمع وان المجتمع يقيّم من حيث قوته او ضعفه بمدى تماسك الاسرة ..

خصلتنان متناقضتان

 ورغم الخواص الاقتحامية والعنادية في شخصية قاسم الملاك، إلاّ انه يمتلك النقيض تماماُ، فهوطيب الى أبعد حدود الطيبة ويتأثر بأي خدش يتعرض له .. وانقل حكايتين تدللان على اصرار الملاك على السير بما يعتقده، والحكايتان غير معروفتين للقاريء، أسردهما قبل مواصلة الحديث عن (سايق الستوته) ..

 

الحكاية الاولى :

في نهاية عام 2009، حمل الى بريدي الإلكتروني رسالة حزينة من صديقي قاسم الملاك، تحدث فيها عن تجريح لشخصه وأتهامات وتشهيرغير مبرر من قبل أدارة احدى القنوات الفضائية التي تعاون معها فنياً لفترة بناء على رغبتها، وأرفق مع رسالته، عدة صورعن مراسلات متبادلة بينه وبين تلك القناة، وهي رسائل شخصية جداً تتناقض في مضمونها كلياً مع الإتهامات التي وجهت للملاك، ويبدو إنه من خلال هذه الرسالة اراد ان يؤكد لي وانا الذي أرتبطتُُ معه بصداقة منذ اربعة عقود ونيف ولا زالتُ، بأن الاتهامات التي لاكتها بعض الألسن بحقه، مغرضة، ودوافعها معلومة، إنه نقيّ كنقاء ماء ينابيع جبلية، ولاأظنه كان بحاجة لأرسال الوثائق، فأنا أعرف صدق ونبل ووفاء الملاك للمحيط الذي يعيش ضمنه . وإنه كسمك السلمون يجوب البحار والمحيطات لكنه دائماً ما يعود إلى منابعه الاصيلة مهما عاكسته التيارات والمصاعب لكي يستريح لا ليستكين او يتوقف .

 

والحكاية الثانية ..

اتذكر مرة انني نبهتُ الصديق الملاك من خشيتي عليه حين علمتُ عزمه على مشاركة الفنانة (ملايين) في عمل مسرحي استعراضي في تسعينيات القرن المنصرم، وكان بعنوان (حول العالم) .. وكان مبعث خشيتي ان ذلك العمل لا يليق به وبتاريخه الفني الطويل، وهو تاريخ مطرز بعشرات من الافلام السينمائية والمسرحية والتلفزيونية والاذاعية، غير انه لم يبال بما أشرتُ به عليه، وظهر العمل، واحتفت به الصحافة وحاز على اعجاب الجميع . . ففاز حدسه الفني وعناديته على ما كنت أخشاه !!

والصديق الملاك، بعد هذا وذاك، بعيد عن الوسط الفني الاجتماعي، وقليلة جداً مشاركاته للمجموعات الفنية في احتفال المناسبات، لكنه كان قريباً جدا من هذا الوسط من خلال تواجده في وجدانهم لاسيّما عند تسنمه مسؤولية ادارة الفرقة القومية للتمثيل، فكان خير معين وزميل للفنانين .

 

منظومة اجتماعية ..

 وعودة الى (سائق الستوته).. إنه عمل دخل في قاع المجتمع، ومن ذلك القاع قدم صوراً معاشة، غفل عنها الكثيرون ممن بيدهم الأمرمن المسؤولين وهو بذلك أسس لمنظومة قيم اجتماعية وضعها في واجهة الحياة برسم من يسعى ويرغب بالتغيير نحو الاحسن ... منظومة اجتماعية بذرتها شخوص المجتمع وسنبلتها واقعهم .. لقد أشار الملاك الى حالة التخلف التي تغلف حياتنا العامة، وتحوّل حتى الظواهر الإيجابية الى ظواهر سلبية، ويبدو ان فناننا أرتبط بعقد مع نفسه، لا أنفصام فيه، حيث أختار الطبقات المسحوقة هدفاً لأعماله..إنه يذكرنا بالعبقري شارلي شابلن عالميا، وعادل إمام عربياً .

 فالظروف المعيشية العصيبة التى لا تطيق وطأتها النماذج التي قدمها المسلسل، تزيد من شحن النفوس المقهورة والمأسورة تحت ظلم طبقات معينة من المجتمع، توقاً إلى الحرّية والفرج من الضّيق وحفّزتهم على تفجيرتطلعات تختمر في وجدانهم، عبروا عنها في حواراتهم بين بعضهم البعض .. ولو تم تشريح المسلسل، اجتماعياً، لتوصل المرء الى حقيقة مهمة وهي ان الإنسان لا يستطيع تحقيق النجاح منفرداً لذلك يحتاج إلى بناء علاقة مع مجموعةٍ من الناس تقاسمه نفس الأهداف، فالنجاح يتحقق من خلال الآخرين، ولذلك لعبت شخصية (صابر) دوراً كبيراً في تحقيق هذا الهدف، حيث يعتبر اللطف مع الآخرين واللباقة والبشاشة وفي بعض الآحايين الزجر الناعم، ضروري لكي يحقق الإنسان ما يريد ..

 

صابر يحاكي مظلوم ..

وركز المسلسل على الجانب الاقتصادي في المجتمع، بأعتباره يمثل الدور الأعظم في تشتيت جهد الإنسان وضعف قدرته على التركيز والتفكير، لاسيّما حين تعصف به الأزمات النفسية والأجتماعية أو فقدان العمل بشكل نهائي، إذا ما كان مصدر رزقه، فينعكس ذلك على حالته العامة، وينجم عن عدم قدرته على مسايرة متطلبات الحياة، وأيضا دخلا على الجانب الاجتماعي بصفته الحجر الأساس في التماسك الانساني والتفاعل بين أفراد المجتمع، فمعايير الحياة تحتم على الفرد الالتزام الكامل بها، والخروج عنها يعد خروجاً على العرف والتقاليد الاجتماعية، وناقش المسلسل موضوعة الضغوط الأسرية وما تشكله بعواملها التربوية من ضغط شديد على رب الأسرة وعلى التنشئة الأسرية.

فـ (صابر) سائق الستوته و(مظلوم) سائق " الدوبة" في مسلسل الملاك السابق " دار دور " اسمان لهما دلالاتهما لشخصيتين بسيطتين لكن بطباع وكرامة رجلين نبيلين، عاشا دقائق أحداث الحياة اليومية وما تحمله معها من ضغوط، لكنهما كانا يسايران باستمرار المواقف المختلفة في العمل أو التعاملات مع الناس أو المشكلات التي لا يجدان لها حلولاً مناسبة.


 فالمعروف ان الشخصية الإنسانية ذات خصائص يتميز بعضها عن البعض الآخر، فبعض العوامل الضاغطة تشكل عبئاً على أنماط معينة من الشخصيات، في حين تستطيع أنماط أخرى تحملها، وكان (صابر ومظلوم) يحملان شيئاً من هذا وشيئاً من ذاك !

وفي النهاية، لابد من توجيه كلمات الأعجاب لمخرج العمل الفنان المبدع جمال عبد جاسم الذي أخذنا معه في رؤية فنية جميلة لأجواء بغداد رغم ملامح الحزن الظاهر في بعض ملامح العاصمة الحبيبة، فأجاد بها رغم الحالة المعروفة، وهي حالة لا تبدو مشجعة على التصوير في فضاءآتها، لكنه وكادر العمل أتسموا بالشجاعة ونكران الذات .. وكلمات اعجاب مماثلة لسيد الكامرا التلفزيونية منذ ايام الستينيات وما بعدها والذي أختار العزلة الفنية قبل ان نشاهد عدسته وهي تختار زواياها بأقتدار عال، المصور الرائد محمد خطار، وتحية للشاعر كريم العراقي الذي شدنا في قصيدته ذات الابعاد والمضامين الانسانية المعبرة عن خلجات الناس التي رافقت المسلسل في بدايته ونهايته وبهذه المناسة أسجل شكري لصديقي قاسم الملاك لأختياره أسماء ذات ريادة فنية معروفة، لكنها غابت ولم تظهر إلاّ في أعمال بسيطة مثل الفنانين الرواد : فاضل جاسم ومحمد حسين عبد الرحيم وهدية الخالذي، ولتفجير طاقات ومواهب في ممثلين آخرين .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2041 السبت 25 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم